مراجعات كتب

المدارس الأجنبية وحملات التبشير في المشرق العربي العثماني/ محمد تركي الربيعو

 

 

يرى العديد من الباحثين ممن تناولوا تاريخ التعليم في الدولة العثمانية، أن المدارس الأجنبية التي تأسست في أراضي الدولة العثمانية، قد أقيمت في تلك الفترة لغايات تبشيرية، إذ كانت الجمعيات التبشيرية تتعامل مع كل مناحي الحياة، وتسعى للتوغل وإقامة النفوذ فيها، ولهذا السبب لم تتوان عن تأسيس العديد من الجمعيات والمؤسسات، لخدمة غاياتها في مد الجسور مع الأهالي المسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط. فالتعليم مجال رحب وفضاء مفتوح لنشر الأفكار، وإجراء عملية التحول الثقافي، كما أن التعليم قد يتيح إعداد نخب جديدة للمجتمع الإسلامي – كما كانت تعتقد هذه الجمعيات – وهو ما يعني التأثير في مستقبل الدولة العثمانية.

ولعل ما يلفت النظر في هذا النشاط التعليمي التبشيري، هو أن الجمعيات التي كانت تعمل في هذا السياق لم تعان من صعوبات في تأسيس مدارسها في مختلف أرجاء الدولة العثمانية، بل على العكس من ذلك، إذ كانت الامتيازات الممنوحة للدول الأجنبية تتيح لها المضي قدماً في هذا المجال. وكان بمقدورها تأسيس أي مدرسة وفي أي مكان. ولعل عدم التقييد هذا أخذ يساهم في نهاية القرن التاسع عشر في أن تنتشر المدارس الأجنبية انتشاراً كبيراً وبمستويات مختلفة، وهو الأمر الذي يشير إليه تقرير قدمه وزير المعارف في الدولة زهدي باشا إلى السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1894، إذ يشير في هذا التقرير إلى أنه من غير الممكن تقديم إحصائيات دقيقة عن المدارس والمؤسسات التبشيرية في الدولة العثمانية، بسبب التزايد المستمر في عددها.

ومع ازدياد نشاط هذه المدارس، أبدى بعض مسؤولي الدولة تخوفهم من تأثيرها على الرعايا العثمانيين، خاصة أنها كانت تنشط في أماكن لا يوجد فيها طلاب أجانب، أو طوائف غير إسلامية، بالإضافة إلى امتناعها عن تدريس اللغة العثمانية الرسمية، وطبقاً لما ورد في كتاب رفعه والي بيروت إلى الصدارة العظمى في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1894 – يأتي على ذكر مضمونه المؤرخ العراقي في الدراسات العثمانية فاضل بيات، في موسوعته المهمة حول «مؤسسات التعليم العثماني في بلاد الشام في ضوء الوثائق العثمانية»- أن أمريكا وإنكلترا وإيطاليا كانت تقدم دعماً مالياً كبيراً للمدارس التي أنشأتها في ولاية بيروت، حتى أن فرنسا كانت تخصص لها سبعين ألف فرنك من ميزانيتها السنوية، وفي سنة 1894 رفعت هذا المبلغ إلى 120 الف فرنك».

في هذه الأثناء أخذ السلطان عبد الحميد الثاني يسعى إلى التصدي لهذا النشاط الكثيف، وحاول في البداية إصدار بعض القرارات في سنة 1896، التي فُرِض بموجبها تدريس اللغة التركية في المدارس غير الإسلامية، وضرورة الحصول على موافقة رسمية من الدولة، أو الولايات قبل افتتاح هذه المدارس، خاصة أن العديد من هذه المدارس أخذت تعمل في الخفاء، أو بدون ترخيص، ولذلك ما كان من السلطان عبد الحميد سوى محاولة تقنين وضع هذه المدارس، وهو ما يسهل من مراقبتها، بالإضافة لذلك اشترط عبد الحميد توفر عدد كاف من الطلاب الأجانب، أو الطوائف غير الإسلامية كشرط ضروري لافتتاح هذه المدارس، ولكن رغم هذه القرارات، بقيت المدارس الأجنبية تتوسع ويزداد نشاطها، الأمر الذي كشف للسلطان عبد الحميد الثاني عدم دقة القرارات والتنظيمات السابقة، وأن هذا البعد الرقابي لن يفلح في وقف نشاطها، وبدلاً من ذلك أخذ يسعى إلى استخدام السلاح ذاته الذي تستخدمه الدول الأجنبية، أي العمل على زيادة عدد المدارس، والأهم من هذا الأمر رفع المستوى التعليمي لهذه المدارس، لتغدو موازية لما يقدم في المدارس الأجنبية من مواد تعليمية (حساب، النحو، اللغات)، كما أن هذه المدارس لم تقتصر على الذكور، بل شملت الإناث أيضاً، وفي هذا السياق يأتي فاضل بيات على ذكر أسماء عشرات المدارس الابتدائية والرشدية، التي بنيت للبنات في تلك الفترة، والتي كانت تقدم مواد (فن الحساب، والخياطة، وأشغال التطريز، والعلوم الدينية).

لكن بالعودة إلى المدارس الأجنبية، يذكر فاضل بيات في سياق حديثه عن هذه المدارس إلى أنها كانت تنقسم – وفقاً للبلد- الذي يدعمها إلى ست مدارس أساسية: الأولى: تتعلق بالمدارس الفرنسية، التي ارتبط تأسيسها بالنشاط التبشيري الفرنسي الذي توزع بعد الانتشار الواسع لمبشري الجزويت، الذين أوفدهم البابا إلى إسطنبول استجابة لمطالب النصارى الكاثوليك فيها في سنة 1883، فبعد وصولهم إلى المدينة أسسوا أول مدرسة فرنسية تحت اسم «القديسة بنويت» وهي ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا. ولكن مع مرور السنوات بلغ عدد هذه المؤسسات، بمقتضى معاهدة سنة 1901 (260) مدرسة، كما قفز عدد المدارس الفرنسية في سنة 1913 إلى 500.

الثانية: تتعلق بالمؤسسات التعليمية الإنكليزية، التي أخذت تتكون حين قام المبشرون الإنكليز في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، بأول فعالياتهم في الأراضي العثمانية، وقد بلغ عدد هذه المدارس، عندما تولى السلطان عبد الحميد الثاني الحكم (1876) 50 مدرسة. وقد لعبت بعض العائلات اليهودية الإنكليزية (روتشيلد، مونتفيور) جهوداً كبيرة في توسع هذه المدارس، وزيادة عددها إلى 95 مدرسة سنة 1903.

الثالثة المدارس الروسية، التي ازداد نشاطها في ظل اهتمام الروس بالأراضي الفلسطينية بعد حرب القرم (1853- 1856) التي خرجت منها الدولة العثمانية مهزومة، فأصبحت هذه الأراضي محط أنظار الحجاج والسياح والزائرين الروس. وقد توزعت المدارس الروسية في بلاد الشام، كالقدس ويافا وبيت لحم واللاذقية ودمشق وحمص، كما بلغ عددها في سنة 1902 (87 ) مدرسة، وفي سنة 1910 ارتفع العدد إلى مئة، وقد استمرت هذه المدارس بنشاطاتها حتى دخول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، فتم شمولها بقرار إلغاء مدارس الدولة المعادية، وطرد العاملين الأجانب فيها إلى خارج الدولة.

الرابعة: المدارس الإيطالية، التي أخذت تفتتح في أواخر القرن التاسع عشر، خاصة بعد أن حققت إيطاليا وحدتها في سنة 1870 وبرزت كقوة سياسية وعسكرية في أوروبا، كما أخذت تسعى لتأخذ مكانها في البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا السياق أسست إيطاليا حوالي 30 مدرسة وعدداً كبيراً من المؤسسات الخيرية، وجندت في هذا الخصوص المبشرين الكاثوليك.

الخامسة: المدارس الأمريكية، وفيها استهدف المبشرون الأمريكيون كسب أبناء المسلمين واليهود في البداية، إلا أنهم فشلوا في ذلك، ما دفعهم إلى محاولة فصل الجماعة البروتستانت داخل الكنيسة الأرمنية، وقد نجحوا في ذلك. وتعود أولى المدارس الأمريكية في المشرق العربي إلى مدينة بيروت في 8 تموز/ يوليو 1824، ثم أخذت تتوالى المدارس الأمريكية لتشمل الأرجاء المختلفة من الدولة العثمانية، ووفقاً لبعض التقارير العثمانية، فقد بلغ عدد المدارس الأمريكية غير المرخصة سنة 1903 ما يقارب الـ 279 مدرسة أمريكية.

وقد بقيت هذه المدارس تعمل في الفترة الأولى من الحرب العالمية الأولى، ولم تتدخل الدولة العثمانية في شؤونها حتى سنة 1917، إذ دخلت أمريكا الحرب إلى جانب دول الحلفاء فتعاملت الدولة العثمانية مع المدارس الأمريكية، كما تعاملت مع باقي مدارس دول الحلفاء.

السادسة: المدارس الألمانية، التي استفادت من تحسين العلاقات الألمانية العثمانية، وهو ما ساهم في تأسيس العديد منها في المراكز المهمة من الدولة العثمانية كاسطنبول، أدرنة، كوسوفا، بيروت، القدس، حلب وغيرها من المدن. وفقاً لما ورد في قائمة المؤسسات التعليمية والخيرية الألمانية، التي رُخِصت في التاريخ المذكور، فإن عدد هذه المؤسسات بلغ في هذه الفترة 53 مؤسسة منها 37 في لواء القدس.

ومن المعلومات الطريفة في سياق الحديث عن المدارس الأجنبية الإسلامية، هو ما تذكره سالنامة سوريا لسنة 1883 حول وجود مدرسة ابتدائية إيرانية للذكور في عكا، كما أننا نعثر على مدرسة جمعية الإخوة الإيرانيين (جمعية أخوات ايرانيان) في مدينة بغداد، إذ تأسست هذه المدرسة في حي الكاظمية في سنة 1913، كما أسست الجالية الإيرانية في النجف في كانون الأول/ديسمبر 1908 المدرسة العلوية في النجف، وكان طلابها خليطاً من العراقيين والفرس والهنود والأفغان، ويقوم بالتدريس فيها طلاب العلوم الدينية الذين يتلقون تعليمهم في النجف، كما نعثر على مدرسة الهنود في مدينة كربلاء، التي أنشأها الهنود في السنة الدراسية 1912- 1913 التي بلغ عدد طلابها 130 طالباً، أغلبهم من الهنود المقيمين في كربلاء، كما كان أغلب معلميها من الهنود من رعايا بريطانيين، لكنها لم تستمر طويلاً بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العظمى، مما اضطر القائمين عليها إلى إقفالها.

كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى