في الذّكرى 42 لرحيل عميد الأدب العربي طه حسين: حياة صاخبة ومحطات حافلة بالتحدي في تاريخ صاحب “الأيّام”
محمّد محمّد خطّابي
غرناطة ـ «القدس العربي» : عميد الأدب العربي طه حسين، من مواليد قرية مغاغة (محافظة المِنيا) في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1889، والتحق بالرّفيق الأعلى في يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر 1973 عن عمر يناهز 84 عاماً، في مثل هذا التاريخ من السنة الجارية 2015 مرّت 42 سنة على رحيل هذا الرّائد في مجالات التنوير والتحديث والكتابة والتأليف والإبداع والتعليم.
قال أبو عليّ البصير:
لئن كان يهديني الغلامُ لوجهتي
ويقتادني في السّيرِ إذ أنا راكبُ
فقد يستضيء القومُ بي في أمورِهم
ويخبُو ضياءُ العينِ والرّأيُ ثاقبُ
وهذا ما ينطبق تماماً على أديبنا الكبير الرّاحل طه حسين، تلك الشخصية العنيدة المتمرّدة، التي أحدثت هزّات عنيفة في حياتنا الأدبية، ذلك الطوح التوّاق إلى التجديد والتحديث، والمفكر العملاق الذي تصدّى لنوائب الدهر، وصروف الزمن، لقد كان طه حسين هادياً لنا، ولطالما استضأنا بآرائه الثاقبة، في العديد من أمورنا وآدابنا وتاريخنا، وإن خبا ضياءُ عينيه، وحُرم نعمة البصر والنور.
كان شخصية فريدة من نوعها، لا يضاهيه فيها سوى أمثاله من العظماء الأفذاذ والعباقرة القلائل الذين أحدثوا تغييراً جذرياً في الفكر والثقافة والعلم والأدب والإبداع، إذا ما جال المرء بفكره في تواريخ الأمم على اختلافها. فبأيّ كلمات يمكننا أن نصف ذلك الرجل القروي الفقير الذي انحدر من أعالي الصّعيد، من بيئة تسودها تقاليد بالية، وعادات سقيمة، لا تسمح لأحدٍ أن يتخطّى حدودَها الضيّقة إلاّ لرجلٍ من طينة طه حسين.
الجميع يعرف قصّة كفاحه المريرة، وتتبّع مراحلَ حياته الصاخبة المضطربة الحافلة بشتّى ضروب التحدّى والصّمود، ثم التفوّق والنجاح إلى اليوم الذي انتقل فيه إلى مثواه الأخير. وقد حقّق ما كان يصبو إليه منذ كان في قريته، كما يعرف الجميع، مدى ما تركه بيننا، ونحن تلامذة تلاميذه، من صدىً عميق، لا زال أثره يفعل فينا فعلَ السّحر، ويبعث على الزّهو، والفخار، والإعجاب بشخصية ذلك الرّجل الأسطورة الذي لا يجود الزّمان بأمثاله إلاّ بعد مراحل متباعدة من الدّهر، كالمرحلة الزمنية التي تفصل بينه وبين قرينه أبي العلاء.
كان طه حسين صبيّاً مغموراً كسائر صبيان قريته يركضون في جنبات القرية وأرباضها، ويلعبون ويعبثون، وهمّهم الوحيد هو اختزان أو حفظ أكبر قدر من سور القرآن الكريم. كما كان عليه الشّأن في جميع بوادي وقرى مصر في ذلك الإبّان.
كان يقرأ القرآنَ على الأموات في الجنائز مع أترابه، وكان كلّ مبتغى والده منه يتمثّل في قوله له في يومٍ من أيّام خريف 1902 :»أمّا في هذه المرّة، فستذهب إلى القاهرة مع أخيك، وستصبح مجاوراً، وستجتهد في طلب العلم. وأنا أرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضياً، وأراك من علماء الأزهر، وقد جلستَ إلى أحد أعمدته، ومن حولك حلقة واسعة بعيدة المدى».
غير أن هذا الصبيّ تخطّى ذلك كلّه إلى أبعد بكثير ممّا كان يتمنّاه له والدُه، أو يظنّ هو ذاته عن نفسه. أجل لقد حقّق طه حسين الكثير، وهو لم يبلغ ما ناله من شهرة واسعة، ومجد أدبي كبير عن طريق الصّدفة أو الحظ، بل لقد كانت نفسه مهيّأة لمثل هذه الرسالة الكبيرة التي اضطلع بها في حياته، والتي نقف نحن اليوم، ويقف عارفو آثار طه حسين، ودارسو تاريخه الشخصي ذاهلين مشدوهين ممّا حققه ذلك الصبيّ الأعمى الفقير.
ولنبحث منذ البداية عن بعض الجوانب من مظاهر الطموح المبكّر في شخصية هذا الأديب الكبير، منذ صباه البعيد في قريته بمغاغة في صعيد مصر.
يحدّثنا طه حسين في كتابه «الأيّأم» عن «القناة التي تنتهي عندها الدنيا» حسبما كان يخيّل إليه، وكم كان يتمنّى، أن لو استطاع أن يحمله أحد إليها، أو يتخطّاها هو نفسه ليرى ما وراء هذه القناة التي كانت بالنسبة له بمثابة عالم جديد مسحور، فيه بعض ما تشتهي نفسُه وتتوق إليه، وفعلاً تحقّقت أمنيته فإذا به: «يذهب غير ما مرّة إلى حيث كانت تقوم وراء القناة شجرات من التّوت فيأكل من توتها ثمراتٍ لذيذة»، كما يذكر أنه تقدّم غير ما مرّة إلى حديقة المعلّم وأكل فيها غير مرّة تفّاحاً، وقطف له فيها غيرَ مرّة نعناعاً وريحاناً» .
أحلام الفتى الطموح
إنّ أكبر ما كان يظفر به المرء في قريته هو لقب الشيخ، وها هو ذا صبيّنا سرعان ما أصبح شيخاً وهو لمّا يتجاوز التاسعة من عمره. غير أنه لا يقنع، ولا يقتنع بهذا اللقب، إذ ما هي إلاّ أيام حتى سئم لقبَ الشيخ، وكره أن يُدعى به، كما أنه: «لم يلبث شعورُه أن استحال إلى ازدراء للقب الشيخ» كان كلّ منيته أن يعثر على خاتم سليمان «الذي كانت حاجته إليه شديدة «. كما كان يقضي طوال النهار في راحة مطلقة، ولعب متّصل ينتظر أن تنتهي السنة، ويأتي أخوه الأزهري من القاهرة» إنه ينتظره لأنّ والده وعده بأن ّ أخاه هذا سيصحبه معه إلى القاهرة ليجاور في الأزهر. أجل تلك كانت منيته، وهي الإنسلاخ من قريته، والبحث عن بيئة جديدة مناسبة حتى لو كانت هذه البيئة في الأزهر، ويعترف لنا طه حسين في «الأيّام» أنه لم يكن حزيناً قطّ لفراق الأهل والقرية في الطريق إلى القاهرة، التي ما أن يصلها حتى بدأ يختلف إلى الأزهر حيث وجد كلَّ شيء على ما كان عليه الأمر في قريته، ولمّا سمع العالِمَ الأزهريّ يقول: «ولو قال لها أنتِ طلاق، أو أنتِ ظلام، أو أنتِ طلال أو أنتِ طلاة، وقع الطلاق، ولا عبرة بتغيّر اللفظ.. فَاهِمْ يا أدع..؟»، حتى إذا انصرف عن الدّرس سأل أخاه ما الأدع..؟ فقهقه أخوه وقال له : الأدع الجدع في لغة الشيخ..»! وأقسم طه حسين أنه بعد ذلك احتقر العلمَ منذ ذلك اليوم.
إقرأ يا أعمى
ويتمثّل لنا مظهر آخر من مظاهر هذا الطموح المبكّر كذلك في حديث الفتى إلى أخواته، وهو ما زال في القرية، حيث كان يقول لهنّ: «بأنه سوف يذهب إلى أوروبّا، وينعم فيها بالحياة الهادئة الهانئة هناك، وأنه سوف يصطحب معه زوجةً مثقفة ليست غافلة مثلهنّ ولا جاهلة مثلهنّ». كان الجميع يضحك ويسخر من أحلام هذا الفتى الطموح بمن في ذلك أهله وذووه وأصحابُه ومعارفُه، كيف السّبيل إلى تحقيق آماله وهذا أستاذه يصيح فيه في ازدراء وسخرية مريرين: إقرأ يا أعمى.. وهذا ابن خالته يهزأ منه ويصفه بالجاهل الذي لا يفقه من تاريخ بلاده شيئاً، ولا تتعدّى علومُه حفظه للقرآن، وبعض قواعد النحو والصّرف. غير أن طه حسين لم يثنه شيء عن مواصلة الطريق بالإيمان الذي رسخ في أعماقه منذ قرّر البحث عن خاتم سليمان، منذ أن اكتشف عالمَه الجديد من وراء القناة حيث الحقول الخُضر، والسهول الخصبة تجري فيها المياهُ عذبةً سلسةً منسابةً من كلّ الجوانب، وحيث تكثر أشجار التّوت والتفّاح..!
إنّ الظلام الذي أطبق على طه حسين لم يزده إلاّ إيماناً وقوّة وعزماً لمضاعفة طموحه وتطلعاته وانطلاقه بصبر حثيث، وبعزيمة لا تُقهر، وإرادة لا تعرف الوَهن نحو سبر كلّ مجهول، وتحقيق أهدافه، أو ربّما بلوغ غاياتٍ لم تخطر له على بال.
وما هي إلاّ سنوات قليلة لا تتعدّى الأربع حتى سئم طه حسين الأزهرَ والأزهريين، ولم يعد يطيق المكوثَ فيه أكثرَ ممّا قضى من مدّة، والتي ذاق فيها من ضروب المرارة والسخرية والعَنت الشيء َالكثير، كيف لا وهو يسمع بين الفينة والأخرى من هذا وذاك تلك الكلمة القاسية الجارحة والمؤلمة: يا أعمى!
حينئذ قرّر طه حسين أن يهجر الأزهر، وانتسب إلى الجامعة المصرية، وتذكّرنا هذه الحادثة بالشاعرالرقيق المرحوم كامل الشنّاوي الذي كان يقول هو الآخر: إنه حينما وضعَ العمامةَ عن رأسه، وضعَ معها كلَّ أحزانِه وهمومِه.
وقبل أن يهجر طه حسين الأزهر كانت له فيها صولات وجولات ومعارك، تشهد على تفوّقه ونضجه وطموحه وإيمانه بنفسه، لقد كان يجادل ويناقش بالعقل والبرهان الطلبةَ والشيوخَ أنفسَهم. «وفي ذات يوم جادل الشيخَ في بعض ما كان يقول، فلمّا طال الجدال غضب الشيخُ وقال للفتى في حدّة ساخرة: أسكت يا أعمي ما أنت وذاك».. «وامتلأت نفسُ الفتى حزناً، وغيظاً، وساء ظنّه بالطلاّب كما ساء ظنّه بالشيوخ».
فولتير مصر وأبو علائها
ومن مظاهر هذا الطموح أيضاً في تلك الفترة التحاقه بالمدرسة الليلية التي أنشأها الشيخ عبد العزيز جاويش لتعليم اللغة الفرنسية لمن يشاء من الطلاّب، إذ لم يتوانَ طه حسين لحظة في الانضمام إلى هذه المدرسة طمعاً في تحقيق رغبته، واكتساب علم أفضل، ومنزلة أعلى سائراً في الطريق الذي اختطّه لنفسه التوّاقة نحو اقتحام كلّ مجهول. كما أنه كان يكتب بغزارة في كبريات الصحف الأدبية والسياسية، ويتعرّف إلى رجالات مصر وأساتذتها الكبار، حيث تعرّف على أحمد لطفي السيّد الملقّب بأستاذ الجيل ومدير «الجريدة»، وصاحب الدعوة العقلانية، وإذاعة المنطق الأرسطي، الذي كان يشجّع طه حسين، ويرسم له خطط المستقبل ليكون أديباً كبيراً، وممّا كان يقول له: «أنت فولتير مصر في المستقبل، وأنت أبو العلائنا» يعني شاعر المعرّة. ثمّ نال طه حسين أوّلَ دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية عام 1914 عن أبي العلاء المعرّي نفسه. وبعد ظروف صعبة ابتعث طه حسين إلى فرنسا، حيث حصل هناك على رسالة الدكتوراه، كذلك عن فلسفة ابن خلدون، وفي فرنسا حقّق أكبرَ قسط من أمانيه، وأحلامه وطموحه، حيث شاء له القدر أن يلتقي هناك مع رفيقة عمره التي كانت تقرأ له أشعارَ «راسين» بصوتٍ عذبٍ رخيم . وعاد طه حسين إلى مصر متشبّعاً بالمناهج العلمية الحديثة في دراسة التاريخ والآداب التي تلقّاها عن أساتذة ومستشرقين كبار في فرنسا، فنشر كتابَه «في الشعر الجاهلي»، وقد أعاد طبعَ هذا الكتاب بعد أن بدّل عنوانَه، وغيّر في بعض فصوله وإن لم يحد فيه عن الأفكار الرّئيسية التي أثارها في الطبعة الأولى.
ويتجلّى لنا طموحُه كذلك في العديد من أعماله الأدبية التي تزخر معظمها بالرموز والدلالات العميقة عمّا كان يعتمل في نفسية هذا الصبيّ من حوافز التطلّع أبداً نحو الأمام، واكتشاف عوالم جديدة وآفاق بعيدة، يتجلّى هذا في أعماله القصصية، كـ»دعاء الكروان، والمعذّبون في الأرض، وأحلام شهرزاد، وشجرة البؤس، وأديب، والأيّام»، وغيرها ممّا يضيق المجال هنا للتعرّض لها بالتفصيل.
العلم والتعليم والإيمان بالعمل
لقد بنى طه حسين طموحَه على عاملين اثنين أساسيين في حياته اوّلهما: العلم، أو التعليم، فبالتعليم استطاع أن يشقّ لنفسه طريقاً أفضى به إلى الأزهر، وبالتعليم انتقل من الأزهر إلى الجامعة المصرية، وبالتعليم كذلك نال تلك المكانة المرموقة بين معاصريه، وبين من جاؤوا بعده. وبالتعليم انتقل من حياة الشظف والفقر والخصاص إلى حياة الرفاهية والنعيم، وبه انتقل من الغضارة إلى الوزارة، حيث كان مستشاراً، ثم وزيراً للمعارف والتعليم، وبالتعليم كذلك بلغ عمادةَ الجامعة ثمّ عمادة الأدب العربي.
وكان يقول: «إنّ العلم كالماء والهواء يجب أن يكون متاعاً لكل أفراد الشّعب، ولا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية من دون أن يتعلّم الشعب» ولهذا السبب لُقّب بوزير الماء والهواء! وفي كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» يعرض طه حسين آراءَه في فى العلم والتعليم، وفيه يقول: «كي ننشئ لمصر الحديثة أجيالاً من الشباب كراماً أعزّاء، لا يتعرّضون لمثل ما تعرّض له بعض أجيالنا السابقة من الذلّة والهوان، سبيل ذلك واحد لا ثانية لها وهي بناء التعليم على أساس متين»، وهكذا يصرّ على التعليم الذي يفضي إلى المقاصد النبيلة والكريمة للأمّة من حرية وديمقراطية حقّ كقاعدة أساسية لبلوغ الغايات من استقلال وتقدّم ورقيّ ورخاء وازدهار».
والعامل الثاني الذي يؤكّد به هذا الطموح هو الإيمان بالعمل، فطه حسين لم يعرف اللهو في حياته إلاّ لماماً، بل على العكس كان شغوفاً بالعمل، مهووساً به إلى أبعد الحدود، لأنه كان يرى فيه الدّافع الأساسي لتغيير مجريات الأمور، وتحريك السّواكن، يقول في كتابه «مرآة الضمير الحديث» : «إنّ تغيير الأشياء لا يكون بالكلام الذي يُقال عن إخلاص أو تكلّف، أو عن تفكير أو اندفاع وإنما يكون بالعمل الذي ينقل الأشياءَ من طور إلى طور» كما يؤكّد هذه المعاني في كثيرٍ من كتبه سواء التاريخية، أو الأدبية وغيرها.
كان طه حسين شاهداً على عصره، كان الأديب الذي عاش عصرَه، واستوعبه، وقدّم له الكثير، فكان بحقّ رائداً من روّاده، ومثالاً نادراً يُحتذى به، في تخطّيّ العقبات، وتأكيد العزم، وتحقيق الغايات، لما عًرف عنه من جرأة، وشجاعة نادرتين، وفهمٍ عميق للحياة، واطّلاعٍ واسع على ثقافات الأمم قديمها، وحديثها، الشيء الذي أهّله بحقّ أن يُلقّب عن جدارة واستحقاق، بلقب «عميد الأدب العربي» . وكما نذكره نحن اليوم في ذكرى رحيله الثانية والأربعين، وفي كلّ ذكرى، لابدّ أن التاريخ الإنساني سوف يذكره كذلك، ويضعه في مصافّ عظمائه وكبار مفكّريه وكتّابه وشعرائه أمثال المعرّي وبشّار وبورخيس وابن خلدون وديكارت وراسين الذين كان معجباً بهم .
القدس العربي