بطرس بطرس غالي: سنوات القطرس العجاف/ صبحي حديدي
بين مادّة تنشرها «نيويورك تايمز» الأمريكية، وأخرى في «لوموند» الفرنسية، حول موضوع واحد هو رثاء بطرس بطرس غالي (1922 ـ 2016)؛ يصعب أن يعثر المرء على الحدّ الأدنى من التساوي في إنصاف الرجل، مدحاً أو قدحاً. السبب الأوّل، البسيط، هو أنّ غالي كان فرنكوفياً، وتنازع على نحو أو آخر مع الولايات المتحدة خلال توليه منصب الأمين العام للأمم المتحدة، بين 1992 ـ 1996؛ وثمة، على الدوام، تلك الطبقات الخفية من المشاحنة الثقافية مع القطب الأنغلو ـ سكسوني. أما السبب الثاني فهو أنّ الرجل لم يكن فرنكوفوني اللغة والمزاج والانحياز، فحسب؛ بل ظلّ ربيب باريس منذ أن خاض الرئيس الفرنسي الراحل معركة ضغوط شرسة لإقناع واشنطن بعدم استخدام الفيتو ضدّ ترشيحه للأمانة العامة (الأمر الذي لم يمنع البيت الأبيض من تسجيل موقف، عن طريق الامتناع عن التصويت!).
وفي كتابه «طريق مصر إلى القدس: قصّة دبلوماسي عن الصراع من أجل السلام في الشرق الأوسط»، الذي صدر سنة 1997، يروي غالي أنه مُني بأقدار متتالية لم تضعه في وجه الأصوليين (كما تمنى: «في مطلع القرن أقدم متطرفون مصريون على اغتيال جدّي [رئيس وزراء مصر آنذاك] لأنه تساهل مع الاستعمار البريطاني؛ ولو أنني كنت إلى جانب السادات يوم مصرعه، لكان المنطق يقتضي أن أخرّ إلى جانبه برصاص المتطرفين أنفسهم، حتى ولو اختلفت التواريخ وتباعدت الأزمنة»)؛ بل أمام بشر أقرب إلى الأرباب وأبطال الأساطير: السادات، بوصفه فرعون مصر والعقل الوحيد البراغماتي في العالم العربي؛ أو جورج بوش الأب، وريث الملك آرثر في عصور ما بعد الحرب الباردة؛ أو مادلين أولبرايت، في هيئة ميدوزا معاصرة تحيل خصمها إلى تمثال حجري…
الثابت أنّ الرجل، مع ذلك، لم يتمكن من حيازة صورة برسيوس، البطل الإغريقي الذي أجهز على ميدوزا بالحيلة، سواء في سنوات صعوده الساداتية، أم في سنوات صعوده وأفوله في أروقة الأمم المتحدة. صورته، على العكس، بدت أقرب إلى القطرس، ذلك الطائر الجنوبي التراجيدي الذي ينهك قواه بالتحليق قريباً من البشر في عرض البحر، دون سبب مفهوم، ودون نتيجة ملموسة أيضاً. وكان الصحافي الأمريكي مايكل ليند قد اكتشف القرابة اللفظية بين القطرس Albatross والبطرس Alboutros، فاستخدم اللقب في مقالة شهيرة تتهكم على هذا الطائر الغريب، الطويل النحيل، الذي يعتمر القبعة الزرقاء، ويستخدم لغة لا تستسيغها الصقور والجوارح.
لكن فصول المذكرات تلك تقتصر على سنوات عمل غالي مع أنور السادات، وصولاً إلى زيارة الأخير إلى القدس وإلقاء الخطاب الشهير من منبر الكنيست. وبالطبع، عزاء القارئ أنّ تلك السنوات كانت حافلة، بالقياس إلى ما صنع السادات وشهدت مصر؛ أو أنها، في كل حال، لم تكن أقلّ خصوبة من سنوات تناطح غالي مع أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية خلال أمانته العامة للأمم المتحدة، والتي انطوت بدورها على «ألغاز» مثيرة، وإنْ من نوع آخر. وقراءة المذكرات تجلب الكثير من متعة التشويق (خصوصاً حين تمتزج بالمفارقة السوداء أحياناً)، والقليل من الألغاز، وبعض التعاطف المتأخر مع شخصية تبيّن أنها تراجيدية في نهاية الأمر، في حين أن المرء امتلك كلّ الأسباب للظنّ بأنّها كانت أقرب إلى الميلودراما!
وأياً كانت العوامل التي تحكمت بأقداره، فإنه يدين بصعود نجمه السياسي إلى السادات، الذي عيّنه وزير دولة للشؤون الخارجية لكي يرافقه في رحلة القدس، بعد استقالة اسماعيل فهمي ومحمد رياض؛ ولهذا فإنه الرجل الذي ورث كامب دافيد، وأصبح رمزها وشبحها المقيم بعد رحيل السادات.
والمذكرات تنبئنا بأنه بلغ الهرم الأعلى من السلطة، وأنه أخذ يراكم الإحباط فوق الإحباط لأنّ السادات كان يصغي إلى دراسات وتحليلات الإسرائيليين، أكثر بكثير من تلك التي ينجزها مساعدوه ومستشاروه، وعلى رأسهم غالي نفسه، بعد مشقة تمتدّ من آناء الليل إلى أطراف النهار. وما لا تقوله المذكرات، حفظته لنا حوليات التاريخ: أوّل عربي، مصري، أفريقي، يقود الأمم المتحدة؛ وبعد أن رفضت واشنطن تجديد ولايته، صار الأمين العام لمنظمة الفرنكوفونية الدولية، ثمّ نائب رئيس منظمة «الاشتراكية الدولية»، ثمّ رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر بعد تنحي حسني مبارك…
وكأنّ هذه السنوات لم تكن عجافاً بما يكفي لتسويد فصول حياته الأخيرة، فقد تحرّق غالي إلى إضافة السواد على السواد. ففي الأسابيع والأشهر التي سبقت انتفاضة 25 كانون الثاني (يناير)، ظلّ سلوكه محابياً للنظام، راضياً عن الكثير من مؤسساته (بما في ذلك دورة مجلس الشعب، التي اتسمت بدرجة فاضحة من التزوير)؛ موافقاً على ترؤس هيئة لحقوق الإنسان يتألف غالبية أعضائها من رجالات النظام والحزب الوطني الحاكم (أمثال مقبل شاكر، مصطفى الفقي، وحسام بدراوي). وحول الموقف من التيارات الدينية، و«الإخوان المسلمين» تحديداً، كان أقصى الرأي عنده هو اعتبارهم «عقبة» في طريق الإصلاح، لأنّ تفكيرهم «رجعي». وهذا كلام صحيح بالطبع، شريطة أن يشمل جميع التيارات التي ترفع الدين فوق كلّ اعتبار مدني أو حقوقي، أو تجعله مصدر التشريع، أياً كانت الديانة أو المذهب أو الطائفة.
لكنّ آراء غالي، ما بعد الانتفاضة والاستقالة، تجذّرت أكثر بصدد الموقف من «الإخوان المسلمين»؛ بل الأحرى القول إنها تشدّدت على نحو غير مسبوق، لا يخون الحقوق الأساسية في التعبير والتجمّع وتشكيل الجمعيات والأحزاب، فحسب؛ بل يسير على نقيض تامّ مع فلسفة الرجل الليبرالية المعلَنة (الفضفاضة تماماً في الواقع، لأنها جعلته يعلن، قبل أشهر قليلة، أنه لا يرى مشكلة في أن يحكم مصر «خواجا» أجنبي، على غرار ما يجري في ميدان كرة القدم!). ولقد اختار صحيفة «مترو» الفرنسية الشعبية لكي يعلن أنّ «الإخوان المسلمين» هم جماعة «مثل أيّ حزب فاشي في إيطاليا، أو أيّ حزب نازي في ألمانيا»؛ وبالتالي يتوجّب «فرض الحظر» عليهم؛ رغم اعترافه بالمبالغة في تقدير قوّتهم، وأنهم «هوس أوروبي».
غنيّ عن القول إنّ تصريحات كهذه، مطلقة وتعميمية، تنهض في الجوهر على مقارنات مغلوطة ومغالِطة، وتستعين بطراز من التمثيل يستحثّ التخويف والترهيب، إنما تشارك بدورها في تصنيع الهوس؛ بل تكتسب خصوصية إضافية إذْ تصدر عن مصري هذه المرّة، وليس عن مستشرق متحامل هنا، أو مستعرب جاهل هناك.
الفارق الآخر هو أنّ تصريحات غالي عن «البعبع»، جماعة «الإخوان المسلمين»، لا تُنشر في مطبوعة نخبوية أو فصلية أكاديمية أو دورية رصينة؛ بل في مطبوعة يومية خفيفة، تُوزَّع مجاناً على الأرصفة! فإذا كان المخيال الشعبي الأوروبي مثقَلا، لتوّه، بهواجس «الإرهاب الإسلامي» و«الغزو الثقافي الإسلامي» و«الأصولية الإسلامية»… فكيف تصير حاله حين يستبشر بانتفاضة العرب ضدّ حكّام طغاة فاسدين، من جهة؛ ثمّ يفزع، من جهة ثانية، إزاء تحوّلات ديمقراطية تنذر بأنّ «البعبع» إياه هو البديل، نظير الفاشي والنازي، ولا سبيل إلى ردّه إلا بالحظر المطلق!
خاتمة «المآثر» أنّ غالي لم يجد غضاضة في كتابة مقدّمة لكتاب أصدره لوي أليو، نائب مارين لوبين، رئيسة «الجبهة الوطنية»، حزب اليمين المتطرّف العنصري الأوّل في فرنسا. والله يعلم كم كانت السنوات العجاف ستشهد من عجائب، لولا أنه أخلد أخيراً إلى الراحة الأبدية، فرُفعت الأقلام وجفت الصحف!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صبحي حديدي
القدس العربي