الكتابة الثقافية/ سعيد يقطين
عندما تساءلت: «ما جدوى الكتابة؟» كنت أرى مدينة حلب الحضارة تحترق، والعالم يتفرج، غير آبه ولا مكترث. ولم يكن المراد من السؤال سوى التعبير عن انهيار القيم على المستوى العالمي حتى أن الكتابة صارت موجهة لخدمة النعرات والأهواء والنزعات. كنت أرى العالم يتفاوض على الهدنة، وكأن كل ما يعنيه، أن تتوقف الحرب لحظة، لمد المعونة، و»لأسباب إنسانية»، لتعاود من جديد تدمير ما بقي من البلاد والعباد؟
ولقد أثارت مقالة «حلب الكحلاء» تجاوبا كبيرا من لدن القراء. كما أنها ولدت استياء لدى البعض القليل جدا منهم. فشكرا للجميع. طالبت في الكتابة أن تكون نسقية. وبعضها احتج بهذا التعبير، ليؤكد أنني لست نسقيا في معالجة هذا الموضوع. أعرف أن تنوع المنطلقات والحساسيات مبرر للاختلاف. ولذلك أستنتج أن بعض القراء يكفي أن ينظر إلى الموضوع من زاوية غير زاويتك، ليلصق بك مختلف النعوت، بل إن بعضهم، لا ينتبه إلى ما تكتب سوى إلى «كلمة» يراها تمس سويداءه في العمق، كأن تقول «الوطن العربي»، فيكيل لك السباب والشتائم، مدعيا أن ليس هناك عرب؟ وإنما هناك أجناس أخرى أرقى؟ وبعضهم له مقاصد أخرى، فيراك لمست مكمن الجرح، فيما يتعاطف معه، فيطلب منك الحديث عن آخرين؟ أي عمن يعتبرهم خصومه أو أعداءه.
يقول إ. إيكو: «إذا عدت من القمر، فاسألني عما رأيت فيه، ولا تسألني عما يوجد في مارس»؟ إذا كنت أحدثك عن الكوارث التي ألحقها الروس بحلب، فلا تسألني لم لم أحدثك عن الرباط؟ فمقتضى التحليل يقود إلى حالة أناقشها، هنا والآن، وأنا متذمر مما أقرأ وأشاهد؛ والعالم، صار الآن فقط، كله يدين وحشية ما يقوم به الروس في حلب. لقد كتبت مرارا في الموضوع، وكنت أدافع دائما عن الحق في السلام، في المنطقة العربية، وتعايش كل القوميات على قدم المساواة. منذ بدء الإعلان عن رفض الشعب للنظام السوري، كان الجميع يلوح بضرورة استبعاد أي تدخل أجنبي. لكننا رأينا حزب الله وإيران، وبعد ذلك روسيا. فلماذا نثمن هذا التدخل، وندين مشاركة القوات العربية وأمريكا وتركيا؟ كما أننا نطالب الكتابة بأن تكون نسقية، كذلك القراءة مطالبة بأن تكون نسقية. وإلا فالوقوف على «ويل للمصلين» ليس سوى تعويم وتعميم، لا يقوم به غير الذين في قلوبهم مرض، فلا يريدون أن يقرؤوا إلا ما يقتنعون أنه الصواب، وكل ما يخالفهم يجانبه. نسقية الكتابة دليل على انطلاقها من البنيات، والربط بينها من خلال الوقوف على العلاقات. يمكن أن يضطلع بهذا النوع من الكتابة الباحث والمحلل والصحافي إذا كان يتوخى المشاركة في تطوير الوعي. أما إذا كان ينطلق من أهوائه وما يريده فهو لا يختلف عمن يدافع عن الباطل غير آخذ في الاعتبار مجموع العناصر المكونة للقضية، والنظر إليها في مختلف أبعادها ومراميها.
نتحدث عن الكتابة الأدبية والعلمية والإعلامية، ولكل منها مبادئ ومقاصد. لكننا لا نتحدث عن «الكتابة الثقافية» التي تتناول قضايا حية ومتداولة، ولكن تحاول أن تُصعِّدها لتضعها في صيرورة التحول الثقافي لتطور المجتمعات، ولا تكتفي بالنظر إليها في نطاق صراع المصالح الآنية، لذلك فهي تربط المقدمات، بما يمكن أن تؤول إليه من نتائج، مع التوقف عند العوائق التي ترمي إلى إدامة الأزمة، واستفحالها رغم المصائب والنوائب التي تحلها بالمنطقة. في ضوء هذا التصور عن الكتابة الثقافية، كما أتمثلها، وأمارسها في قراءة الأحداث، وهي نفسها التي أشتغل بها في قراءة النصوص السردية، وليست الحياة سوى «قصة»، كما تقول حنا آرندت، أرى أن النظام السوري والروسي يخلطان بين الإرهاب والمعارضة. وهما في هذا مثل إسرائيل التي ترى أيَّ عملٍ مقاوم إرهابا. ولذلك فالنظام يدمر كل شيء، والروس يقصفون حتى قوافل المساعدات؟ والهمجية التي تضرب بها حلب، ليست سوى تعبير عن حقد دفين لحضارة هذه المدينة الثقافية العريقة، بل هما لا يختلفان عن الإرهابيين الذين يلحقون الدمار بالتراث الحضاري الإنساني في المنطقة؟ ولا عن أمريكا، وما فعلته في العراق؟ الروس والنظام السوري لا يريدان السلام في المنطقة، ولا يهمهما سوى التدمير، ولا يرون غضاضة في ذلك ما دام مبررهما الوحيد هو القضاء على الإرهاب؟
لا جدوى من الكتابة إذا لم تكن ضد الحرب الخرقاء التي لا يهمها سوى الدمار. ومغزى هذه الحرب ليس الإرهاب، إنه يتلخص في كلمة واحدة: «بقاء» الرئيس. ويمكن لهذه الحرب أن تنتهي، إذا لم يبق السؤال مطروحا حول «مصيره». هذا هو الجوهر الذي أدينه من خلال موقفي في كتاباتي الثقافية ضد الكتابات التي تقوم على الأهواء والنزعات والعصبيات. وما يجري في اليمن هو نفسه حول: «الرئيس المخلوع»، وقد وجد له حليفا جديدا، لا يختلف عن القاعدة؟ كل هذه الحروب ليست ضد الإرهاب. إنها ضد الشعب العربي الذي يريد الحرية. هذا ما لا يريد أن يفهمه الكثيرون من الكتبة الذين يروجون الضلالات والأوهام.
٭ كاتب مغربي
القدس العربي