صبحي حديديصفحات الثقافة

جون بيرجر: الفقد والأمل/ صبحي حديدي

 

 

رحل جون بيرجر (1926ـ2017)، الشاعر والروائي والمسرحي والفيلسوف والإعلامي والناشط السياسي الماركسي، ثمّ، قبل هذه الانشغالات كلها، ناقد الفنون التشكيلية الألمع، ربما، على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، وعلى نطاق عالمي تجاوز اللغات التي كتب بها، والثقافات التي عاش في كنفها أو شاء الانتماء إليها. يُشار عادة، ليس دون وجه حقّ تامّ، إلى عمله الفذّ «طرق في الرؤية»، الذي كان التشكيلي السوري الراحل رضا حسحس قد نقله إلى العربية، سنة 1999، الذي لا يكتفي باقتراح سُبُل شتى، معقدة أو مبسطة، لقراءة اللوحة، فحسب، بل يزجّ القارىء في الإشكالية التاريخية والاجتماعية، ثمّ السياسية بالضرورة، التي قادت إلى «تسليع» الفنون التشكيلية، ومعها الكثير من أعراف التذوّق العريض، ضمن شروط السوق الرأسمالية.

وكان بيرجر صديق القضية الفلسطينية بصفة خاصة، وله كتابات كثيرة ـ رصينة من حيث المضمون، جسورة من حيث نقد إسرائيل، وبليغة آسرة من حيث عناصرها الأدبية والنصّية ـ تتناول مظاهر مختلفة من حياة الفلسطينيين اليومية، وترصد نبض الوجود الفلسطيني تحت الاحتلال، أو في ظلّ الحصار والحروب الهمجية (غزّة، في المثال الأبرز)، فضلاً عن ميادين الثقافة المختلفة. وحين يكون في رام الله، ويصادف معرضاً للفنانة السورية رندة مداح، فإنه لا يتردد في الكتابة عنها، وعن المعرض (في نصّ بديع بعنوان «مكان يبكي»، ترجمته فتحية سعودي إلى العربية)، وفي الآن ذاته، يعود إلى محمود درويش، الذي كتب عنه مراراً، وتساءل ـ من باب التحليل المتعمق، وليس الدهشة السياحية ـ عمّ يجعل الملايين يلهجون باسمه، وشعره.

يقول بيرجر، في واحد من أحاديثه الإذاعية، إن شعر درويش يتمثل نضال الفلسطينيين لإبقاء جذوة الأمل حيّة، ولتشديد قوّة اليقين، في صالح الحياة وليس خسرانها؛ لكنه، وهذا تفصيل بالغ الأهمية من وجهة نظر بيرجر، شعر يلاقي قطبَي الفقد والهشاشة على مستوى الشعور الجَمعي، وينأى في الآن ذاته عن الخطابة السياسية، وهذا بعض السبب في أنّ الناس يتداولون شعره، ويتقاطرون إلى أمسياته بالآلاف. ورغم أن بيرجر ترجم «جدارية»، بالتعاون مع الأكاديمية الفلسطينية ريما حمامي، فإنه يفضّل اقتباس «لاعب النرد»، وهذه السطور: «والسراب كتاب المسافر في البيد…/ لولاه، لولا السراب، لما واصل السير/ بحثاً عن الماء. هذا سحاب – يقول/ ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخرى/ يشدُّ على خصره. ويدقُّ خطاه على الرمل/ كي يجمع الغيم في حفرة. والسراب يناديه/ يُغويه، يخدعه، ثم يرفعه فوق: اقرأ/ إذا ما استطعتَ القراءة. واكتبْ إذا/ ما استطعت الكتابة. يقرأ: ماء، وماء، وماء/ ويكتب سطراً على الرمل: لولا السراب/ لما كنت حيّاً إلى الآن/ من حسن حظّ المسافر أن الأملْ/ توأمُ اليأس، أو شعرُهُ المرتجل/ حين تبدو السماء رماديّة…».

وفي «زحمة» مشاغل بيرجر الكثيرة، وإنتاجه الكثيف المتلاحق، في النشر والصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون وسواها، يطيب لي أن اتوقف عند شخصية الروائي فيه، وخاصة ثلاثيته الفذّة «على تعبهم»، التي تستمد عنوانها من يوحنا 4: 38: «آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم». الثلاثية تتألف من «أرض الخنزير»، و»ذات مرّة في أوروبا»، و«لَيْلكٌ وسوسن»، استغرقت كتابتها 17 سنة، ونُشر الجزء الأول منها سنة 1979. وكان الناقد البريطاني البارز فرانك كيرمود قد نشر مراجعة شهيرة للجزء الثالث (تشرّفت بترجمته لصالح فصلية «الكرمل» الفلسطينية، أواسط التسعينيات)، اعتبر فيها أنّ سؤال الثلاثية الأكبر هو هذا: ما الذي سيحدث إذا اختفت المجتمعات الفلاحية تماماً؟ وأمّا إجابة بيرجر، عبر سرد ملحمي للحياة الرعوية والقروية، فإنها تنتهي إلى هذا: لن يتبقى لنا سوى كلّ هذه البدائل المدينية الفاشلة، ووحشية الرأسمالية المتكاتفة (قبل بزوغ فجر العولمة!)، وخيبة الأمل المحتمة في آفاق التقدم، وفضيحة التعايش بين الندرة والوفرة…

وفي سياق نزوعه الجارف إلى التزام أقصى مقدار ممكن من الأمانة، الأخلاقية والفنية، في هذه الثلاثية، كان بيرجر قد اتخذ قرار الهجرة من المدينة، واللجوء إلى الريف، وعاش بالفعل حياة القرويين، بل يلوح أنه اكتسب الكثير من عاداتهم وطقوسهم؛ معتصماً، دائماً، بأمانة مدهشة في الانطلاق من بصيرة الرجل المديني، الذي كان أو يظلّ غريباً عن الأرياف. الجانب الأكثر ألقاً في ما تنقله ثلاثية بيرجر عن الحياة الرعوية، هو كيفية لجوء الفلاحين إلى السرد، ورواية الحكايات والأقاصيص، كواحدة من ستراتيجيات تمثيل الحياة واستدامة ثرائها. (ثمة، في استطراد قد يكون مفيداً هنا، حوار متلفز خصب حول موضوع سرد الحكاية، أداره بيرجر مع الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ ، سنة 1983، ضمن برنامج «أصوت»). وهكذا، ينهض المجلد الأول في الثلاثية على شبكة من الحكايات المتقاطعة، ويتناول الثاني أقاصيص علاقات الرجال والنساء تحت وطأة ما سُمّي بـ»التحديث» في الأرياف، بينما يدور المجلد الثالث حول تغلغل المدينة في الريف وأنساق التشوّه التي نجمت عن اختلال الموازين بين العالمَين.

رحل بيرجر، إذن، عن تراث موسوعي زاخر، متنوّع، عميق، معقد، إشكالي، ملتزم، سجالي، في النقد والفلسفة والرواية والشعر والمسرح والسينما والفوتوغرافيا. ولسوف يُفتقد كثيراً، في العمق من عرض الظواهر، كما في السجال حولها… بتعمّق، أيضاً.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى