مراجعات كتب

فاروق يوسف يرسم خريطة تفصيلية لأزمة التشكيل العربي

 

 

عدنان بشير معيتيق

صدور كتاب «الفن في متاهة» بعنوان رئيسي، تبعه عنوان فرعي «الفن العربي بين المتحف والسوق وإملاءات الفنون المعاصرة « للناقد العراقي فاروق يوسف عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، يعتبر خريطة تفصيلية لأزمة الفن العربي المعاصر ورسما توضيحيا لملامح تجريف تربة الفنون التشكيلية بشكل خاص والفنون البصرية بشكل عام ورصد مسببات الأزمة، من إدارة قاعات عرض ومتاحف ومزادات ونقاد ووسطاء فنيين.

والاستعانة بالأجنبي، الذي تم تعيينه من قبل مؤسسات رسمية على رأس الهرم، بإملاءات من أطراف أخرى تتحكم في الذائقة البصرية في المنطقة، وتتوخى تغيير دفة الحركات الفنية الرائدة والناشئة أيضا لتكريس ثقافة الزائل والمؤقت والسهل و»اللافن»، باعتباره فنا جديدا ومعاصرا في حدود جغرافيا معينة تتزامن مع هجمة تحوير الأفكار والمفاهيم هذه، تغيير وجه عموم المنطقة بتقسيم المقسم وتفتيت التجمعات الكبرى إلى دويلات قزمية بأفكار وموروث ثقافي جاهز جديد، بدون لون ولا طعم ولا رائحة، مسلوبة الإرادة مدجنة غير قادرة على اتخاذ قراراتها المصيرية، بل حتى قراراتها الشخصية، ريبوتات للاستهلاك المحلي تتوقف عن الحركة عندما ينتهي عمرها الافتراضي «القصير جدا» المحدد لها.

مجموعة مقالات الكتاب جاءت بعد مقدمة من الفنان التشكيلي ضياء العزاوي، استعرض فيها جوانب من هذا الإصدار وتوقف عند سؤال مهم يطرحه المؤلف في أغلب مقالات الكتاب «لمن تتوجه كل هذه الفعاليات الفنية الكبيرة بكل تكاليفها الباهظة؟ مع تحول الفنان من إنسان فقير في الماضي إلى كائن متسول في الحاضر، بفعل سياسة الابتزاز المادي المتبعة في هذه المؤسسات، ننفق باسم الثقافة ما يضر بها وبالناس».

ترصد جوانب مختلفة من انهيار القيم الأصيلة وتبديلها بالجاهز الهش بدءا من الفنان إلى الناقد والناشط الفني وقاعات العرض وأصحابها والمتاحف ومن يديرها والمؤسسات الراعية للملتقيات الكبرى، واستبدال الجيد بالرديء وتكريس ظاهرة «الفنان العالمي» وتفشي التقليد والتزوير في الأعمال الفنية الرائدة وتهميش التجارب الحقيقية ورصد العلاقة الملتبسة بين المتلقي والعمل الفني والشبكات المتخصصة في سوق الفن والنوادي التي تتبعها وما يتم فيها من تكريس لعادات وسلوكيات منحرفة كشروط للدخول فيها والظفر بعضويتها. تم استبدال عادات الأكل واستيراد وصفات جاهزة حسب الطلب، «الأكلات السريعة… الجانغ فوود» بتكاليف باهظة الثمن ونتائج تضر أكثر من أن تنفع.

الذائقة البصرية استبدلت بالجاهز أيضا في الحدود التي تسمح به المخططات الموضوعة للتلاعب بهذه الذائقة وإبقاء الرديء وإزالة الجيد منها حتى يتم القضاء على ما تبقى من حساسية فنية بعد أهوال الحروب الطاحنة والاستبداد والاضطهاد السياسي والثقافي والاجتماعي من قبل الانظمة الاستبدادية في المنطقة العربية .

بالإشارة إلى التضحيات التي وضحها الكاتب عن الأجيال السابقة من أجل الرقي بالذائقة البصرية وتحسين صورة المثقف، وبالتالي صورة الإنسان العربي وبالمقابل كشف المؤامرات التي تحاك للنيل من هذا الإنسان وكرامته في هذه الظروف الراهنة والحرجة من تاريخ المنطقة.

بسلب الإرادة الفنية وحق الفنان المبدع في أفكاره ومصادرة أحلامه، كما جاء في الكتاب «السوق عاوز كده» وإملاءات أصحاب صالات العرض والنوادي الفنية في إظهار الفضائحية والفن الهابط بهدف الإخلال بالقيم وإرباك المنظومة الإنسانية في هذه المجتمعات.

يتطرق الناقد فاروق يوسف أيضا إلى النقد الأكاديمي المهيمن على المشهد في داخل أروقة الندوات العلمية والملتقيات الفنية الكبرى ولجان التحكيم والتقييم وعدم إنتاج كتابات نقدية تشكيلية حقيقية تدفع بالمشهد المنهار أصلا ومحاولة النهوض به وبقائه في حدود التدريس الأكاديمي في الجامعات والمعاهد الفنية للأجيال الجديدة بظاهرة «التلقين» لتخريج أجيال تمتهن التدريس لمادة النقد الفني كوسيلة للعيش لا أكثر، من دون المساهمة الفاعلة بالحركة الفنية، ويتضح هذا جليا في ندرة المشاركات الأكاديمية بالنشر في مجال الكتابات التشكيلية في الصحف والمجلات الفنية المتخصصة والعامة والمطبوعات الأخرى من كتب وكتالوجات فنية مما دفع إلى إطلاق اليد في الساحة لكل الاجتهادات من جيد ورديء.

إلا بعض التجارب النقدية الشخصية في هذا المجال التي امتلكت أدواتها الخاصة بعد بحث مضن بعيد عن المؤسسات الرسمية.

فنان تشكيلي من ليبيا

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى