عشر حقائق استراتيجية بعد تحرير حلب وقبل تنصيب ترامب/ د. عصام نعمان
دشّن تحرير حلب من الإرهابيين مرحلة جديدة من الصراع في سوريا وعليها، بل من الصراع في الإقليم وعليه. لا غلوّ في القول إن إعلان وقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية قبل ساعات من انبلاج فجر عام جديد، يشكّل حلقة متقدّمة في سياق الصراع، جرى استعجالها لتكوّن بمفاعيلها البعيدة المدى امراً واقعاً قبل تنصيب رونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في 20 يناير 2017.
حقائق عشر استراتيجية تنطق بها ملامح مرحلة الصراع الجديدة :
أولاها أن إعلان وقف إطلاق النار ينطوي على تفاهم يرتقي الى مستوى اتفاق استراتيجي بين روسيا وتركيا وإيران لتدبّر شؤون إقليم غرب آسيا الممتد من جنوب شواطئ بحر قزوين الى شرق شواطئ البحر المتوسط، والمشاركة تالياً في رسم الخرائط السياسية لمصائر بلدانه ومصالحها، من خلال منافسة محمومة مع الولايات المتحدة ترتقي الى مستوى حرب باردة.
ثانيتها أن الاتفاق الثلاثي ينطوي على شريك رابع ضمني هو سوريا. إيران تتصرف كوكيلة لسوريا في مداولات قادة الاتفاق، وروسيا كحليفة داعمة لها.
ثالثتها أن الرئيس بشار الأسد بكّر في التزامه إعلان وقف اطلاق النار، واعتبره مدخلاً للإصلاح السياسي والدستوري، ولتأليف حكومة جديدة. وما كان الأسد ليفعل ذلك لولا ان تحرير حلب أوجد ميزان قوى جديداً لمصلحة حكومته يمكّنها من تعزيز مركزها وتغليب شروطها في المفاوضات المقبلة مع اطراف المعارضة السورية، سواء في الاستانة (كازاخستان) أو في جنيف.
رابعتها أن رجب طيب اردوغان كرّس باتفاقه مع روسيا وإيران استدارةً واضحة بعيداً عن الولايات المتحدة التي باتت في نظره حليفة مموّلة ومسلحة لخصومه من الأكراد السوريين المتعاونين مع حزب العمال الكردستاني والمنخرطين في مشروع لإنشاء كيان سياسي للاكراد بين سوريا والعراق وتركيا.
خامستها، أن السعودية استشعرت خسارتها معركة قلب النظام في دمشق (والعراق) بسبب فتور الولايات المتحدة في الحرب ضد خصومها في سوريا (واليمن) فاختارت انتهاج سياسة تحديد الخسائر في ساحاتي سوريا والعراق بتعبئة الجهود الرامية إلى إقامة جبهة خليجية وعربية مناهضة لإيران، وبمحاولة إقناع الولايات المتحدة بضرورة معاودة دعمها وحلفائها لمجابهة طهران.
سادستها، أن الولايات المتحدة استشعرت مخاطر الاتفاق الثلاثي وانعكاساته السلبية على نفوذها ومصالحها في غرب آسيا، كما على أمن إسرائيل، فتظاهرت بتأييد اعلان وقف اطلاق النار في سوريا، إلاّ انها ارفقت ذلك بإعلان سلسلة عقوبات صارمة ضد روسيا (بينها طرد 35 دبلوماسياً وإغلاق مجمّعين روسيين في ولايتي نيويورك ومَرلاند لهما صلة بأنشطة استخبارية) بدعوى ثبوت علاقتها بهجمات إلكترونية ضد مقار الحزب الديمقراطي، أثناء حملة الانتخابات الرئاسية، الامر الذي سيؤدي الى إرباك ترامب في سعيه الى التلاقي مع فلاديمير بوتين على محاربة الإرهاب، ولاسيما تنظيم «داعش» ، واعتباره قاسماً مشتركاً للتعاون بينهما على الصعيد الإقليمي.
سابعتها، أن قلق «إسرائيل» تضاعف بعد الاتفاق الثلاثي. ذلك أنها تشعر، ولاسيما بعد موافقة واشنطن الضمنية على قرار مجلس الأمن الدولي بإدانة الاستيطان ووجوب وقفه، بأن إدارة اوباما قد استكملت، على حد تعبير مدير الاستخبارات الإسرائيلية السابق عاموس يادلين، «ارثاً اشكالياً من الإخفاقات في الشرق الاوسط: الوقوف موقف المتفرج مما يجري في سوريا؛ عدم القدرة على الانتصار على «داعش»؛ التسبّب في فراغ إقليمي ملأته روسيا وايران؛ سلسلة أزمات عدم ثقة بين إدارة اوباما وحلفائها في المنطقة». وقد فسرت المؤسسة الحاكمة في «اسرائيل» الاتفاق الثلاثي بأنه تكريس للوجود العسكري الإيراني في سوريا، بالإضافة إلى الوجود العسكري الروسي الأقدم عهداً ودوراً. ذلك كله يؤدي إلى مضاعفة اعتماد الكيان الصهيوني على الولايات المتحدة كحليف وحيد له من جهة، وتعقيد مهمة ترامب الراغب في دعمه وإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني لمصلحة الصهاينة من جهة أخرى.
ثامنتها، أن قرار مجلس الأمن بإدانة الاستيطان الصهيوني ووجوب وقفه قضى في الواقع على ما يسمى العملية السياسية، اي «خيار» المفاوضات بين «اسرائيل» والفلسطينيين. ذلك ان الفلسطينيين لا يستطيعون بعد ذلك القرار العودة الى طاولة المفاوضات، كما سيستنتجون بأن التجاذب مع مطالبهم سيأتي من الامم المتحدة وليس من التفاوض مع «اسرائيل» وفق شروطها، وأن إيران ستغتنم الفرصة المتاحة لمضاعفة دعمها لتنظيمات المقاومة الفلسطينية التي سيبدو نهجها منسجماً مع قرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية.
تاسعتها، أن ايران التي تحظى بنفوذ واسع في العراق ومثله في سوريا، وخصوصاً بعد وقف اطــلاق النار فيهـا وبالتالي توسيــع جبهة القــوى المضادة لـ «داعش» و»النصرة» وحلفائهما وترجيح القضاء عليهما، ستحظى بميزة استراتيجية إضافية، هي وصولها الى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط عبر جسر بري- عراقي- سوري، وإن من شأن ذلك ردع «اسرائيل» بل تهديد وجودها اذا ما حاولت مهاجمة ايران للقضاء على صناعتها النووية، اذّ تصبح هدفاً سهلاً لصورايخ ايران البعيدة، كما القريبة المدى على طول خط جغرافي متواصل من شواطئ بحر قزوين شرقاً إلى شواطئ البحر المتوسط غرباً.
عاشرتها أن نجاح محور المقاومة بالتعاون مع روسيا وتركيا في إجلاء «داعش» و»النصرة» عن المناطق التي يحتلها الإرهابيون في العراق وسوريا، لن يقضي على ظاهرة الإرهاب كلّها، ذلك ان تنظيمات الإرهاب ستعود الى نهجها القتالي القديم القائم على تنظيم خلايا «نائمة» بين السكان الآمنين وتدريب «ذئاب منفردة» مندسين بين الأهالي في المدن والقرى، والهجوم بهؤلاء جميعاً في أوقاتٍ متفاوتة وأماكن مختلفة على الإنسان والعمران في كل مكان، من هنا تتضح حقيقة ساطعة هي أن القضاء على الإرهاب مسار وليس مجرد قرار، وأن الأمر يتطلب استراتيجية متكاملة الجوانب والأبعاد والأطراف والساحات، وأن الجهد الرئيس يجب ان يتركّز على استهداف أسبابه وجذوره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن ذلك يتطلب زمناً طويلاً.
إنها حقائق عشر تنطوي على عشرات التحديات وتضج بصراعات مريرة تتطلب عشرات السنين لحسمها.
*كاتب لبناني
القدس العربي