رجال طائفة النظام السوري: الفارق بين حسان وسليمان وكنعان/ صبحي حديدي
مَن لم يمت بسيف «داعش»، التي تغذّ المسير نحو مطار الـ»تي فور»، حيث كان العقيد حسان الشيخ، مهندس الرادار والمراقبة الإلكترونية جوية؛ مات برشّاش سليمان هلال الأسد، نجل ابن عمّ بشار الأسد، في قلب اللاذقية، عاصمة النظام والبقعة الأكثر «أماناً» في سوريا المعاصرة. ومَنْ لم يمت، ذبحاً، لأنه ينتمي إلى الطائفة العلوية، حتى بسبب مصادفة بيولوجية محضة؛ مات، قتلاً، بسبب تجاسره على عدم إخلاء الطريق أمام سيارة آل الأسد.
وإذا جاز للسيدة أم كمال، والدة القتيل، أن تقول على الملأ أنّ ابنها العقيد القتيل «فدا لضيّ عيونّا رئيسنا الغالي»؛ جاز لخالة القاتل أن تذكّر المعتصمين ضدّ الجريمة، ومعهم العلويين أجمعين، علانية أيضاً وعبر الفيسبوك: «تبقى الأسود أسوداً، والكلاب كلاباً»…
ولكي لا يستبق المرء طبيعة «العدالة» التي سوف تطبقها عائلة النظام على واحد من مجرميها الأكثر فحشاً في انتهاك ذاك الذي يحرص النظام على إحاطته بهالة قدسية (ما يُسمّى «الجيش العربي السوري»، خاصة إذا كان موضوع الانتهاك ضابطاً من أبناء الطائفة العلوية، عاملاً على جبهة قتال ساخنة)؛ من الخير التوقف هنا عند واحدة، بين أخرى كثيرة، من دلالات الجريمة، في انتظار حيثياتها «القضائية»، إذا جاز استخدام المصطلح أصلاً! هذه الدلالة الخاصة هي مصائر عدد من ضباط النظام، تحدروا من الطائفة العلوية، وشغلوا مواقع متباينة من حيث النوع والسياق، وآلوا إلى نهايات متغايرة المغزى، ورحلوا وهم في ذروة الولاء للنظام، عموماً؛ وللعائلة الأسدية، خصوصاً. وأكتفي، في هذا المقام، بثلاثة نماذج، لقي كلّ منهم مصرعه خلال عهد الأسد الابن.
الأوّل هو العقيد الشيخ، الذي ولد في بسنادا، الضيعة المعروفة بسمعتَين: تصدير المعارضين (عارف دليلة، الغنيّ عن التعريف، وفاتح جاموس الذي دخل إلى المعتقل زعيماً لـ»حزب العمل الشيوعي» وهو اليوم ضيف دائم على إعلام النظام)؛ وتصدير ضباط النظام (والأسماء أكثر من أن تعدّ، بينهم أحمد دليلة مدير مدرسة المشاة واحد جزّاري حلب مطلع الثمانينيات). في عبارة أخرى، ترعرع الشيخ في وسط جامع للنقائض، وأكمل اختصاصه العسكري في بلغاريا، حيث أقام ستّ سنوات، ثمّ تدرّب أيضاً في الصين وكوريا الشمالية؛ أي أنه احتكّ بالعالم خارج سوريا وكان، بالتالي، عسكرياً محترفاً، حتى ضمن اختصاصه الفني الصرف، ولا سبب يدعو إلى الارتياب في ولائه للنظام، بدليل أنّ الأسد كرّمه شخصياً، قبل خمس سنوات.
ولعلّ الشيخ انطلق من هذه الخلفية العسكرية، ممتزجة بما قدّره من تبجيل خاصّ يحظى به «الجيش العربي السوري» في اللاذقية إجمالاً (ثمّ، خصوصاً، عند راكبي السيارات الشبحية، الطيّارة، المنفلتة من كلّ عقال، المتجردة من اللوحات…)، حين نزل من سيارته، وعرّف السائق الغاضب على شخصه، ورتبته العسكرية. «… أختك على أخت الجيش»، يُقال إنّ ابن الأسد ردّ عليه، قبل أن يفرغ الرصاص في جسده. ولعلّ قسطاً كبيراً من ردود الفعل الغاضبة، التي أعقبت شيوع خبر الجريمة؛ وكذلك مستويات النفاق التي اكتنفتها من جانب النظام (ابتداءً من سلوك محافظ اللاذقية، مروراً بالتعزية التي قدّمها للأسرة نجلا آصف شوكت، وانتهاءً بالطنطنة الإعلامية حول اعتقال القاتل)؛ كان مردّه هذه الخلاصة تحديداً: أنّ القتيل كان مقاتلاً (دفاعاً عن البلد، أو الجيش، أو النظام، أو الطائفة… سمّ ما شئتَ من تأويلات مرجحة)، وأنه لم يُقتل بسيف «داعش» أو «جبهة النصرة» أو «أحرار الشام»، بل برشّاش ابن الأسد.
النموذج الثاني هو العميد محمد سليمان، الذي اغتيل أمام منتجعه الساحلي الشخصي على شواطىء طرطوس، في مثل هذه الأيام، سنة 2008؛ وكان ينتمي إلى الحلقة الأضيق المقربة من الأسد، وأحد أبرز مستشاريه في ملفات حساسة واسعة النطاق، أمنية وسياسية وعسكرية: من تسليح «حزب الله»، أو الصلة مع محمد عماد مغنية؛ إلى مشروع مفاعل «الكبر» النووي في ظاهر دير الزور، أو اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. وكان سليمان قد لفت أنظار الأسد الأب في طور مبكر، فأوصى بتقريبه من نجله باسل، وريثه المرشح الأول الذي مات في حادث سيارة مطلع العام 1994.
جهة اغتيال سليمان لم تتضح حتى الساعة، رغم أنّ مؤشرات كثيرة تذهب باتجاه اتهام المخابرات الإسرائيلية؛ لكنّ التفصيل الدالّ، الذي تكفلت «ويكيليكس» بكشف النقاب عنه مؤخراً، هو أنّ الأسد نفسه فوجيء (وتقرير السفارة الأمريكية في دمشق قال إنه «صُعق»)، حين أبلغته استخبارات النظام بأنها عثرت، داخل شاليه العميد القتيل، على سيولة بقيمة 80 مليون دولار أمريكي. أكان هذا المبلغ ـ الذي ظهر بالطبع، وللمرء أن يتخيّل ما خفي من ثروة سليمان ـ هو ثمن ولائه للنظام؛ أم ثمن خيانة ما، أو سلسلة خيانات، ذات صلة بوظائف موقعه الحساس داخل حلقة السلطة الأعلى؟ وإذا صحّ أنّ الأسد «صُعق» حقاً، أيعود السبب إلى سؤال الولاء، أم سؤال الخيانة؛ وقيمة المبلغ، أم كيفية تجميعه وإخفائه عن مالك مزرعة النهب الأوّل، الأسد نفسه؟
النموذج الثالث هو اللواء غازي كنعان، الذي نُحر أو انتحر أواسط العام 2006؛ وكان غيابه/ تغييبه طارئاً هائلاً على أعراف «الحركة التصحيحية»، من حيث ارتجاج المعمار الأمني والعسكري والسياسي الذي شيّده الأسد الأب لبنةً لبنة، وجهازاً بعد جهاز، وتابعاً بعد آخر، يوماً بعد يوم، وسنة إثر أخرى. فإذا جاز الربط بين رحيل كنعان وتقرير ديتليف ميليس، واغتيال الحريري عموماً؛ فإنّ الجائز الرديف، في المقابل، هو اختلال محاصصات القوّة في مستوى الحلقة الأضيق ذاتها، يومذاك. لقد اتخذ الأسد قراراً مفاجئاً بنقل اللواء بهجت سليمان إلى «المقرّ العام» ـ قبل أن يكفّ يده عن أيّ نفوذ في جهاز المخابرات العامة، فيرسله سفيراً إلى عمّان ـ لأسباب تخصّ ضرورة تثبيت سلطة كنعان في وزارة الداخلية، التي نُقل إليها من لبنان، وبهدف تحييد جهاز المخابرات العامة لكي لا يظلّ سلطة ثالثة عالقة بين كنعان، وإدارة الأمن السياسي؛ وآصف شوكت، وجهاز المخابرات العسكرية.
لكنّ مقتضيات شتى، كثير منها ما يزال غامضاً حتى الساعة، اقتضت إزاحة كنعان عن المشهد؛ نهائياً، وليس بعيداً عن واجهة السلطة فقط. والأرجح، بذلك، أنّ كنعان قضى لأنه رفض مغادرة السفينة على نحو ما فعل سليمان (وقبله، راضياً أم صاغراً، أمثال حكمت الشهابي، ناجي جميل، علي دوبا، علي حيدر، رفعت الأسد، محمد الخولي…)؛ ليس لأنّ كنعان اعتبر حصّته في السفينة تأسيسية أساسية، فحسب؛ بل أيضاً لأنّ البديل هو الغرق، عن طريق الإغراق!
تعددت الأسباب، وراء مقتل حسان الشيخ ومحمد سليمان وغازي كنعان، إذاً، ولكنّ القتيل متماثل بمعنى مشترك واحد، على الأقلّ: أنه نموذج من نماذج الحطب الذي احتطبه نظام «الحركة التصحيحية» ـ على نحو منهجيّ منظّم، عن سابق وعي وتخطيط ـ من جسوم الشرائح المختلفة لأبناء الطائفة العلوية؛ هنا وهناك، من قرى الفقر الفلاحية النائية، إلى ضِيَع الطبقة الوسطى شبه المدينية، حيث الكليات العسكرية تخرّج ضابط المشاة مثل ضابط الأمن، والطيّار مثل المهندس الفنّي، والطبيب البشري مثل خبير الفيزياء النووية…
حطب احتُطب لكي يكون وقود اشتغال نظام الاستبداد والفساد والنهب، فمَن لم يحترق بلهيب «داعش»، أحرقه رشّاش آل الأسد!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي