صفحات الثقافة

قصيدة السحاب الزائل/ أنسي الحاج

 

 

هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ النثر محلول ومرخي ومبسوط كالكف، وليس شد أطرافه إلا من باب التفنن ضمنه. طبيعة النثر مرسلة، وأهدافه إخبارية أو برهانية، إنه ذو هدف زمني، وطبيعة القصيدة شيء ضد. القصيدة عالم مغلق، مكتف بنفسه، ذو وحدة كلية في التأثير، ولا غاية زمنية للقصيدة.

النثر سرد، والشعر توتر، والقصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير، النثر يتوجه إلى شيء، يخاطب وكل سلاح خطابي قابل له. النثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة، والتوسع، والاستطراد، والشرح، والدوران، والاجتهاد الواعي ـ بمعناه العريض ـ ويلجأ إلى كل وسيلة في الكتابة للإقناع. الشعر يترك هذه المشاغل: الوعظ والإخبار والحجة والبرهان، ليسبق. إنه يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا في النفس، أقل تورطا في الزمن المؤقت والقيمة العابرة، أكثر ما تكون امتلاكا للقارئ، تحريرا له، وانطلاقا به، بأكثر ما يكون من الإشراق والإيحاء والتوتر.

أما القصيدة فهي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه. القصيدة، لتصبح هكذا، يجب أن تقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها وإنما لتعيد النظر فيها بحيث تزيد من اختصارها وتكريرها، وشد حزمتها. القصيدة، لا الشعر، هي الشاعر. القصيدة، لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر، بشعره، إلى خلقه. قد يكون في ديوان ما شعر رائع ولا يكون فيه قصيدتان، بل يكون كله قصيدة واحدة، فالقصيدة، العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه، فالنثر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلا إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه.

النثر، تقول العرب، خلاف النظم من الكلام. النثر، يقول الفرنجة، كل ما يقال ويكتب خارج النظم. القصيدة من أبيات، بل يذهب العرب إلى الاشتراط: ما فوق السبعة أو العشرة أبيات؛ والتحديد الكلاسيكي للقصيدة عند الفرنسيين هو أن تكون مجموعة كبيرة من الأبيات. بكلمة: النثر خلاف الشعر (لأن الشعر، لا القصيدة وحسب، هو النظم في نظر التقليديين) والقصة، وهي كائن نثري، خلاف القصيدة التي هي كائن شعري. وهنا يبدو البحث في قصيدة النثر هذيانا.

لكن التحديد الكلاسيكي للأشياء خاضع للتطور، وما يشتقه أو ما يبدعه التطور ويبقى حيا أي ملبيا لحاجات الإنسان لا محض موجة تكسرها في أثرها موجة، يحتل مكانه إما بجانب المفاهيم السابقة أو على أنقاضها. وما يجوز على المفهوم يجوز على العطاء. قصيدة النثر احتلت في أدب كأدب فرنسا مكانها الطبيعي حيث تمثل أقوى وجه للثورة الشعرية التي انفجرت منذ قرن. أما عندنا فأخف ما تنعت به، على العموم ، أنها هجينة، وأرصن ما يقول فيها المترصنون أنها سحاب زائل يغشى السماء الأزلية. خارج بضعة من المرافقين المتفهمين، يمكننا أن نرى المهلل الذي يهلل لكل جديد سعيا خلف إرواء ظمأ سطحي إلى إثارة كإثارة الزي، والصعلوك الذي يعلق كحشرة بجسم كل انتفاضة تعشقا منه للتهريج والظهور، المعرض، المهاجم، المتشكك، والمتشكك الذي يرجح أكثر ما يرجح، أخيرا، في كفة الأعراض.

هل للتحفظ مبرر هنا؟ أجل، ما دام مدّعو قصيدة النثر على جهل تام بها وإساءة إليها وإسفاف فيهم، يتصدرون الواجهة، وما دام لم ينقض على معرفتنا الجديدة بقصيدة النثر عامان، وما دام العطاء الحقيقي ضمنها، لا التقريبي والصدفي، لم يأخذ بعد طريقه إلى الناس. إننا نتحفظ لكن هل يحق لنا رفض الشيء قبل رؤيته؟ أليس انغلاقا على الذات وغرورا أحمق وموتا، أن نصرخ: «قصيدة النثر غير صالحة»، و«قصيدة النثر ستموت» وليس بين يدينا نتاج للحكم؟ «الشعر» يقول قائل، «هو الموسيقى كعنصر أول، والنثر خلو من الموسيقى التي يخلقها الوزن والقافية. موسيقى الوزن والقافية هي التي في الدرجة الأولى، تحث في القارئ الهزة الشعرية». لكن لا. موسيقى الوزن والقافية موسيقى خارجية، ثم أنها، مهما أمعنت في التعمق، تبقى متصفة بهذه الصفة: إنها قالب صالح لشاعر كان يصلح لها.

وكان في عالم يناسبها ويناسبه. لقد ظلت هذه الموسيقى كما هي ولكن في عالم تغير، لإنسان تغير ولإحساس جديد. حتى في الزمان الذي كان زمانها، لم تكن موسيقى الوزن والقافية وحدها ولا أهم ما يزلزل القارئ. وقارئ اليوم لم يعد يجد نفسه في هذه الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة أذنه. ثم إن الشاعر يأتي قبل القارئ، لأن العالم المقصود هو من صنعه. والشاعر أعلم بأدواته، والشاعر الحقيقي لا يفضل الارتياح إلى أدوات جاهزة وبالية، تكفيه مؤونة النفض والبحث والخلق، على مشقة ذلك. والشاعر الحقيقي، اليوم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون محافظا.

إن معارضة التقدم عند المحافظين ردة فعل المطمئن إلى الشيء الجاهز، والمرتعب من الشيء المجهول المصير. التقدم، لمن ليس مؤمنا بما يفعل، مجازفة خرقاء، وهكذا يبدو للمقلدين والراكدين. وبين المجازفة والمحافظة لا يترددون، فيحتمون بالماضي ويسحبون جميع الأسلحة من التعصب إلى الهزء إلى صليبية المنطق التاريخي، بل إلى صليبية منطق تاريخي زوروه بمقتضى سفينتهم، فلم يروا في تاريخ الشعر غير ما يؤيد رجعتهم ويحك العواطف القشرية للجماهير، وجعلوا يستخدمون المنطق ـ منطق اللغة والتراكم الأدبي وحاجات الشعوب العربية وظروفها السياسية والاجتماعية والروحية ـ  وفقا لما يدعم نظرتهم المبتسرة إلى الأشياء إرادتهم البقاء حيث هم، وإنقاذا لأنفسهم من عجلات النهضة.

أي نهضة؟ نهضة العقل، الحس، الوجدان. ألف عام من الضغط، ألف عام ونحن عبيد وجهلاء وسطحيون. لكي يتم لنا خلاص علينا ـ يا للواجب المسكر! ـ أن نقف أمام هذا السد، ونبجّه.

مقدّمة مجموعة «لن» الشعرية، 1960

رسول التخريب الحيوي

إذا كان السوري محمد الماغوط أبرز شعراء قصيدة النثر العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإنّ اللبناني (1937 ـ 2014) لم يكن في طليعة كبار شعرائها، فحسب؛ بل كان بين أشدّ منظّريها الأوائل نضجاً، وإدراكاً لخصائصها الحقة، دون تزلّف إلى الوزن أو إيهام حول طبائع الإيقاع؛ وكان، بذلك، بين الأشدّ وفاءً للشكل، في القول كما في الفعل.

ومنذ «لن»، مقدّمة مجموعته الشعرية الأولى، أعلن الحاج عن وجود «حلف مصيري» بين شاعر رجعي يرفض التغيير والتطوير أو يعجز عنه، وقارىء رجعي ينفر من النهوض والتحرّر ويفضّل البقاء أسير الاهتراء والعفن. لا مفرّ، إذاً، من «التدمير» بوصفه واجباً، ولا بدّ من «تخريب حيوي ومقدس». ولهذا، فعلى الساعي إلى النهوض أن يهدم ويهدم ويهدم، كما كرّر الحاج ثلاثاً، وأن يثير الفضيحة والغضب والحقد.

والحال أن صلة الحاج الحميمة بالنثر لم تأت غفلة، إذْ أنه بدأ قاصاً وكاتب مقالات، ثمّ قضى ردحاً طويلاً من حياته المهنية في الصحافة، داخل مطابخ التحرير وليس عبر الكتابة الصحفية وحدها. وفي أواخر الخمسينيات، مثل مطالع التسعينيات، كانت الصحافة الثقافية العربية تدين له بفضل إرساء تقاليد رفيعة حول الإعداد الأفضل للملاحق والصفحات والزوايا الأدبية، الأمر الذي تجلى بصفة خاصة في «الملحق» الثقافي الأسبوعي ليومية «النهار». وكيف يُنسى دوره، الخاصّ والمتميز، في تأسيس مجلة «شعر»، صحبة يوسف الخال وأدونيس؛ سواء من حيث ما نُشر فيها من ترجمات لتجارب شعرية عالمية طليعية، أو من حيث تقديم مادّة نظرية مكثفة حول قصيدة النثر بصفة خاصة، ونظريات الشعر المعاصرة عموماً.

ترك الحاج ستّ مجموعات شعرية، بعد «لن»، هي «الرأس المقطوع»، «ماضي الأيام الآتية»، «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، و»الوليمة «؛ وقد جُمعت مقالاته في خمسة مجلدات، كما نقل إلى العربية بعض مسرحيات شكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت، وغيرهم.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى