صفحات الثقافة

جدوى الشعر .. ولا جدواه/ محمد بودويك

 

 

الجدوى ترتبط بمعنى الفائدة، بالنتائج، والهدف الفعلي المقصود، بالغلة والغلال، بالمردود المباشر، بالعائد المحسوس والملموس. وإذا كان الأمر كذلك، فلا جدوى من الشعر، والفن بإجمال، ولا جدوى فيه، ولا حصاد ماديا ينتظر منه، يُولِمُ الجوْعةَ، ويبل الريق الناشف ويروي الظمأ.

الريح والغبار والكبريت الأحمر هو ما يقدم الشعر، والأدب والإبداع بعامة منذ ليل التاريخ، وصلصال الحضارات البهية الأولى. الهلام والخواء هو ما يقدم إذا كنا عَاشِبينَ لاحِمين آناء الليل وأطراف النهار، وفي كل المراحل الزمنية من أعمارنا وحيواتنا.

هل الشعر والفن وَهْمٌ؟ نعم، وبهذا الوهم نعيش، وعليه نعتاش، ونقتات، إذ يتعلق الوهم إياه بوجداننا، وبأرواحنا، وبدواخلنا، وجوانياتنا، وجوهرنا العميق، البعيد، السحيق في أغوارنا، ومراتب أنفسنا الممتدة والموصولة بوجودنا وكينونتنا، وموجوديتنا.

كثير من الوهم أساس لحياتنا، مِدْمَاكٌ لها، ومعتمد لا مَنْدوحة عنه، لكي نستسيغ الحياة، ونسوِّغ عبورنا فيها، وقبولها، والإقبال عليها، وابتداع لذائذها، وتطويب إقامتنا فيها.

فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، كما قال المسيح عندما طلب منه أن يحول الحجارة أرغفة. وفي الإجابة الرسالية والرسولية العظيمة ما فيها من وجوب تعهد الآخر فينا، والإنصات إلى تطلعاتنا المفارقة العظيمة، بالمعنى الكانتي، إلى رغائبنا الدفينة أو المعلنة.

الشعر كان نخبويا ولا يزال كذلك وسيظل، فن القلة الآدمية الممسوسة كما الموسيقى العلوية الفادحة التي وقعها في سمع الأبد، موسيقيون عظام من جغرافيات وسلالات مختلفة.

وزادت نخبويته ـ راهنا ـ لأنه تحول من نمط مسكوك معلوم لازم، إلى نمط آخر مجهول مغامر ومُتَعَدٍّ، إلى أشكال وأنواع مختلفة تحتفل باللغة، احتفالا باهرا يَتَمَرْأَى في استدعاء، واستدخال، واستقطاب عناصر الحياة إلى أرضه، وَضَخِّها بمزيد من الضوء والنور والماء والحياة حتى تستحق أن تعاش الحياة. وهو الاحتفال الذي تزغرد له اللغة، وتتيه له أعطافها، وذيولها فرحا وغبطة ومرحا، ونشوة وسكرة وطربا. وأحيانا : حزنا وألما وإحباطا، وانكفاء. وفي الضربين معا، الأسلوبين معا، الرؤيتين معا، المناولتين معا، تستكن إرادة الجمال والكمال والجلال. إذ أننا نحزن لنجلب الفرح للأنفس المحطمة، والضوء للعتمة المستبدة، والنور للغشاوة الظالمة. ونتألم لنحتاز لحظة شمس، ونستحق رفرفة ظل، ورقصة طير وشجر. ونفرح للفرح إذا اسْتَتَبَّ الفرح، وعمل الإنسان الكادح «إلى ربه كدحا»، على توريقه، وإكساء وجوده القصير على الأرض بما يمطط هذا الوجود، ويضفي عليه معنى.

وليس في ما نرى ونعي ونسمع ونبصر، ونتقرى من تمطيط لوجودنا السريع والقصير بحساب الزمان الفيزيائي، إلا ما كان من جمال وجلال. فالجمال يعدد ويكثر، ويقصي الرحيل المتربص، أو يؤجله إلى حين.

وهو مدعاة للعيش بامتلاء ورغبة مشتعلة لاهبة في العيش العريض لا الطويل، لأنه يزاحم الزمن البيولوجي، روحا وريحانا وجنات نعيم.

بهذا المعنى تكون اللغة نعمة في رأي الشاعر الهائل هولدرلن، وتكون بلوى في نظري المتواضع.

لم يعد الشعر مطالبا بتقديم فروض الطاعة والولاء للمعيش اليومي، والواقع في نتوئه، وتضاريسه، وأوجاعه، وأوصابه، وأعطابه كما هي.

كما لا أحد ينتظر منه أن يجيب عن أسئلة الوجود الكبرى، ويقترح حلا لمعضلات الكون الشائكة والعويصة كالحرب، والموجودية، والموت، والبشاعة التي تَرِينُ ـ اليوم ـ على العالم. ولا أن يطعم الناس من جوع، ويؤمنهم من خوف، فتلك انشغالات وانهمامات الفلسفة والسوسيولوجيا، والسياسة والاقتصاد، والنضالات اليومية على مختلف الجبهات، وفي مختلف المواقع، عبر الأحزاب الديمقراطية، والنقابات العمالية ذات المصداقية، والجمعيات الثقافية والتربوية والاجتماعية والبيئية.

ولم يعد الشعر يشبع انتظاراتنا، ويُرَقِّصُنَا ونحن نقرأه، أو نَسْمعه، أو ننشده. وما ذلك إلا لأنه تحول وَفْقًا للتحولات المجتمعية والكونية العامة والمتسارعة، وفي عمق هذه التحولات، تنتصب التكنولوجيا الماحقة، وشبكات التواصل الاجتماعي، والمواقع الالكترونية، وعديد التواصلات والميكانيزمات الرقمية التي تكتسح الكون، وتتحكم في حاضره، وغده، ودقائق مَسْرَاهُ ومجراه، فإذا هو قرية صغيرة، وإذا هو لا يعدو أن يكون كف يد، أو قبضة طفل صغير. ومع ذلك، فإننا بحاجة ماسة إلى الفن بعامة، والشعر مكون من مكوناته، وطائر من جنسه، وفرع من شجرته، وجارحة هشة من جوارحه.

إن التساؤل عن جدوى الشعر ـ اليوم ـ كان طُرح في أزمنة سابقة، إلى درجة وصول المقول إلى حدود التشنيع على الشعر والشعراء، واعتبارهم فضلات، وديدانا زائدة، ما يعني أن شعرهم أضغاث، وهذيان، ونافلة، ونشاز.

وفي الرؤية هذه ما يشي بالرغبة في جر الشعر والفن بعامة، إلى الوظيفة التواصلية والتوصيلية المادية الباردة، والخدمة الاجتماعية الفورية، وإلى إعلان العصيان، والدفع بجهوريته، ومنبريته، وتقريريته، وصراخه، إلى الثورة، أي إلى إعادته إلى سابق «دوره» و»مجده».

قلّة تداولِ الشعر في وطننا، وفي البلاد العربية، وفي غيرها من بلدان العالم، حقيقة «مفزعة» لا جدال فيها، وواقع عنيد لا يرتفع. وعدم إقبال القارئ على اقتناء الكتاب الشعري، واستثقاله، والنفور منه، حقيقة أخرى، جاءت من الشعر نفسه لأنه أصبح عصيا على القبض، زئبقيا على الفهم والاستيعاب، والمعاشرة. وجاءت، ثانيا، من الناشرين في جملتهم الذين بخسوا جنس الشعر، وأذاعوا في المبدعين، وفي الناس، بأن طباعتهم للأعمال الشعرية، هي مضيعة للوقت، والجهد، والمال، هي الخسران المبين ! ومن ثمَّ، رُوِّجَ للرواية من حيث هي «ديوان» العرب في العصر الحاضر، ومن حيث إن القراء يقبلون على اقتنائها، وقراءتها. يحدث كل هذا، في غياب شبه كلي عن استقراء علمي، واستمزاج دراسي سوسيولوجي، وميداني لسوق القراءة والقراء، حتى تتبين الحقيقة من الرجم بالغيب.

أما الحقيقة الحقة ففي مكان آخر، وهي تتصل أساسا ـ في تقديري ـ بالعزوف العام عن قراءة الأدب والإبداع، والفكر، والفلسفة، وعدم زيارة معارض الفنون التشكيلية، والإحجام عن الذهاب إلى المسرح الحي على الركح الحي.

وتتصل ـ ثانيا ـ بالأزمة الشاملة التي يعانيها العرب الذين خرجوا من «التاريخ» ومن «الإنتاج»، ومن «الحضارة»، ومن «الإضافة»، إضافة جملة مفيدة من فعل وفاعل ومفعول، في كتاب الكون!

وهذه «اللاجدوى»، تنسحب ـ جملة وتفصيلا ـ على السينما التي ضمر عشاقها بضمور وتناقص قاعاتها، ومنافسة الانترنت، ووسائط تكنولوجية أخرى لها. كما تنسحب على المسرح الذي تقلص رواده ومحبوه، ومتتبعوه، وعلى معارض الفنون التشكيلية، والقصة والرواية والموسيقى. لأن هذه الفنون، لا تقدم طعاما للجائع، ولا ماء للعطشان، ولا رداء وغطاء للمشرد العريان، ولا راتبا شهريا للموظف «الغلبان»

ولكنها تقدم ـ في المقابل، كما أشرت ـ للروح بلسما وترياقا، وللإنسان آدمية، وحسا، وحدسا، ووجدانا، وعقلا، إذ تخاطب فيه الحواس، وتنشط في النفس جوهرها، فيخفق القلب، وتتوفز عضلاته وجوارحه الداخلية، أو ترتخي نشدانا للسكينة، وتدير دورته الدموية التي جمدتها صفاقة العيش، وشظفه، واللهاث وراء الرغيف، وما يؤمن الوجود الحاجي والمادي للحياة.

كما تُشْعِلُ حدسه، وباقي ملكاته وطاقاته الخبيئة، فينتشي ويسمو، ويحلق عاليا في الأجواء، والملكوت الأبهر، وفي هذا ما يشي بعودته إلى حقيقته المتوارية، وسر وجوده الفعلي، وجوهره الذهبي النفيس الوثاب.

أما لماذا التجأ كثير من الشعراء إلى الرواية، فذاك اختيار جمالي، ووجودي، وتعبيري ذاتي، بحيث إن جل الشعراء الذين أصبحوا روائيين، أو ظلوا على مزاوجتهم بين الجنسين، وهم قلة على كل حال، في عرض العالم العربي، وطوله، رأوا في فن الرواية ما يطلق رحابة أخيلتهم، وأفكارهم، ورؤاهم، ومواقفهم، وهو ما يعجز عنه الشعر الذي يأخذه بالتماعة، وومضة، و»ضربة» معلم، ونار متبجسة بوذية سريعة.

لكن، هناك من الشعراء من انتحى ناحية السرد الروائي، طمعا في جائزة ـ وهذا حقه، وأَيْمُ الله ـ لما رأى أن أكثر الجوائز العربية ذات الرنين العالي، إنما تذهب لأكثر الروايات، فتكون من نصيب الساردين لا الشاعرين.

لكن، مرة أخرى أقول: إن أكثر الروايات التي نقرأ، لا رواية فيها، لا إبداع، ولا إمتاع، ولا ماء، ولا شعرية، ولا عوالم، ولا تخييل، ولا بناء، ولا إضافة. فيها سرد ثقيل على القلب لمجريات وقائع تاريخية معينة، واستدعاء لسياقات اجتماعية محددة، وتكرار ممل، وتجريب مخادع هدام، وعقم معرفي، وتهافت واستسهال، في الأول والأخير.

إنه الاستسهال عينه، الذي ما فتئت ألفت النظر إليه، وأثيره في كل مناسبة، الذي يطول الشعر في كل الأقطار العربية، وهو وجه آخر من أزمة اجتماعية وثقافية عامة، نعيشها بحدة، وبتفاوت بطبيعة الحال.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى