علمانية الدولة وعلمنة المجتمع/ حيدر إبراهيم علي
أثار تصريح وزير الثقافة المصري الجديد (حلمي النمنم) والذي قال فيه بعلمانية الدولة في مصر، جدلا وحملة شعواء يقودها السلفيون والمحافظون الإسلامويون. ورغم أن اختيار الوزير صاحب التاريخ المهني المشرف والمتقدم، قد أغضب تلك الفئات والجماعات الفكرية منذ البداية، إلا أنهم وجدوا في التصريح فرصة لا تعوض في الإنقضاض عليه. وهذه الحملة ليست مصرية داخلية، ولكنها واحدة من تمارين القوى السلفية، والدينية المحافظة والتقليدية في تكريس تكتيكات الإرهاب الفكري والابتزاز في مواجهة الفكر الحر عموما والمستنير على وجه الخصوص. وقد نجح تكتيك توظيف الدين واحتكاره، من خلال استخدام لغة التكفير والاقصاء في لجم كثير من المثقفين الجادين واسكاتهم. وصار عدد من المثقفين يمارس نوعا من الرقابة الذاتية قبل أن يكتب أو يتحدث، وهذا يعد من انتصارات السلفيين والمحافظين في نشر محاكم تفتيش عصرية لا تستخدم العنف المباشر، ولكنها في النهاية تفرض رؤيتها للحقيقة.
نلاحظ أنه من أهم تكتيكات القوى المحافظة والسلفية في معركة التجديد والتقليد، هي تحريف، وتحوير، وشيطنة المفاهيم والمصطلحات باعتبارها أساس البناء الفكري للمثقف الجاد. وبعد تثبيت هذا التحريف، تجيء عملية إطلاق الصفات والنعوت والتصنيفات، ولتبدأ عملية مطاردة الساحرات. ففي حقبة الحرب الباردة وحتى انهيار المعسكر الاشتراكي عام 1991، كان إطلاق صفة « شيوعي» بعد شحن المفهوم بمعاني ودلالات الإلحاد والإنحلال وزواج الاخوات والمشاعية؛ كفيلا بجعل المفكر أو السياسي في حالة دفاع مستمرة. ويتم استنزافه في مجهود من أجل النفي والتصحيح بل التملق الفكري لاثبات أنه ليس ملحدا ولا ضد الدين. وفي الفترة الأخيرة حلت صفة «علماني» محل شيوعي، كسلاح مضاء لدى قوى الابتزاز الفكري المحافظة. فقامت أولا بتشويه المفهوم وشحنه أيديولوجيا لغمر أو دفن المعنى أو المدلول العلمي والتاريخي لمفهوم العلمانية. فقد تم تداوله لدى قطاعات عريضة كمرادف للإلحاد، ويتفلسف بعض السياسيين وفسّر العلمانية :»بأنها طرد الدين من الحياة». وهم مقتنعون باستحالة أن يطالب او يحاول أي مخلوق طرد الدين من الحياة. لأن الدين عنصر حيوي في كيان الفرد الوجودي في عملية البحث عن المعنى والجدوى. وأقصى ما تطالب به العلمانية، هو الدعوة لفصل الدين عن الدولة والسياسة مع كل الاحترام للحريات الشخصية في الاعتقاد والإيمان، شرط أن يكون ذلك شأنا خاصا لا يختلط بالشأن العام الذي هو من مهام الدولة. باختصار، أن تكون الدولة محايدة تجاه الأديان، وهذا منتهى الاحترام لكل الأديان داخل الدولة، وفيه الحماية الكاملة للدين.
سادت فوضى متعمدة في التعامل مع المفاهيم، ساعد الإسلامويون عموما في ترويجها كجزء من المعركة الايديولوجية. والحركة الإسلامية هي في الأصل حركة سياسوية وشعبوية لا تهتم كثيرا بعقول الجماهير وعقولها بل تخاطب عواطفها وغرائزها. لذلك، لم تجعل من مشاغلها الإرتقاء بأفكار المؤيدين لها والمتعاطفين معها، وكانت تكتفي بالولاء والطاعة العمياء بلا نقاش أو اختلافات. وهذا ما جعل كسبها الفكري فقيرا، ونصيبها ليس كبيرا في الفكر المكتوب. فهي تتجاهل الدقة والتدقيق في المفاهيم، خشية اشتغال العقل. فقد كان من الضرورى ومتطلبات الجدل الفكري، أن يفرّق الإسلامويون أولا، بين العلمانية (secular) كنسق فكري وأيديولوجيا ونظام حكم، وبين العلمنة (secularization) كطريقة حياة وثقافة. وهنا قد نعتمد على مفهوم منتشر في البلدان الكاثوليكية- بمثابة الأصل أو الجذر- وهو اللائكية (laic) وهي تعني في اليونانية القديمة، الشعب أو الناس العاديين من غير الكهنة ورجال الدين. ثم صارت تعني الزمني مقابل الروحي. فأصل المفهومين لم يقصد بهما مطلقا حسب المعنى الحرفي أو الاصطلاحي، معاداة الدين أو طرده من الحياة، بل كان القصد باستمرار هو التمييز بين عالمين. وهذا ما افصحت عنه المسيحية في القول:» مالله لله وما لقيصر لقيصر». وهذا الفهم مرفوض مطلقا عند كل حركات الإسلام السياسي، باعتبار أن الإسلام دين ودولة. ولكنهم لا يقدمون أي نص قطعي يؤيد أن الدولة من أركان الإسلام. وهم يعتمدون فقط على تأويل الآيات التي تقول «ومن لم يحكم بما انزل الله فأؤلئك هم الكافرون». وهناك كثير من المسلمين يرون أن الإسلام دين ودعوة، أو دين وأمة، أو دين ومجتمع. أمّا الدولة، فهي تقع ضمن «أنتم أعلم بامور دنياكم». كما أن الفقه الإسلامي الذي اهتم بكل صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياة المسلمين، لم يفرز حيزا معقولا في مدوناته الكثيرة الضخمة، لموضوعات الدولة، والسياسة، أو والتداول السلمي للسلطة مثلا.
إن الاحتجاج على تعبير «دولة علمانية» أصلا، غير منطقي ولا مقبول عقليا. فالدولة هي في الأصل صناعة بشرية صرفة أي لم يصممها الوحي، بل هي من أعلى وأهم محاولات البشرية لتنظيم حياة الناس. والغريب أن عملية تديين الدولة هي واحدة من آليات الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى لإكمال سيطرتها على العقل والحياة الإنسانية. وهذا ما جعل الحركة الإنسانوية، تلك التي جعلت الإنسان مركز الكون، تعلن الحرب على تغول الكنيسة، وتدافع عن كرامة الإنسان الحر الكامل. وهذه بداية العلمانية: رد الاعتبار للإنسان الذي جعلته الكنيسة مجرد وسيلة بينما هو غاية سامية في ذاته. وكانت تلك بدايات صعود البورجوازية، وكان من أهم انجازاتها: الدولة الوطنية أو القومية الحديثة. وتتأسس هذه الدولة على حق المواطنة وليس العقيدة، فهي بالضرورة علمانية وإلا لن تكون. ومن الغريب، أن الإسلامويين يضيقون ذرعا من تسمية دولتهم بأنها: دولة ثيوقراطية أو دينية، نافين أن تكون في الإسلام دولة دينية. ويستخدم بعض «المعتدلين» منهم صفة مدنية « ذات مرجعية إسلامية»، هروبا من مفهوم دينية الدولة.
من ناحية أخرى، تعيش كل المجتمعات المسلمة عملية علمنة تامة، رغم كل محاولات المفاصلة ـ كما يسمونها- عن تلك المجتمعات «الجاهلية» أو المتغربنة. ولم تنقذهم الرمزيات من ملبس ومظاهر، من الإنغماس في المجتمع الاستهلاكي المادي المعلمن. فالمسلمون حسب احصائيات واردات السلع الاستهلاكية هم في المقدمة. وقبل ثمانين عاما، خاطب (طه حسين) في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) (1938) المسلمين، وخاصة المشائخ بقوله إننا نسير سيرة الأوروبيين ونذهب مذهبهم في حياتنا اليومية: « ولكننا ننكر ذلك في الفاظنا وعقائدنا ودواخل نفوسنا فنتورط في نفاق بغيض لا استطيع أن أسيغه ولا أن أسكن إليه. إن كنا صادقين فيما نعلن ونسر من بغض الحياة الأوروبية فما يمنعنا أن نعدل عنها عدولا ونصد عنها صدودا ونطرحها اطراحا». (طبعة 2013، ص41). أما اليوم فقد اكتسحتنا سيرورة العولمة بسلعها وأفكارها، وأصبح من المستحيل أن يدعي إنسان على هذه اليابسة أنه محصن ولم تطله هذه الحياة المعلمنة أي ذات الصلة الوثيقة بمباهج هذا العالم. ولكن ليس هناك ما يمنعه من التدين والتكيف مع الواقع، ولكن ظهر من يرى الحل في تحطيم هذا العالم من أساسه، ووجد (الداعشيون) مبرر أفعالهم الوحشية بسبب العجز عن التكيف أو بناء بديل آخر. وصار من المستحيل صد تطورات القرن الحادي والعشرين بكل علمانيتها وعولمتها. وتكاد عملية التحولات الراهنة أن تكون قضاءً وقدرا، ولذا يمكن للجميع الدعوة بلطف القضاء فقط لا أكثر.
٭ كاتب سوداني
القدس العربي