صفحات الرأي

ثقوب التاريخ ومفارقاته: نموذج نيرون/ د. مدى الفاتح

 

 

عرضت قناة «دويتشه فيله» الألمانية الشهر الماضي فيلماً وثائقياً مثيراً عن نيرون روما، الذي حكم أواسط القرن الميلادي الأول. تكمن الإثارة في أن الفيلم الذي اختير له عنوان جانبي هو: «في مديح وحش» كان يحاول التشكيك في الرواية القديمة التي نحفظها جميعاً عن ظهر قلب، والتي تظهر نيرون ساديا كبيرا تلذذ بحرق بلدته، في الوقت الذي كان يعزف فيه على القيثارة.

تتبع القصة والتمسك فقط بما هو ثابت بشكل علمي سوف يقود كذلك للتشكيك في رواية أخرى جانبية تتعلق بالقديس بولس، الذي يعتبر من أهم الرموز المسيحية، والذي يؤكد كثير من المؤرخين أنه كان في روما في تلك الحقبة، وأن حياته انتهت حين تعمّد نيرون تلفيق تهمة تدبير الحريق له ولعدد من رفاقه المؤمنين، تمهيداً لاعدامهم، أي أن نيرون استغل ذلك الحدث المأساوي، أو افتعله، من أجل التخلص من مجموعة مناوئة كانت الشائعات، من قبيل التوحش وأكل لحوم البشر وعدم الولاء لروما، تلاحقها.

لقد أتى ذلك التحقيق التاريخي ليقرر، بعد الاستعانة بعدد من المتخصصين أنه لا يوجد أي دليل على وجود بولس في روما في ذلك الحين، وأن تلك الرواية قد تكون اصطنعت في وقت لاحق، للتمادي في رسم تلك الصورة البشعة لنيرون.

في الواقع فإن النصوص التي دونها رجال الدين المسيحي، إضافة إلى كونها قد كتبت بعد فترة طويلة من الأحداث، فإنه كان يغلب عليها صوت العاطفة والمبالغة في وصف المعاناة التي تعرض لها أولئك المؤمنون الأوائل، وقد ينطبق ذلك على جميع النصوص، بما فيها تلك التي ما تزال مقدسة، وهو ما سيقود إلى ابتكار طرق جديدة للقراءات النقدية، من أجل الوصول إلى جوهر الحقيقة. هذه القراءات سوف تزدهر بشكل خاص خلال القرنين الأخيرين، مستفيدة من تجاوز الفكر الغربي لمفهوم القداسة والتابوهات الدينية.

المهم أن قصة نيرون لم تكن بدعاً عن ذلك المسار، فقد وصلتنا التفاصيل التي ترسم صورة شيطانية لذلك الامبراطور الروماني من مدونات كتبت بعد عقود على وفاته.

هل يمكن لنا الآن التأكد من كل شيء بالاستفادة مما وصلنا إليه في هذا العصر من علوم؟ أعتقد أن ذلك صعب، ومع تقديرنا لجهود الباحثين وعلماء الآثار الذين تطورت أدواتهم بشكل جعلهم يعرفون أن شخصاً ما قد توفي قبل ألف سنة إثر إصابته بمرض معين، إلا أنه سوف تبقى دائماً هناك ثقوب مجهولة وأسئلة بلا إجابة أو بإجابات مختلفة ومفتوحة.

إن ذلك منطقي تماماً، فإذا كنا الآن مثلاً نختلف في قراءتنا لأحداث القرن الأخير، بل السنوات الأخيرة، فيصف بعضنا حدثاً ما بأنه بطولة ومقاومة، في حين يصفه آخر بأنه إرهاب وتخريب، وتوصف تغيرات تاريخية عند البعض بأنها ثورة عظيمة، في حين يصفها آخرون بأنها مجرد مؤامرة أو انقلاب، إذا كان هذا هو الحال، فكيف يمكن الوصول إلى ما ندعي أنه حقيقة تاريخية مجردة؟

نقطة أخرى يجدر الانتباه لها وهي أنه تجب قراءة التاريخ بمنطق التاريخ، لا بمنطق الحاضر، أعني أنه حين نعلم أن نيرون قتل أمه، فإنه يجب علينا على الفور أن نستحضر ذلك الصراع على السلطة داخل العائلة الواحدة، وهو صراع لا يرحم أحداً، يقتل الأخ بموجبه أخاه أو والده من أجل الحصول على العرش، وهو ما سوف يستمر للأسف لحقب طويلة عبر التاريخ.

والدة نيرون لم تكن مجرد ربة منزل، بل كانت شخصية ذات نفوذ ورغبة في الحكم والتسلط، لدرجة أنها تزوجت من خالها الامبراطور، رغبة في دخول القصر. الغريب أنها استطاعت اقناع ذلك الامبراطور بجعل ابنها نيرون ولياً للعهد، ووريثاً دون ابنه. هنا يجب أن نعلم حقيقتين حول المجتمع الروماني في ذلك الوقت، الأولى هي أنه كان ينظر بتقزز لعلاقات المحارم، ما يجعل زواج والدة نيرون من خالها تضحية كبيرة منها، حتى بأعراف ذلك الوقت. والثانية أن ذلك المجتمع لم يكن يسمح بتزعم النساء، ولذلك فإن مكر أغربينا، والدة نيرون، لم يكن ليوصلها إلى الحكم، وإن جل ما كان ممكناً هو إتاحة الفرصة لابنها والقيادة من خلف ستار.

بعد تدبير أغربينا مقتل الامبراطور، توّج ابنها نيرون، لكن السلطة الحقيقية كانت بيدها هي، ومن الدلائل على تحولها لشريك شبه رسمي في الحكم، وجود صورتها بجانب صورة ابنها الشاب في عملة قديمة ما تزال معروضة في المتاحف الأوروبية، الأمر الذي توقف عنده الدارسون كثيراً، باعتبار أنه لم يكن أمراً معتاداً.

هذا التضارب في الصلاحيات، وإحساس الابن بأنه مجرد دمية، هو ما تسبب في سعيه لازاحة أغربينا عن طريقه، ليس بصفتها أمه، ولكن بصفتها منافسته على الحكم، خاصة بعد اعتراضها على رغبته في الزواج ممن أراد، وتهديدها بأن بامكانها استبداله بابن زوجها، أخاه غير الشقيق.

هذا هو ما سيدفع نيرون للتخلص من أغربينا، التي باتت تشكل خطراً على عرشه ومن أخيه غير الشقيق ومن كل منافس آخر محتمل.

سوف تتعدد الشهادات لنكتشف أن بإمكاننا إفناء العمر كله بحثاً عن الحقيقة الكاملة، فبمقابل هذا الوثائقي، هناك وثائقيات أخرى وكتب ومراجع محققة كلها تشيطن نيرون، ولا تعتبره سوى أحد طغاة التاريخ. لعله كان كذلك فعلاً، ولعله، بالمقابل، كان بالنسبة لبعض حاشيته والمستفيدين منه أيقونة لا يقبلون أن تمس. أما ترسّخ النظرة السلبية لنيرون، فيعود لأسباب من أهمها تمدد المسيحية في عموم أوروبا، خلال بضعة أجيال، وتحولها بمدارسها المختلفة لديانة رسمية لمعظم البلدان والممالك التي بنت ثقافتها على هذا الدين الجديد، وعلى التمايز عن الوثنية والكفر، الذي لم يعد مسموحاً به. يمكن الذهاب أكثر من ذلك لحد القول إن التمادي في خلق هذه الصورة الكاريكاتيرية لأحداث الماضي كان يخدم بشكل ما السياسة الجديدة التي كانت الكنيسة من أهم أركانها.

النفس الإنسانية متناقضة بدرجة غير مفهومة، هذا هو ما نتعلمه من سيرة نيرون. لنتذكر أننا نتحدث عن امبراطور فنان، يمارس المسرح ويقرض الشعر ويعزف الموسيقى، وهو يصر على ممارسة هذه الهوايات حتى بعد أن أصبح امبراطوراً، رغم أن المجتمع الروماني آنذاك كان يضع الممثلين وبائعات الهوى على درجة واحدة وينظر إلى كليهما نظرة تخلو من الاحترام، أي أن ذلك الامبراطور ضحى بالكثير من أجل إعادة الاعتبار للموسيقى والمسرح وسائر أنواع الفنون. السؤال هنا هو: كيف يتحول انسان يفترض أن يكون مرهف الحس لهذه الدرجة، إلى زعيم شرس وديكتاتور متسلط لا يتورع عن قتل أقرب الناس إليه؟ لا شك أنها مفارقة ولكنها ليست المفارقة التاريخية الوحيدة. يحضرني هنا مثال المصلح الألماني مارتن لوثر، الذي ترجم الأناجيل وقربها إلى فهم العامة بتحريرها من زيادات رجال الدين وتحريفاتهم، التي استغلت بساطة وجهل الناس في تربيتهم على الإذعان للحكام الظلمة، الذين كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، بزعم أن هذا هو ما يطلبه الله الذي اختار أولئك الملوك والأمراء ليكونوا ظله على الأرض. المفارقة هي أن المصلح ذاته لم يتورع عن الوقوف في صف الطغاة، حين ثار عليه العامة من المؤمنين والمتأثرين بأفكاره. أكثر من ذلك فقد وصفهم بالغوغاء وبأقسى العبارات وصولاً لإباحة سحقهم إن تابعوا ثورتهم، لأن في ثورتهم تخريباً ولأن سحقهم هو السبيل الوحيد لحماية «مؤسسات الدولة».

هذا هو ما كان يقوله مارتن لوثر المثال الإصلاحي الأكبر، الذي ما يزال يحظى باحترام الأوروبيين، وهو موقف متكرر اتخذه مثقفون كبار عبر العصور، ضد أي حركة تغيير. مثقفون لم يترددوا في دعم الاستبداد، الذي يقتل ويحرق ويعذب في حين كانوا هم يمارسون فنون الأدب والمسرح والموسيقى.. تماماً مثلما كان يفعل نيرون!

كاتب سوداني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى