غرابيل الناقدين/ ميخائيل نعيمة
في المثل: مَنْ غربل الناس نخلوه.
إذن، ويل للناقدين! ويل لهم لأن الغربلة دينهم وديدنهم. فيا لبؤسهم يوم ينظرون خلال ثقوب غرابيلهم فيرون أنفسهم نخالة مرتعشة في ألوف من المناخل! إذ ذاك يعلمون أي منقلب ينقلبون. فيندمون، ولات ساعة مندم!
أجل. إن مهنة الناقد الغربلة. لكنها ليست غربلة الناس، بل غربلة ما يدوّنه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول. وما يدوّنه الناس من الأفكار والشعور والميول هو ما تعوّدنا أن ندعوه أدباً. فمهنة الناقد، إذن، هي غربلة الآثار الأدبية. لا غربلة أصحابها. وإذا كان من الكتّاب أو الشعراء من لا يفصل بين آثاره الأدبية التي يجعلها تراثاً للجميع وبين فرديته التي لا تتعداه ودائرة محصورة من أقربائه وأصحابه فذاك الكاتب أو ذاك الشاعر لم ينضج بعد، وليس أهلاً لأن يسمّى كاتباً أو شاعراً. كذلك الناقد الذي لا يميز بين شخصية المنقود وبين آثاره الكتابية ليس أهلاً لأن يكون من حاملي الغربال أو الدائنين بدينه.
إن شخصية الكاتب أو الشاعر هي قدسه الأقدس. فله أن يأكل ويشرب ويلبس متى شاء وحيث شاء. له أن يعيش ملاكاً. وله أن يعيش شيطاناً. فهو أولى بنفسه من سواه. غير أنه ساعة يأخذ القلم ويكتب. أو يعلو المنبر ويخطب. وساعة يودّع ما كتبه وفاه به كتاباً أو صحيفة ليقرأه كلّ من شاء، ساعتئذ يكون كمن سلخ جانباً من شخصيته وعرضه على الناس، قائلاً: «هوذا يا ناس، فكر تفحصوه. ففيه لكم نور وهداية. وهاكم عاطفة احتضنوها فهي جميلة وثمينة». وإذ ذاك يسوغ لي أن أحك فكره بمحك فكري. وأن أستجهر عاطفته بمجهر عاطفتي. وبعبارة أخرى، أن أضع ما قاله لي في غربالي لأفصل قمحه عن زؤانه وأحساكه. فذاك حق لي كما أن من حقه أن يكتب ويخطب. ما كنت لأهتم بتبيان هذه الحقيقة البسيطة لولا أن الكثيرين من كتّاب العربية وقرائها لا يزالون يرون في النقد ضرباً من الحرب بين الناقد والمنقود. فإذا قال الناقد في قصيدة ما لشاعر ما إنها تافهة فكأنه قال للشاعر نفسه «أنت رجل تافه». وإذا فحص كتاباً لكاتب فوجده ناقصاً من وجوه كثيرة فكأنه صاح من أعالي السطوح أن ذاك الكاتب «رجل ناقص». وكثيراً ما يحدث للناقد أن يعثر على قصيدة أخرى لذاك الشاعر عينه فيقول فيها قولاً جميلاً صالحاً. فإذا طبقنا هذا القول على شخصية الشاعر المنقود كان منه أن الناقد يقول في الشاعر الواحد إنه «رجل تافه» وبعد لحظة أو بعد ساعة، إنه «رجل جميل صالح». ومَن ذا من الذين أعطاهم الله ذرة من العقل والتمييز يناقض ذاته بذاته مثل هذه المناقضة؟ ناهيك بأنه كثيراً ما يقع للناقد ديوان لا يرى فيه بصيص الشاعرية، فيقول في صاحبه أنه ليس شاعراً. أمن الحلال أن نتهم الناقد بالقول إن صاحب الديوان «ليس رجلاً»؟ فقد يكون روائياً من فحول الروائيين، أو فيلسوفاً من أبعد الفلاسفة غوراً. فنفي القوة الشعرية فيه لا ينفي مقدرة الكتابة والتفلسف.
لنقمْ هذا الحد فاصلاً بين شخصية الكاتب والشاعر وبين ما يكتبه الأول وينظمه الثاني، وحينئذ يسهل علينا فهم الغربلة الأدبية والقصد منها.
إن قصد المغربل من الغربلة ليس إلا فصل الحبوب الصالحة عن الطالحة وعمّا يرافقها من الأحساك والأوساخ. والقصد من النقد الأدبي هو التمييز بين الصالح والطالح. بين الجميل والقبيح. بين الصحيح والفاسد. وكما أن مغربل الحبوب ـ إلا إذا كان غرباله آية في الدقة وكان هو ماهراً لدرجة الكمال ـ لا بدّ أن يُسقط من ثقوب غرباله بعض حبوب صالحة مع الطالحة، وتبقى فيه بعض حبوب طالحة مع الصالحة. وهكذا الناقد لا ينجو من زلة أو هفوة. فقد يرى القبيح جميلاً. أو يحسب الصحيح فاسداً. وما ذلك إلا لأنه بشر. والعصمة ليست لبني البشر. فلنحاسب الناقدين بنياتهم أولاً. فإن أخلصوا النية فزلاتهم مغفورة لهم، ومن ثمّ بغرابيلهم. فإن كانت محكمة الصنع، متناسقة الثقوب، وأجادوا هم استعمالها فذاك حدّ ما يحقّ لنا مطالبتهم به.
من الشائع عن الناقدين أنهم قلما اتفق اثنان منهم يوماً على رأي واحد في أمر واحد. وهذا القول قريب من الحقيقة، إذا لم يقصد به التهكم. لان لكل ناقد غرباله، لكلّ موازينه ومقاييسه. وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا على الأرض. ولا قوة تدعمها وتظهرها قيّمة صادقة سوى قوة الناقد نفسه. وقوة الناقد هي ما يبطّن به سطوره من الإخلاص في النيّة، والمحبة لمهنته، والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق، ورقة الشعور، وتيقظ الفكر، وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان لتنفيذ ما يقوله إلى عقل القارئ وقلبه. فالناقد الذي توافرت له مثل هذه الصفات لا يعدم أناساً ينضوون تحت لوائه، ويعملون بمشيئته، فيستحبون ما يحبّ، ويستقبحون ما يقبح. فيصبح، وهو وراء منضدته، سلطاناً تأتمر بأمره، وتتمذهب بمذهبه، وتتحلى بحلاه، وتتذوّق بذوقه ألوف من الناس. وإذا طرق سبيلاً سلكوه. وإذا صبّ نقمته على صنم حكموه. وإذا أقام لهم إلهاً عبدوه وبخروا له وسبّحوه.
غير أن الناقدين طبقات. كما أن الشعراء والكتّاب طبقات. فما يصلح أن يقال في الواحد لا يصلح أن يقال في كلهم. إلا أن هناك خلة لا يكون الناقد ناقداً إذا تجرد منها، وهي قوة التمييز الفطرية. تلك القوة التي توجد لنفسها قواعد ولا توجدها القواعد، والتي تبتدع لنفسها مقاييس وموازين ولا تبتدعها المقاييس والموازين، فالناقد الذي ينقد «حسب القواعد» التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده ولا الأدب بشيء. إذ لو كانت لنا «قواعد» ثابتة لتمييز الجميل من الشنيع، والصحيح من الفاسد، لما كان من حاجة بنا إلى النقد والناقدين. بل كان من السهل على كل قارئ أن يأخذ تلك «القواعد» ويطبق عليها ما يقرأه. لكننا في حاجة إلى الناقدين لأن أذواق السواد الأعظم منّا مشوّهة بخرافات رضعناها من ثدي أمسنا، وترهات اقتبلناها من كفّ يومنا، فالناقد الذي يقدر أن ينتشلنا من خرافات أمسنا وترهات يومنا، والذي يضع لنا اليوم محجة لندركها في الغد هو الرائد الذي سنتبعه، والحادي الذي سنسير على حدوده.
قد يسأل البعض: وأي فضل للناقد إذا كانت مهمته لا تتعدى الغربلة؟ فهو لا ينظم قصيدة بل يقول لك عن القصيدة الحسنة إنها حسنة، وعن القبيحة إنها قبيحة. ولا يؤلف رواية، بل ينظر في رواية ألفها سواه ويقول:
ـ أعجبني منها كذا ولم يعجبني كذا!
فأجيبهم: وأي فضل للصائغ الذي تعرض عليه قطعتين من المعدن متشابهتين، فيقول في الواحدة إنها ذهب، وفي الأخرى إنها نحاس؟ أو تعطيه قبضة من الحجارة البلورية البراقة فينتقي بعضها قائلاً: هذا ألماس. ويقول في ما بقي: هذا زجاج؟ إن الصائغ لم يخلق الذهب ولا أوجد الألماس. لم يخلقهما كما خلق الله العالم من لا شيء، لكنه «خلقهما» لكل من يجهل قيمتهما. ولولاه لظلّ الذهب نحاساً والألماس زجاجاً أو العكس بالعكس. وكم هم الذين يميزون بين الألماس وتقليد الألماس؟
ـ مقدّمة «الغربال»، 1923
الناسك
كان الأديب اللبناني (1889ـ1988) ناقداً وشاعراً وقاصاً وروائياً وناثراً، وفي هذا كله ظلّ أحد أنشط شخصيات النهضة العربية في العقود الأولى من القرن العشرين، وبين الأبرز في التبشير بالحديث والجديد دون التنازل عن الحقّ في «غربلة» النصوص من العثرات والنواقص، والإلحاح على الجودة والسوية الفنية.
وكانت أسفاره في أوكرانيا، ببعثة من الكنيسة الأرثوذكسية، ثمّ إلى الولايات المتحدة حيث قضى قرابة 20 سنة هناك؛ قد أتاحت له الاحتكاك بثقافات متعددة، ومكّنته من تشذيب ذائقته النقدية وتطوير معارفه الفكرية، الأمر الذي أسفر عن مجموعة مؤلفات أغنت المكتبة العربية، في زمانها كما في الفترات اللاحقة، واليوم أيضاً. كذلك كانت صداقته مع جبران خليل جبران ـ وكان نائباً للأخير في «الرابطة القلمية»، وترجم «النبي» إلى العربية ـ سبباً إضافياً لكي تكتسب مؤلفاته صفة التناغم العالي بين الوطن والمهجر.
عمله الأول كان مجموعة قصصية بعنوان «سنتها الجديدة»، 1914، ثم تلتها مجموعة «أكابر»، ورواية «مذكرات الأرقش»، ومسرحية «الآباء والبنون»، والمجموعة الشعرية «همس الجفون»؛ ثمّ تعاقبت مؤلفاته الأخرى في أنواع أدبية شتى: «كان ما كان»، «زاد المعاد»، «البيادر»، «كرم على درب»، «صوت العالم»، «النور والديجور»، «في مهبّ الريح»، «أبعد من موسكو ومن واشنطن»، «اليوم الأخير»، «هوامش»، «رسائل، من وحي المسيح»، وسواها.
اكتسب في السنوات الأخيرة من حياته لقب «ناسك الشخروب»، نسبة إلى قريته الجبلية، في أعالي لبنان؛ حيث اعتاد أن ينعزل قرب شلال، فيتأمل ويكتب؛ ليس منفصلاً، أبداً، عن صخب الحياة ونبض الزمن في أرض البشر.
القدس العربي