الموسيقى التي لا تُسْمَع/ شوقي بغدادي
أذكر في زيارة لي لمدينة مالمو في السويد أنني كنت أبدو مأخوذاً في كل مرةٍ أتجول فيها وحدي أو مع رفاق، بظاهرة غياب رجال الأمن في الطرقات التي نمر بها، ما دفعني إلى سؤال أحد مرافقي عن هذه الظاهرة، فأجابني بأن رجال الأمن لا يظهرون كثيراً هنا، وبالفعل لم أرهم إلا في سيارة خاصة بالشرطة كانت عابرة ببطء، لمحت فيها وجوهاً لشرطة نسائية ورجالية، وسمعت مرافقي وكان من المقيمين في البلد يقول لي: «هل رأيت أخيراً ما تسال عنه.. الشرطة هنا خليط من الجنسين ولا نراهم عادة إلا عابرين في سياراتهم، أما نظام السير فإن الناس وحدهم هنا هم الذين ينظمون السير من خلال تقيدهم التام بهذا النظام من دون وجود الشرطة التي لا تتدخل إلا إذا وقع حادث ما مخالف للقوانين، ونادراً ما يحدث ذلك».
كنت مأخوذا بالمنظر وبالتعليق الذي سمعته من مرافقي وأنا أقول لنفسي: يا سلام.. أي بلاد رائعة هذه! وهنا وجدتني أقارن في ذهني بين ما شهدته وسمعته وبين ما أعرفه عن بلادي حيث تكاد تصطدم برجال الأمن أو الجيش في معظم الشوارع والمنعطفات، وما أكثر المخالفات وما أغلظ الصدامات بين الناس والشرطة عندنا.
أذكر أن نقاشاً مهماً جرى بعد هذه المصادفة حول هذه الظاهرة في إحدى جلساتنا مع المقيمين العرب وبعض المعارف من المثقفين السويديين. ولعل أهم ما سمعته في هذه الجلسة هو هذا التعريف الذكي للأنظمة الحاكمة حين قال أحد المشاركين: «النظام الحاكم الأرقى كما أتصور في أي بلد من البلاد هو النظام الذي يشارك فيه الناس العاديون في الحفاظ على سلامة النظام في جميع مرافق الحياة العامة». وبهذا المعنى نفهم أن رقيّ الأنظمة عامة إنما يقاس من خلال إحساس المواطنين بعدم وجود النظام إلا في الأحداث الكبيرة، وبهذا المعنى أيضاً نفهم أن تخلف الأنظمة الحاكمة إنما يقاس من خلال شعورنا بأن النظام الذي يحكمنا يتدخل في كل الشؤون الجماعية، بل والفردية بحيث لا يترك أي فرصة للناس كي يتواصلوا مع نظام بلدهم ويساعدوه في ضبط البلد.
عادت إليّ هذه الذكريات والأفكار فجأة من خلال مشاهدة فيلم عالمي ناجح عندما خطرت على بالي وأنا أتابع العرض السينمائي أن الموسيقى التصويرية للفيلم ـ وأنا في نهاية عرضه تقريباً كأن الموسيقى التصويرية للفيلم لا أتذكر تماماً كيف كانت وكأنها لم تكن موجودة ولهذا السبب نسيتها.. لا أدري لماذا تذكرت عندئذ ما جرى معي في «مالمو»،، وهكذا بدأت أقول لنفسي لا بد أن الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم كانت مندمجة في أحداثه وكأنها جزء لا يتجزأ من الأحداث الدائرة، فاذا جرى مثلاً حدث عنيف اشتدت معه الموسيقى التصويرية، وإذا جرى حوار ذكي بين الممثلين اختفت الموسيقى كي لا تشاغب فتحجب الكلام الدائر وتغطي بالتالي على الأفكار اللماحة فيه.. وإذا انتقلت الكاميرا إلى أجـــــواء مناظــــر الطبيعة الساحرة تباطأ إيقاع الموسيقى وكأنها تذوب في المشهد كي تغدو عنصراً من عناصر المشهد الطبيعي ذاته، وليست مجرد مواقف له وهكذا.. في حين تبدو الموسيقى هذه في الأفلام الرخيصة وكأنها مرافق مزعج للمشهد لا هم له سوى الإعلان الصاخب عن حضوره ولو أدى ذلك إلى تشويه العرض كما يحدث مثلاً في بعض الأفلام العربية خلال مشهد احتضار إنسان مريض يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فإذا بالموسيقى التي ترافق المشهد توشك أن تحجب التفاصيل المؤثرة للمشهد فلا نرى كما نسمع وقِسْ على ذلك..
بلى.. النظام الحاكم الذي يتدخل في كل الشؤون العامة لغرض سلطانه عليها، هو تماماً مثل تلك الموسيقى التصويرية الرخيصة التي تشاغب على جميع مشاهد العرض السينمائي، وهو النظام الاستبدادي الذي لا يسمح للمواطنين بالمشاركة في تسيير الأمور من خلال احتكاره المطلق لأي تدخل سوى تدخله وحده في أمور الحكم وضبط النظام كما يشاء..
وهكذا يبدو أن الموسيقى التصويرية الأرقى هي الموسيقى التي ننسى وجودها تقريباً خلال العرض، كما هو النظــــام الديمقراطي، وكأن تعريف الحرية أو أحد تعــــريفاتها هو أنها المناخ الذي لا يستطيع فيه أن يتدخل «بعــــض الناس من القادرين على إفساد المناخ تاركـــين للطبيعة وحدها أن تفرض قوانينها من دون أن يتدخل البشر..
٭ كاتب سوري
القدس العربي