صفحات الرأي

المثقف العربي… أسئلة الوقائع والوعي والخيبات/ علي حسن الفواز

 

 

إزاء ما يجري من أحداث فاجعة في وقائع حياتنا العربية، ومن حروب تتسع سرائرها كل يوم نجد أنفسنا أمام عتبات أخرى، فكيف للمثقف العربي أن يجد طريقه وسط هذه الفواجع لإتخاذ موقف ما؟ وهل سيكون هذا الموقف تعبيرا عن وعي فاعل وحقيقي بالأحداث، أمْ سيكتفي بأوهام النزوع للتمرد(الوجودي) على الذات، والتلذذ بتكريس اغتراباتها العميقة؟

هذه الاسئلة تفترض دعوة للتحفيز على النقد والمواجهة والمراجعة، وعلى اعادة ترسيم علاقة المثقف العربي- بوصفه رائيا او صانعا للرأي- بالاشياء التي تحوطه، إذ لامناص من إدراك خطورة أن يقف هذا المثقف في الظل، أو أن يكون عاطلا عن ممارسة أية وظيفة فاعلة للكشف او الاحتجاج او استعادة فعل الثورة..

ثمة من يقول الآن: إن مفهوم( ثورات الربيع العربي) خرج عن الإستعمال وفقد ضرورته وبريقه، وربما أصبح جزءا من سرديات الايديولوجيات الشعبوية وحساسياتها ومرجعياتها، او باعثا على تفقيس الكثير من الاصوليات واوهامها في التاريخ والخطاب، وثمة من يقول أيضا: إن موضعة فعل الثورة في إطارها الضيق سيكون نوعا من إعادة انتاج أكثر رعبا لمركزيات اخرى للهيمنة، او إلى مايشبه الذهاب إلى المغامرة، لاستجلاب المزيد من الضحايا كما يحدث في سوريا وفي اليمن وفي غزة التي تستباح وسط (خوف) عربي، وعطالة ثقافية ومتاهة مؤسساتية تتقزم فيها المواقف والبرامج والاستراتيجيات القومية واليسارية التي تربينا على صخبها..

هذا القول وذاك لايعني الوقوع في اليأس، والنكوص إلى مرثيات تلك الوقائع، بل أجده حافزا للتجاوز، وللنقد، وللتعبير عن ضرورة حيازة وعي حقيقي، وإرادة صُلبة بوعي المحنة، للشروع- ولو (بالمحاولة) للتخلص من فوبيا الضحية، تلك التي تلبست العقل العربي منذ هزيمة يونيو/ حزيران 1967 إلى يومنا هذا، فما يجري قد يُفقد الكثير من التوازن، وربما سيدفع البعض نحو المزيد من التورط في حروب(المحو) ومتاهة التغييب، والانخراط في استيهامات الذل والخنوع وحتى التابعية، مقابل مابات يتضخم امامنا من حركات وأدلجات وعقائد غارقة بأوهام تعويضية، ومسكونة بأشباح التاريخ والقوة، والتي اصطنعت لها مناطق مضادة للعقل والمعرفة، ووضعت كل ذاكرة التنوير والإصلاح أمام مقاربة قهرية للتحريم والتأثيم، إذ لاأفق للمواجهة، والمراجعة، وللتعبير عن إرادة للتغيير، ولإيجاد مسارات اخرى للتعاطي مع قيم الحداثة، والدولة، والهوية، ولتجاوز مابات مهيمنا من عقد الأصوليات التي اقسرت تحتها اي طريق ثقافي للديمقراطية والحرية والحوار مع الآخر..

فاجعة المواجهة وضعت العقل العربي أمام مفارقات غريبة، وأمام الكثير من العتمة، بما فيها عتمة الأسئلة، حتى تلبّس صراعنا القومي أقنعة شبحية، وراح يتدحرج باتجاه أكثر عنفا، وأكثر تجريدا، فضلا عن خروجه عن أي سياق قابل للفهم والجدل، حيث استغرقته حروب إثنية، ومتاهات غير مؤنسنة، باعثة على الخوف والريبة، فهل مايجري اليوم- فعلا- من استلابات عربية في العراق واليمن وليبيا وسوريا ومصر وتونس وحتى في لبنان هو تعبير عن أخطار مُهدِدة للتاريخ العربي ولسردياته القومية الكبرى؟

هذا السؤال/ الاستنتاج لايعني هنا محاولة لاستعادة بعض طروحات فوكوياما عن(النهايات)، بقدر ما يعني مكاشفة صريحة لما تجسده الوقائع العربية، ولما تتبدى فيها من انهيارات سريعة لم نعد نشمّ فيها أية رائحة لطروحات(الإحياء) القديمة التي تعلمنا دروسها جيدا، ولا حتى ماكان يبدو عاليا في يافطات الاحزاب القومية القديمة، حتى ان مثقفي (الثورة القدامى) من المجاهدين والآيدلوجيين فقدوا القدرة على إقامة أي ربط بين الاسباب بالنتائج، او الاستعانة بأي معطى يمكن الركون اليه لتبرير أي احساس فاجع بالهزيمة، تلك التي باتت تهددنا، وتضعنا أمام مفارقات ونقائض التشظي، ورهاب مايمكن أن يحدث من تداعيات، قد تنعكس على تغيّر معادلات الوعي بالظواهر، وبتداول مفاهيم الخطاب، وبداهات المعرفة بالارض والفكرة والامة والوجود والمصير، وحتى المعرفة بالعدو الذي تربت ذاكرتنا على تصور ملامحه ولغته وحمولاته الثقافية والسياسية وحتى الدينية..

الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الثورة وتزكية المواقف القومية، يعني الحاجة إلى موقف حقيقي، وليس إلى ردود فعل كما يجري الآن، مثلما يعني الحاجة مايشبه الصدمة التطهيرية، والذهاب إلى التخلص من رهاب الخطيئة، خطيئة قتل الاخ العربي العربي، او حتى قتل الاب الفرويدي بتوصيفه الرمزي والاخلاقي والطائفي، إذ ستكون الثورة في هذا السياق إدراكا اضطراريا للخلاص من عقدة الذنب ومن عصاب الإثم، ولإعادة وضع الوعي (الشقي) في سياق استعمالي لتجاوز عقدة الوعي المخذول، الوعي الذي كرست ظواهره وعاداته الايديولجيات الدوغمائية، والاستبدادات السلطوية والحروب الفاشلة، والهشاشات المرعبة في التنمية والتعليم والاشباع والمعرفة، مقابل صعود الفقهيات المغالية التي نزعت عن التاريخ كل قمصانه العائلية وتركت جسده الثقافي عرضة للإغتيال، وللاصابة بعدوى مصاصي الدماء، او مؤدلجي العقائد من فقهاء الظلام..

الثورة هنا ممارسة ثقافية للتأهيل العلمي، ولإعادة الثقة بانسانية الأمة، فضلا عن كونها حاجة معرفية تستشرف قوة مايمنحه الوعي من جَدّة، ومن تمكين، ومن رؤية لاستعمالات الحداثة في بناء الإنسان، والنظم والبرامج والمشاريع، وليس لصناعة (المدن المُعلبّة) التي تشبه صالات الروليت!!

الثورة لاتخرج أيضا عن كونها حاجة اخلاقية لإعادة النظر في قدرتنا للنظر في مفاهيم عروبتنا وتاريخنا وحاضرنا، والتبصّر بما يحوطنا من خيبات، والى امتلاك الوسائط في السيطرة، وفي رؤية ملامح وجِهات أعدائنا، والى التعالي في الصراحة والكشف، وفي كسر الايهام، وفي (إعادة الوعي) الفاعل والشجاع إلى مساره الاجرائي في صناعة الاسئلة…

ناقد عراقي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى