فنانو الأنظمة
نديم جرجوره
باستثناء مواقف قليلة شكّلت غطاءً ثقافياً وفنياً نابعاً من أعماق الشعوب إزاء أحداث كبيرة شهدتها دولٌ عربية عدّة مؤخّراً، ولا تزال دولٌ عربية أخرى تشهدها، بدت مواقف مثقفين/ فنانين عرب في «أقطار» متفرّقة ساذجة وباهتة وجبانة. الجُبن، أسوأ أوصافها. البهتان، أقرب إلى مضامينها. السذاجة قاتلة. كأن هؤلاء يتلطّون في بيانات منسوخة عن قرارات حزبية ذات إيديولوجيات خالدة، لحماية أنفسهم من بطش الأنظمة. يظنّون أن بطش الجماهير أخفّ. أن لعنة المُشاهدين/ المستمعين/ القرّاء أنعم. لا يأبهون بمشاهديهم وبالمستمعين إليهم وبقرّائهم، إلاّ عندما تفيض مخيّلاتهم الفنية بأي شيء يظنّون أنه «إبداع». لكن هؤلاء مكشوفون أمام الملأ. عراة أمام العيون المفتوحة على حركة التاريخ وغليان الجغرافيا.
لكل مثقف/ فنان حقٌّ في اختيار ما يراه ملائماً لانفعاله. هذا مبدأ مُقدّس. لكن القداسة الملطّخة بدماء الشعب (المشاهدون والمستمعون والقرّاء أفرادٌ أساسيون في هذا الشعب) وأرزاقهم وكراماتهم، تُصبح لعنة تحلّ على رؤوس المنفضّين عن حقّ الشعب في الخبز والكرامة والحرية والعدالة. وهذا حقّ أكثر قداسة من أي حقّ آخر. مرتبط هو بجماعات، شكّلت الحراك الفعلي لمجتمع وبلد. لتاريخ وجغرافيا. ولإبداع متنوّع. القداسة الملطّخة بأرواح مسحوقة تحت جزمات سوداء، أو جنازير دبابات، أو أنقاض منازل مشيّدة بالتعب والعرق والقهر، يُفترض بها أن تُصبح حكماً ضد المنضوين في ظلّها على حساب ما يبغيه الشعب من خبز وكرامة وحرية وعدالة. بهذا، يُصبح المثقفون/ الفنانون المنبطحون تحت نير الأنظمة القامعة «مشاركين» في الجرائم المرتكبة ضد الشعب.
الأمثلة عديدة. تونس البداية. مصر مبلورة الخطّ التصاعديّ للحراك الشعبي العفوي والسلميّ. من وقف إلى جانب السلطة التي أزهقت أرواح الناس وكراماتهم، لا يزال قابعاً في لوائح العار. والنقاش مستمرّ: الغفران أم لا. ما يجري حالياً في سوريا مُقلق: بيانات متضاربة ومتناحرة. بيانات مرتبكة. والأخطر: تخوين الآخرين أو شتمهم، تماماً كما تفعل أبواق النظام الحاكم. مهما بلغت وقاحة فنان في ارتدائه عباءة النظام، يُفترض به ألاّ ينزلق إلى قعر الرداءة في تحقير الآخرين، زملاء مهنة، بل شركاء وطن. يُفترض به ألاّ يستعير مفردات ساسته في مخاطبتهم أبناء شعوبهم المطالبين بخبز وكرامة وحرية وعدالة. يُفترض به أن يُدرك معنى احترام الذات أولاً، كمدخل إلى احترام الآخرين له. يُفترض به أن يكون، قبل كل شيء، فناناً حقيقياً، لا ينتفض ضد ناسه، ولا يتطاول على حقوقهم المشروعة، ولا يسقط في فخّ الخطاب السلطوي.
ليست المشكلة الفنية هذه سورية فقط. الأزمة قائمة في مصر لغاية الآن. الصراع بين فنانين موالين لسلطة بائدة وآخرين مناهضين لها ولرموزها ولثورتها المُضادة، مستمرّ. إنه أخطر من الثورة على السلطة. المعركة طويلة. قسوتها كامنةٌ ليست في مواجهة النظام القائم أو المخلوع فقط، بل في مقارعة مثقفين/ فنانين مستمرّين في دفاع أحمق عنه.
السفير