انطباعات سورية عن حركات ثورية في تركيا/ ياسين الحاج صالح
مما يلفت نظر مراقب سوري في الحياة العامة في تركيا أن هناك حركات ثورية، تحررية وراديكالية اجتماعيا وثقافيا وحقوقيا وسياسيا، نجت من تداعي الحركات الثورية بالتواقت مع نهاية الحرب الباردة. ليس فقط في العالم العربي لا نتبين هذا المستوى من النشاطية القوية العزم والمتعددة المستويات، لا نجد شيئاً مشابها في الغرب أيضاً. من هذه الزاوية، يبدو أن انتصار الغرب الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي في الحرب الباردة كان عامل تعقيم: ذهبت روح التغيير والتمرد الاجتماعي والسياسي مع سقوط شكل من أشكال النزعة الثورية في القرن العشرين، الشيوعية. تخلّف عنها رضا مرفّهٌ عن الذات دون طاقة تحررية كامنة، تخلّف أيضا ضرب فوقي من معاداة الامبريالية، لا يفتقر فقط إلى روح ثورية، وإنما هو بديل منحط عنها.
هناك ثلاثة ميادين لظهور الحركات الثورية في تركيا. أولاها ومن أهمها الحركة النسوية التي مرت بأطوار متنوعة، لخصتها مؤخرا شناي أوزدن، الباحثة والناشطة اليسارية التركية في محاضرة نظمها البيت الثقافي السوري في اسطنبول، «هامش». لا مجال لاستعراض هذه الأطوار هنا، لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي تخرج نساء إلى الشارع في مظاهرات، وتؤكد اليوم على استقلال النساء وملكيتهن لأجسادهن، وعلى الحرية الجنسية، وتنفتح على جيل المطالب التحررية الأحدث، الخاصة بالمثليات والمثليين وثنائيات وثنائيي الجنس والمتحولين جنسيا (LGBT) . في وجه منه يبدو تاريخ هذه الحركة تاريخ تفاعلها مع ما تعرضت له من نقد في أطوارها المختلفة، ومنها نقد من الحركة النسوية الكردية، التي أخذت على النسويات التركيات أنهن إن كن متمردات على النسوية الجمهورية التركية التي «تحرر» النساء من فوق وتنكر عليها الحق في الاستقلال السياسي وتنظيم أنفسهن، إلا أنهن مدينيات متعلمات من الطبقة الوسطى، لا يرين حال نساء الأرياف، ولا يرين ما يفعل الجيش في المناطق الكردية. وهو نقد يستعيد نقد النسوية السوداء في أمريكا للنسويات البيض، على ما قالت أوزدن.
الحركة الثورية الثانية هي الحركة الكردية، وقد كانت ناشطة اجتماعيا وحقوقيا بقدر لا يقل عن نشاطها العسكري. واستطاعت أن تتحول إلى حركة عامة في تركيا، على ما يشهد صعود «حزب الشعوب الديمقراطي» في الانتخابات الأخيرة إلى البرلمان. هنا أيضاً خروج متكرر إلى الشارع، ليس في المناطق الكردية فقط، ولكن في المدن الكبرى كذلك، وفي اسطنبول بخاصة. هناك مستوى عال من النشاطية السياسية في الوسط الكردي التركي، في بلد يتمتع بواحد من أعلى مستويات التعبئة السياسية العامة في العالم. يشارك في الانتخابات دوما أكثر من 80٪ من الناخبين الممكنين، وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة شارك نحو 87٪ منهم. في الغرب تتدنى النسبة دائما عن 60٪ . .
الحركة الثالثة هي حركات الشبيبة والطلاب الجامعيين، المشاركة بقوة في أنشطة احتجاجية متنوعة، بما في ذلك داخل الجامعات، احتجاجاً على المجلس الأعلى للتعليم الجامعي، وعلى الحكومة. في اسطنبول التي أعرف شيئا متواضعاً عن جامعاتها هناك نقاش سياسي متنوع، الجامعات غير معزولة عن المجتمع، بما في ذلك بقدر ما عن مجتمع اللاجئين السوريين الحديث الظهور.
أتكلم عن حراك ثوري في كل الحالات لأنه راديكالي من حيث التطلعات والقيم، ولأن حضوره في الفضاءات العامة متواتر وشبه يومي، رغم أنه يتعرض أحيانا إلى قمع مشتط، وأكثر من ذلك لأن له أثرا ثوريا على البنية الاجتماعية في البلد. المجتمع يتغير بفعل هذه الأنشطة وتتطور نظم القيم ومواقف السكان، والثقافة، وهو ما يبدو أنه يحفز استعدادات أكبر للتحرر الاجتماعي والثقافي والحقوقي، في الوقت الذي تتسع صفوف هذه الحركات التمردية بفعل هذه الدينامية. على سبيل المثال، بعد مظاهرات منتزه غيزي في صيف 2013 انطلقت موجة من الأنشطة الفنية والثقافية والنسوية والطلابية، يبدو أنها تذكر بصورة ما بالموجة التي انطلقت في أوروبا بعد تمردات الطلاب في عام 1968.
بالمقارنة، كانت مشكلة حركات الاعتراض في سوريا أنها وجدت نفسها منذ ثمانينيات القرن العشرين على الأقل معزولة عن البنية الاجتماعية بفعل الرقابة السياسية المشددة، فظلت راديكاليتها المحتملة غير ذات أثر عام، واتجه تركيزها بفعل التقييد السياسي إلى المسألة السياسية أساساً.
وبفعل هذه الديناميكية، تشمل النشاطية السياسية والانخراط في الشؤون العامة قطاعات المسلمين المتدينين والإسلاميين المتنوعين في تركيا، الذين ينافس نشاطهم القاعدي المجموعات الأخرى، إن لم يتفوق عليها. هناك أيضاً اتساع في مساحة انشغالات القطاعات الإسلامية والمحافظة، لتشمل أيضا قضايا المرأة وحقوق الإنسان، واعتراضها لا يتوجه إلى الجذر الكمالي للجمهورية التركية، بل كذلك إلى بطريركية القيادات الإسلامية ذاتها. وهذا الحرك أوسع من أن يختزل إلى حزب العدالة والتنمية، وغير قليل منه معارض للحزب وحكومته من مواقع أكثر ديمقراطية.
لكن يبدو أن هناك حدودا بنيوية للحراك الثوري في تركيا. أولها أنه أقل انتشارا إلى الأرياف ويغلب عليه الطابع المديني (نحو ربع السكان يعيشون في الأرياف اليوم)، مع ذلك ظهرت في بضع السنوات الأخيرة حركات ومبادرات بيئية في الأرياف، وجرى تعطيل أكثر من مشروع حكومي لأسباب بيئية. وثانيها إن الثورية التركية المعاصرة إن جاز التعبير هي ثورية الطبقة الوسطى، وبقدر أقل العمال، وأقل بكثير فقراء المدن والأرياف. وثالثها إن الحركات الثورية هذه تحفزها في معظمها الهوية، سواء النسوية منها أو الكردية أو الإسلامية، أو العلوية، ذات الحضور المميز في اليسار التقليدي التركي. ولحركات الهوية حدود معلومة، تتمثل في أن القيم التي تجاهر بها تتخلى عنها بيسر حين يخص الأمر جماعات أخرى، وقد تكرر حين تصير في موقع قوة التعديات ذاتها التي كانت تشكو منها وقت كانت في موقع ضعف.
هذه الانطباعات لا تقول «الحقيقة» عن تركيا أو عن جانب من جوانب الحياة فيها. إنها ملاحظات شخصية، لا تخلو من حسد لسوري يقيم في البلد منذ مـــا يـــقـــترب من عامين. متحسرا، يقارن هذا الوافد بلده بتركيا التي تحظى بداخل اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي واسع، الفضل فيه بقدر كبير لهذه الحركات الثورية المتنوعة.
الأتراك لا يقارنون بلدهم بسوريا.
القدس العربي