كيف نقرأ المعرّي؟/ الشيخ عبد الله العلايلي
نحن لم نحسن قراءة المعرّي بعد، فضلاً عن إحسان درسه، وأنا لا أقوله تواضعاً أو تعريضاً، بل حقيقة كل الحقيقة.
فالمعرّي، ما دمنا نقرأه في آثاره على ضوء حرفية المعجم العربي كما نقرأ أي أثر فكري أو أدبي، فلن يزال عسيراً علينا فهمه، عسيراً علينا السير معه.
وقد أدرك صاحب «شرح التنوير على سقط الزند»، هذا كله، من ضرورة المشاركة الشاملة الكاملة لألوان المعرفة. كما فيه إشارة بارقة إلى وجوب أخذ مفرداته على نحو من الاستقلال، بعيداً عما تعارفته المعاجم، وإلا غمض عليك فهمه.
يقرر هذا كله وضرورته حيال أول براعمه، فكيف يكون أمره حيال كتبه الأخرى كـ»اللزوميات» وما إليها من شعر ونثر؟
ولنفاذ نظر هذا الشارح، وجدتني ـ ولا محيد ـ مسوقاً إلى إثبات بعض من نصّه: «اجتمعت لي أدوات الاستقلال، ابتداءً من إتقان فنّ الأدب… ثم ارتقيت إلى علم الشرع، ثم تدرجت إلى أجزاء الحكمة، طبيعيّها وعقليّها… فجلتْ صدأ الجمود عن مرآة غريزتي وفتحت بصيرتي… وجليتُ بموادّ الاستبصار غزيراً، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً… ففطنت لمباني أبياته التي هي مودعات الحِكَم».
إن المعري، كما يبدو لي، استحيا اللغة وتلبسها لا لتعبّر وفق دلالاتها، بل وفق دلالاته نفسه، لا لتشير إلى ما اجتمع فيها من وحي العصور وروحها الجاثمة، بل إلى ما اجتمع فيها من وحيه ولَفَتات روحه.
فالمعري له لغته الخاصة، وله دلالاته ومفاهيمه، وله نحو وقواعد بلاغة خاصة أيضاً، وعبثاً نحاول الاهتداء إليه وسط الدجنة اللفظية المحيطة يه، ونحن نعتمد على المعجمية اللغوية اعتماداً حرفياً ساذجاً أحياناً، وغبياً أحياناً أخرى. ولكن يلزمنا لنقرأه أمور:
أ ـ توسّع لغوي كبير يسمح لنا باستيعاب نواحيه الخفية في لباقة تصرّفه التركيبي ورَوَدانه الإنشائي.
ب ـ تدقيق عميق في خصائص المعاني أو ما نسمّيه بـ»جوّ الألفاظ» وهو شيء خلاف المعنى. فللفظ معنى، وله خيال يضفو على المعنى كهالة.
فإذا أخذنا كلمة ما، مثل «بَرْق»، كان لها معنى في ذاتها، وهو الحادث السحابي الخاصّ، ولها خيال أو هالة تطيفُ وهو الانقداح اللامح المعترض الأفق، والرامح في حنايا السحاب. وإنّ سرّ التعبير الأدبي ليس وراء هذه الهالة أو دونها.
من الملحوظ أن المعنى الثابت هو تبلور للحادث الطبيعي أو الحيوي أو المعنوي في اللفظ، والاستعمال يستوي به، فكيف نشعر بالتفاوت التركيبي بين كاتب وآخر؟ وما سرّ هذا التفاوت؟
إن شعورنا بهذا التفاوت حقيقي فيه، وإنّ التفاوت يكاد يبرز ويتجسم أحياناً ليُلمس، فهو حادث حي لا يخامرنا فيه شك، إذاً فما السرّ فيه…؟
نحن لا نرتاب في أنه مستقرّ فوق المعنى الثابت، ومستو في تجسيم هذه الهالات وإبرازها ناطقة باللحن واللون، أو الإيقاع والتناسب، ثم في إحسان التأليف بينها تأليفاً ينشر على القطعة هالتها المحتبكة من هالات انسجمت واستوت في ساحة الواحد.
ولهذا عهدنا النقاد يقولون لو وُضع هذا اللفظ في مقام الآخر لكان أحسن، برغم ترادف اللفظين في المعنى، وليس هو إلا لأنهم مسوقون بهالة اللفظ التي تجمع الموسيقى واللون المؤتلفين في سياق ما. فالعبارة الكلامية تقوم في معاني الألفاظ، فهي تركيب، والعبارة الأدبية تقوم في هالاتها فهي أسلوب.
ومن الخير أن أحدد جوّ اللفظ أو هالته حسب معناي به، لما له من أهمية في الموضوع.
أعني بجوّ اللفظ: ذلك المركّب الحاصل من طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى وطبيعة الواقع الحي، وهي بمجموعها ملابسات ولوازم. واستعمال اللفظ في معناه الثابت تعبير. واستعماله في المعنى الثابت وخياله جميعاً أدب. وصرف اللفظ عن معناه الثابت إلى خياله فنّ، يشمل الكناية والمجاز وتمثيلاً ورمزية، أي استعارة مكنية كما كانوا يسمونها.
والحقيقة، أو المعنى الثابت، وقوفٌ وجمود وتبلور، أو بتعبير آخر أقرب لغاية المعري: انقطاع؛ والمجاز أو خيال المعنى صيرورة، أو بعبارة أخرى: اتصال، أي نقل اللفظ من نقطة الدائرة إلى محيطها. ولهذا نلحّ في استصحاب هذا الاعتبار مع آثار أبي العلاء الذي كان أعمق من سلك الكنائية، وطوّعها تطويعاً كبيراً.
وأبرز ألوان الألفاظ كما ارتسمت في حسّ نفسه، فكثرت عنده ألفاظ الألوان. وقد أغرق في السطحية والوهم الساذج من زعم أنّ كثرة ألفاظ الألوان عنده كانت بقصد تحدّي المبصرين.
ج ـ اللوازم البعيدة وسيمرّ حديثها في الفصول التالية.
د ـ إطّلاع واسع على الأسطورة، وبالأخص العربية منها، فهي، أي الأسطورة، العبارة الأولى للعقل الناطق بالفطرة الخالصة، بالحقيقة غير المدخولة.
هـ ـ تأمّل دقيق في خصائص النبات والحيوان التي متّن بها دعائم كنائيته. وهنا أثبت ملاحظة أطمئن إليها، وهي أن الجاحظ مَلَك المعري إلى أبعد حدّ، ولا سيما في «الحيوان» الذي يشرح كثيراً من مبهمات المعري، وفي رسائله التي أدارها على السخرية الحادة اللاذعة.
و ـ المؤثرات الحية في الألفاظ، على مقتضى ما ألمحنا إليه في فصل «المعري يضع أصول فلسفة جديدة»، من أن اللغة في حقيقتها استحالات لخلجات الحي، وتَبَعُّثات الذات، ولذا غنّى الإنسان قبل أن لغا، فألفاظها إذاً تحمل نبضات حية مؤثرة فاعلة، وليست أبداً صور إرادات، بل هي إرادات سوّارة غالبة.
ولعل هذا مصدر تطيّره، وإذا صحّ ما نقّر نلمس الفرق الجسيم بين تطيره الوشيج أي تطير الكائن بكونه، وتطير ابن الرومي المتوهم المريض.
ز ـ علم الحرف المعمّى الروحاني: قد يُستغرب منا أن نزعم مثل هذه الأسطورية الحرفية عند المعري المتحلل من الأوهام والحماقات، ولكن إذا تفهمنا رأيه في اللغة على ما سبقت لنا الإشارة إليه، وضممنا إليه ما أُثر من اعتماد قدماء العرب على تحويل الحرف إلى عدد والعكس، كما فعل حُييّ بن أخطب في «ألم، ألمص…الخ» ليعرف مدّة دوام رسالة النبي… نجد أن هذا الرأي يقوده حتماً، وبالضرورة، إلى سرّ الحرف ذي القيمة العددية والحسابية. قال:
تواصلَ حبل النشل ما بين آدم/ وبيني، ولم يوصل بلامي باءُ
هذا البيت أعجز الشارحين؛ فمنهم من ذهب إلى أنه يعني الشخص والباءة باللام والباء، ومنهم من فهمه على ضوء الصناعة اللفظية التي شاعت كثيراً في عصور الأدب العباسي المتأخر، فرأى معناه: أن الحبل الخاص به والذي يصله بآدم سقطت باؤه فبات حلاً… إلخ.
أما أنا فأجد في هذا البيت إيماءة إلى تعلّقه بعلم الحرف المذكور وإلمامه به واستخدامه إياه. عرفنا في هذا العلم أن «حرف الحاء ترابي، وحرف الباء هوائي، وحرف اللام ترابي»، وهو بهذا يشير إلى أن وجوده الفنائي الترابي لم توصل به نسمة هوائية، وانظرْ إلى دقة تعبيره بكلمة «حَبْل» في مجال الحَبَل الذي يحوي نسمة جديدة، ليشير به إلى أنّ النسل هواء بين ترابين ونسمة بين فنائين قال:
حياة كجسر بين موتين: أوّل/ وثانٍ، وفَقْد الشخص أن يُعبر الجسرُ.
من «المعرّي ذلك المجهول: رحلة في فكره وعالمه النفسي»، 1944
الأديب واللغوي والمشرّع
كان العلامة اللبناني عبد الله العلايلي (1914 ـ 1996) شخصية تنويرية إصلاحية، وكان عقلانياً بالمعنى الأكثر انفتاحاً على الروحانيات، وشيخاً لم يتبحّر في علوم الدين إلا لمقارعة التشدد، ولم يتفقه في الشريعة إلا لكي يساجل ضدّ ضلالات استغلالها، ولهذا عُدّ أحد كبار مشرّعي العرب في القرن العشرين. لكنه كان، إلى هذا كله، أديباً واسع الإطلاع على آداب العرب القديمة وتراثهم النقدي والفكري، وكان لغوياً مجدداً انكبّ على تطوير المعجم العربي ومصالحته مع الحياة والمعيش اليومي.
هذه الخصال، وسواها كثير، دفعت الشاعر اللبناني بول شاول إلى وصف العلايلي هكذا: «إنه الأفغاني على توغل أكثر في مناطق العقل. ومحمد عبده على تماس مع إرث الأمم الأخرى. والكواكبي على التصاق بالحرية ونفور من الاستبداد. وفرح أنطون على تقارب مع الاشتراكية. وطه حسين على عناده العقلاني، الدكارتي بلا الكوجيتو. والتوحيدي بلا شطحات الصوفية. والجاحظي على الخصب والبيان واللغة والنقد الاجتماعي. والاشتراكي بلا الأيديولوجية، والعمومي بلا الشمولية، والعروبي بلا عنصرية، والتغييري بلا عنف، واللغوي بلا إسنادات التجمد، واللبناني بلا التقوقع القبلي والمذهبي والمناطقي، والبيروتي بلا هوية محطومة…».
وأعمال العلايلي شواهد بليغة على مكانته في هذه الميادين، خاصة ثلاثية الحسين، وأعمال المعاجم، والآراء في الفتوى، وكذلك الشعر («رحلة إلى الخلد»، التي تقع في نحو ألف وخمسمئة بيت، وتحاكي المعراج؛ و»من أجل لبنان»، حول ويلات الحرب الأهلية)، رغم إصرار الشيخ على انه ليس بشاعر. ومع ذلك، في أوج التأثير البالغ الذي تركته عشرات المؤلفات والمقالات والسجالات، فإنّ العلايلي يظلّ «ذلك المجهول»، تماماً على شاكلة وصفه لأبي العلاء المعرّي في كتاب رائد.
القدس العربي