صبحي حديديصفحات الرأي

كلينتون «الزَلِق»: عودٌ على بدءٍ/ صبحي حديدي

 

 

في عددها الأخير، نشرت مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» الأمريكية مقالة بعنوان «ما أخبار الكلينتونية؟»؛ راجع فيه نيكولاس ليمان أربعة كتب جديدة، تناولت إرث الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. هنالك داريل كارتر: «الأخ بيل: الرئيس كلينتون وسياسة العرق والطبقة»؛ ومايكل توماسكي: «بيل كلينتون»؛ ووليام هـ. شيف: «هيلاري وبيل: آل كلينتون وسياسة الشخصيّ»؛ وجو كوناسون: «رجل العالم: مساعي بيل كلينتون اللاحقة».

ليس ثمة مناسبة خاصة لهذا الالتفات المكثف نحو رئيس، ورئاسة، مضت أزمانها وانطوت، خاصة وأنّ المراجع نفسه لا يضيف الكثير لاستجلاء أخبار الكلينتونية Clintonism هذه؛ ما خلا اختصارها في هذه الصيغة: «مقاربة جمعت بين سياسات اقتصاد السوق وبلاغة خطابية وضعت عوائل الطبقة المتوسطة في مكانة الشرف الأعلى». وقد تتلاقى دوافع مؤلفي الكتب الأربعة، وجرياً على عادة أمريكية متأصلة، عند نوستالجيا فضولية وتلصصية، تغري باستعادة مناخات فضيحة كلينتون الجنسية مع المتدربة الشابة مونيكا لوينسكي، وغراميات المكتب البيضاوي، ودراما التحقيقات والمحاكمة والتبرئة.

بيد أنّ الإرث الكلينتوني، والصفة هذه يستحقها الرئيس الـ42 إذا ما اعترض المرء على أحقيته في تعبير «الكلينتونية»، كانت أكثر من هذا، وأبعد أثراً، وأشدّ تعقيداً وتشابكاً. وفي مطالع ولايته الأولى، سنة 1993، بدا كلينتون أشبه بالطفل في مسرحية برتولت بريشت الشهيرة، «دائرة الطباشير القوقازية»؛ مع فارق حاسم، إذْ لا تتخاطفه أيدي امرأتين تزعمان أمومته، بل عشرات الأمهات المتلهفات على حضانته: السود، اليهود، المجموعات الإسبانو ـ لاتينية، الآسيون، المثليون، دعاة حرّية الإجهاض، المشردون؛ ثمّ يأتي الديمقراطيون الجدد، والديمقراطيون المحافظون، وديمقراطيو الوسط، والجمهوريون الليبراليون، وخلطة «الانعزاليين الجدد» من يمين ويسار ووسط؛ وبعدهم يتقاطر أرباب وول ستريت، والاقتصاد المحافظ، وما تبقى من حكمة رأسمالية خلّفتها الحقبة الريغانية، بما في ذلك فلسفة روبرت رايش ودانييل باتريك موينيهان؛ إذا وضع المرء جانباً مشكلات القيصر الروسي المفلس، والدوق الأوروبي الغربي العاطل عن العمل، والمحارب الأوروبي الشرقي الذي تتناهبه مشاقّ الاقتصاد الحرّ وأشباح الأخيلة القومية المستفيقة من سبات…

والحال أنّ بعض أبرز معضلات ذلك المسار تمثلت في إمكانية الانزلاق الدائم بين هذه أو تلك من الفلسفات، والطبقات، والمقاربات؛ حتى لقد قيل، بحقّ، أنّ أفضل ألقاب هذا الرئيس الشاب هو ذاك الذي اختارته له صحيفة «ديموكرات غازيت»، التي تصدر في أركانسو، ولاية كلينتون: «ويللي الزَلِق» Slick Wille، الذي ظنّ أنه يستطيع تحقيق معجزة يانكية جديدة، ذات عناصر عجائبية، قوامها تحالف عريض يضع الطبقة الفقيرة في سلّة واحدة مع الطبقة الوسطى، والسود والملونين مع البيض، والكاثوليك واليهود مع البروتستانت والمورمون، واتحادات العمل مع مدراء الشركات العملاقة…

على صعيد السياسة الخارجية، وخلال الـ100 يوم الأولى فقط، باع كلينتون آلاف اللاجئين الهايتيين، وطاردهم في عرض المحيط، فبدت سياسات سلفه في هذه المسألة خارج قوس المقارنة. كذلك أبقى على رجل جورج بوش في أفريقيا، فدشن هرمان كوهن العهد الجديد بعقد اتفاق الشيطان مع جوناس سافيمبي، تكفل بتخريب المصالحة الوطنية ووأد الانتخابات في أنغولا. ثمّ سلّم رموز اللوبي الصهيوني جميع مفاتيح الشرق الأوسط، ابتداءً بالليكودي مارتن إنديك، وليس انتهاءً بالرابيني دنيس روس. وأخذ بيد القيصر الروسي بوريس يلتسين، في عربدته واستهتاره بالدستور الروسي؛ وساعد على ترسيخ مبدأ «الحقّ مع القوّة» Might Is Right، في البوسنة والهرسك ومواقع مشتعلة أخرى؛ ثمّ مدّ في عمر الحرب الباردة، حين أدرج ميزانية للتصنيع العسكري لم يسبق لها مثيل منذ العام 1950، وضاعف الإنفاق على الاستخبارات والعمليات الخارجية…

وهكذا، شهدت الـ100 يوم الأولى استكمال «الكلينتونية» على ثلاثة مستويات: المقاربة الشعبوية الليبرالية (هذه الخلطة الإعجازية!)، التي حدث أنها اصطفت على يسار الوسط؛ واستراتيجية التذبذب بين الطبقات والإثنيات، دون المساس بمباهج ومزايا وامتيازات الطبقات الأرفع؛ ثمّ إعادة إنتاج فلسفات اقتصاد السوق كما رسخها جورج بوش ورونالد ريغان، وليس كما حاول إصلاحها جيمي كارتر… قدوة كلينتون!

وفي هذه الأيام، حيث تبدو فضائح دونالد ترامب جديرة بوضعه على حافة العزل الدستوري؛ ثمة طرافة في استذكار تلك الأجواء المحمومة التي عاشتها غالبية ساحقة من مواطني أمريكا، أثناء محاكمة كلينتون. يومذاك، بات الأمريكي يصل الليل بالنهار وهو يكدّس هوساً يومياً بمعرفة تفاصيل الحياة الجنسية لرئيسه الحبيب، الذي انتخبه مرّتين. كل شيء، تقريباً: أيّة فانتازيا جنسية تستهويه أكثر؟ أيّ شعر إيروتيكي يلهب مخيّلته؟ أيّ الأماكن هي الأنسب للغرام؟ أيّ الأوقات؟ أيّ الثياب؟ آنذاك، أيضاً، تحدّث البعض عن الأبعاد النفسية الأعمق وراء هذا السعار الجماعي المحموم لهتك الأستار الشخصية للرجل الأوّل في البلد، وقرأنا بعض كبار المنظّرين الليبراليين وهم يذكّرون الدهماء بأن تفاصيل الحياة الشخصية مكوّن أساسي في صناعة الوجود الإنساني المتمدّن (كما ينبغي أن يُقارن بالوجود الإنساني البربري، في الأدغال على سبيل المثال!).

وقد يصحّ أنّ الأمريكي يتلهى اليوم باستعادة «السيرة العطرة» للرئيس السابق، في انتظار السيرة (الأعطر ربما!) للرئيس اللاحق!

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى