خيانة المثقف/ خيري منصور
اكتسبت بعض المفردات دلالات بالغة الالتباس والتعقيد من خلال التطور الاجتماعي وما تثيره من استجابات نفسية، بحيث بدت مقدسة، رغم أنها في نهاية المطاف نسبية، ومنها مفردة الخيانة، التي ما أن يرد ذكرها في أيّ سياق حتى يكون صداها سلبيا، ومثارا للإنكار.. ورغم أنها كالكذب أو أي صفة أخلاقية أخرى لا تقبل التدرج من الأصغر إلى الأكبر، إلا أن المجتمعات جعلتها على درجات، بحيث يكون أقصاها الخيانة العظمى، وهي خيانة الأوطان، ورغم ما يشاع عن براءة الكذب الأبيض، إلا أن هناك من المثقفين ذوي النزعات الرواقية مثل البير كامو، رفضوا جذريا تصنيف الكذب في خانات، لهذا كتب مسرحية بعنوان «سوء تفاهم»، انتهت بأن قتلت الأم ابنها لتسطو على ماله، حين كان نزيلا في فندق تديره مع ابنتها، وكان الابن الذي اغترب عقودا قد جازف بكذبة بيضاء ليفاجئ أمه واخته بثروته، فاستخدم اسما مستعارا، لكنه دفع حياته ثمن هذه الكذبة البيضاء.
ربما كان مفهوم الخيانة في الماضي أقل نسبية مما هو الآن، فالدلالات الاجتماعية للمفردات تتغير وفقا للتحولات الاجتماعية، وحين يضع الشاعر الراحل محمد الماغوط عنوانا لأحد كتبه هو «سأخون وطني»، فذلك على سبيل المجاز، خصوصا لدى المثقف العربي الذي عانى شتى صنوف العذاب والتنكيل من وطنه، لكنه رغم ذلك أحبه، فأصبحت العاطفة لديه مزدوجة على طريقة ما سمته جين أوستن تداخل الحب والكراهية.
وفي «رباعية الإسكندرية» لداريل ثمة موقف يحدث انقلابا في الوعي لمن يقرأه يتلخص في أن بطلة الرواية تخون زوجها، وهو يعلم بذلك، لكنه لا يشعرها بأنه يعلم، وحين حاولت استفزاز غيرته ذات ليلة كانت عائدة فيها للتو من سرير عشيقها، أصرّ على الاستمرار في الهدوء بل اللامبالاة، وقال لها: لست قوادا كي أعاقبك على خيانتك، لأنك تبحثين عن توازن أخلاقي من خلال العقاب!
وما كان ممكنا لفيلم سينمائي عربي أن يحمل عنوان «خيانة مشروعة» قبل عقود، لكن ما طرأ من تحولات على الواقع العربي أتاح لمخرج مغامر وتجريبي أن يطلق عنوانا كهذا على فيلمه، قد تكون هذه التداعيات مجرد تمهيد لخيانة مسكوت عنها، هي خيانة المثقف. وأول من استخدم هذا المصطلح هو جوليان بندا عام 1927 في كتاب كان على مؤلفه أن ينتظر سبعين عاما كي يعثر على مثقف معاصر يفككه أركيولوجيا، هو إدوارد سعيد في كتابه «المثقف والسلطة»، فقد وجد إدوارد أن أطروحة بندا تنسجم مع المركزية الأوروبية لأنها مكرسة للمثقفين الأوروبيين فقط، باستثناء السيد المسيح.
ومنذ عام 1927 حتى عام 1994 الذي أصدر فيه إدوارد كتابه، تغيّر العالم كثيرا، وحدثت حرب كونية غيّرت من تضاريس كوكبنا السياسية وأفرزت مفاهيم لم يكن معترفا بها في الزمن الإمبراطوري، ومنها التبشير بمرحلة ما بعد الاستعمار، وظهور حركات تحرر في العالم المنكوب بالكولونيالية، بحيث لم تعد أوروبا هي النموذج الذي يتم القياس عليه، وإذا أضفنا إلى ذلك التطور المتسارع لوسائل الاتصال تكون أطروحة جوليان بندا قد خسرت الكثير من مقومات استمرارها وعبورها للأجيال والعصور.
وقد تفاوتت مواقف الفلاسفة والمفكرين الذين استوقفتهم ظاهرة خيانة المثقف، خصوصا بعد أن تنامى الصراع الأيديولوجي خلال الحرب الباردة، فالمثقف الماركسي كان يرى في خصمه اليميني خائنا لقضايا الشعوب وللطبقة العاملة بالتحديد، ومقابل ذلك كان المثقف الليبرالي ينظر إلى خصمه الماركسي المؤدلج على أنه أشبه بالخرتيت، وهذا بالفعل ما حاول يوجين يونسكو تجسيده في مسرحية الخراتيت، التي منعها الرقيب السوفييتي في تلك الأيام .
وحين نعود إلى ما كتبه سارتر عن الأدب الملتزم، نجد أن تخوين المثقف يبدأ من تخليه وإدارة ظهره لقضايا عصره، لهذا أدان فلوبير وكتب هجاء نادرا لفرانسوا مورياك لانشغالاته بهواجس وشجون غير أرضية.
هكذا كان التخوين الثقافي مُتبادلا، لكن الجملة المعترضة في هذا السياق هي ما يمكن أن اسميه توبة المثقف، خصوصا في المرحلة التي أعلن فيها مثقفون ماركسيون التوبة عن انتماءاتهم للأحزاب الشيوعية، ومن هؤلاء سارتر نفسه الذي عبّر عن توبته بكتاب يحمل عنوان «الاشتراكية الوافدة من الصقيع»، ويقصد بالصقيع الاتحاد السوفييتي سابقا، وكذلك أرثر كوستلر وستيفن سبندر، الذي أدار منظمة الثقافة الحرة في روما، وأصدر مجلة «انكاونتر» برعاية المخابرات المركزية الأمريكية، ومن العرب نكتفي بذكر مثالين هما قدري قلعجي وبدر شاكر السياب.
وقد يدافع هؤلاء عن انفسهم قائلين هل نخون وعينا؟ أم نخون حزبا أو جماعة؟
وهناك مثال غالبا ما يوظف لصالح هذا التغير الدراماتيكي هو جورج لوكاتش، الذي غيّر بعض مواقفه ومنها مقالة شهيرة عن طاغور، لكن هناك نمطا من الخيانة النبيلة يمارسه المثقف ضد نفسه وليس ضد أي خصم آخر، تتلخص هذه الخيانة في نقد المثقف لذاته، وهذا ما فعله الراحل جبرا إبراهيم جبرا عندما كتب مقالتين عن الجواهري ونزار قباني، اعترف خلالهما بأنه لم يكن قد قرأهما كما ينبغي كي يصدر أحكاما قاطعة، لكن هناك فارقا حاسما بين النقد الذاتي والتوبة مدفوعة الأجر، ولا يحتاج الناقد إلى كثير من الحصافة كي يشم ما يرشح من الكلمات، بحيث يحزر التباين بل التضاد بين النقد الذاتي الناتج عن تطور الوعي وبين التوبة، سواء كانت أيديولوجية أو ثقافية بمعنى أشمل.
وقد يكون المثقف العربي محظوظا أكثر من سواه، إذا فكر باقتراف الخيانة لأن الأمية تحميه ولا يوجد في القوانين ما يعاقبه، ولو عوقب المثقف الخائن بواحد بالألف أو المليون مما يعاقب به الزوج الخائن أو المواطن الذي يجهر بالأنين من الاستبداد والاستعباد، لما كان المشهد على ما هو عليه الآن!
كاتب أردني
القدس العربي