لبنان في أَسْرِ “نَمَط الإنتاج السياسي”/ أحمد بيضون
■ أسمّيه إذن «نمط الإنتاج السياسي» على غرار قولنا «نمط الإنتاج الرأسمالي»، وهو ضَرْبٌ من هذا الأخير. هو نمط إنتاجٍ اقتصادي توظّف فيه رساميل وتستخدم قوّة عملٍ متنوّعة وتنتج سلَعٌ وسيطة تنتمي إلى ما يسمّى «الخدمات».
ولكن السلعة الأخيرة المنتجة فيه هي «الولاء السياسي»: «الولاء» بما يقتضيه حكماً من «عداء» سياسيّ أيضاً.
ثمّ إن القول إنه «نمط إنتاج اقتصادي» قولٌ تعسّفي بمقدار افتراضه تبلّوراً متقدّماً لدائرة اقتصادية قائمة برأسها في المجتمع الكلّي، على غرار ما هي الحال في مجتمعات «العالم الأوّل» الرأسمالية. وهذا افتراضٌ غير موافق لواقع الحال في المجتمع اللبناني، وفي صفّ من المجتمعات مشابهٍ له. فههنا تتّخذ عبارة «الاقتصاد السياسي» معنى متناهي الشدّة في إتباعه الموصوف لصفته، لا العكس.
مع ذلك فإن الوصف الأصحّ لهذا الاقتصاد قد لا يكون «السياسي» بل «الاجتماعي»، بالمعني الكليّ للاجتماع، لا للمجتمع، ما دام أننا لسنا حيال «مجتمع»، بالمعنى الذي يفترضه فرديناند تونيز للكلمة، حين يضع «المجتمع» في مواجهة «الجماعة»، وإنما نحن حيال اجتماعٍ «جماعوي»، بالدرجة الأولى، طوّرت فيه الجماعات لنفسها نمط إنتاج رأسمالي يستبقي بنىً وتماسكاً غير رأسماليين ويؤالفهما…
في لبنان، يتمثّل نمط الإنتاج السياسي هذا (مع استذكار ما سبق من تحفّظ عن الصفة) في كتلة متنوّعة جدّاً من المنشآت المتداخلة: من أحزابٍ وجمعيّات ومدارس وجامعات وصحف ومؤسسات إعلام أخرى ومستشفيات، إلخ. وصيغ التداخل بين هذا كلّه معروفة: الحزب أو الزعيم يرعى الجمعية، الجمعية تسيّر المستشفى، المنشأة الإعلامية تتبع الحزب، إلخ. وقد تتباين عضوية العلاقة أو شمولها: فتؤجّر الصحيفة خدماتها للحزب، مثلاً، ولا تكون ملكاً له وقد تنقل ولاءها إلى جهةٍ أخرى أو توالي جهتين معاً، إلخ.
يستخدم هذا القطاع جانباً معتبراً جدّاً من قوّة العمل اللبنانية مؤمّناً نصيباً مباشراً ضخماً من تجديد قوّة العمل هذه، أي من كتلة الأجور اللبنانية، فضلاً عن نصيب غير مباشر يتمثّل في ما يشتريه من السوق الداخلية لحاجاته المختلفة من سلعٍ ماديّة أو خدمات. ولكن إسهامه هذا لا يقتصر على الأجور وشراء التجهيزات المختلفة والموادّ الاستهلاكية أو الخدمات، بل هو يغطّي جانباً من تجديد قوّة العمل الاجتماعية في ما يتعدّى بكثير نطاق القوّة العاملة فيه أي مستخدميه.
وذاك أنه يعيل جزئيّاً أو يدعم اقتصاديّاً من طريق الخدمة التي تنتجها منشأة من منشآته أفراداً وأُسَراً من خارج نطاق مستخدميه. وإذ نقول «أفرادٌ وأُسَر» هنا نستعمل عبارة قاصرة لأن «الأُسَر والأفراد» المشار إليهم يكادون يكونون المجتمع اللبناني كلّه أو هم الكثرة الكاثرة من عناصره في الأقلّ. وذاك أنه يصعب أن تجد لبنانياً لم يستفد قطّ من منحةٍ مدرسية أو تخفيض في الأقساط لولد أو من علاج مخفّض الكلفة لمريض… أو من مساعدة سياسية لتخليص معاملة يمثّل إنجازها نوعاً من الدخل أو لحماية مخالفة يوفّر منها مالاً أو يجني مالاً.
وهذا الذي نسمّيه «مساعدة سياسية» يستوقف، فمؤدّاه أن جانباً معتبراً من «الحقوق» يكون مصادَراً من جانب ذوي السلطة، أي من جانب مَن لا تُقْتصر المزيّة النسبية لموقعهم على حيازة أجر أو الإفادة من خدمة، وإنّما يتوفّرون على رأسمال سياسي يستثمرونه في السوق. و»الحقوق» المشار إليها يسعها أن تكون مصالح مشروعة لطالبيها ولكن لا تتحقق إلا بدعم سياسي ويسعها أيضاً أن تكون حقوقاً للغير أو للدولة يراد العدوان عليها. أما الدعم السياسي المطلوب في هذه الحالات كلّها فيمكن أن يكون مباشراً من جانب السياسي أو معاونيه، من جانب الحزب أو ممثّليه، ويمكن أن يكون غير مباشر إذ يتحصّل برشوة الموظّف الفاسد الذي زرعه السياسي أو الحزب حيث هو وراح يؤمّن له الحماية.
معنى هذا أن نمط الإنتاج السياسي لا يشتمل، لجهة وسائل الإنتاج، على المنشآت التي يتولى شؤونها مباشرة أصحاب الرساميل السياسية وحسب: أي مثلاً على المدرسة أو المستشفى اللذين يديرهما الحزب أو جمعيةٌ تأتمر بأمره، بل يشتمل نمط الإنتاج المشار إليه على منشآت ووسائل إنتاج يصادرها جزئياً، بقوّة السلطة الاجتماعية السياسية، أصحابُ الرساميل أولئك. فيكون تحت أيدي أصحاب الرساميل السياسية أولئك جانب معتبر جدّاً من إمكانات الدولة، سواءٌ أكانت هذه «الإمكانات» إمكانات تشغيل أو تلزيم أم إمكانات خدمة. ويكون تحت أيدي أصحاب الرساميل السياسية أيضاً جانب من الإمكانات التي تضعها بتصرّفهم جهات خاصّة من قبيل كوتا الاستخدام الذي يفرضه السياسي على مصرف أو على مصنع يعمل في دائرة نفوذه، مثلاً.
وعلى غرار الاستخدام في دوائر الدولة وأجهزتها والإفادة من خدماتها (أو التملّص من المتوجّب لها)، تخضع المنشآت الرأسمالية في القطاع الخاص خضوعاً متبايناً لأصحاب الرساميل السياسية. وتتفاوت صيغ هذا الخضوع ما بين اشتراك الجهة السياسية في الملكية لقاء الحماية وتسهيل الأعمال، وفقاً لمشيئة القانون أو خلافاً لمشيئته، أو لقاء حجب الضرر… وبين حجز جانب من طاقة الاستخدام وطاقة الخدمة في المنشأة للجهة السياسية لقاء البدل نفسه. ويفرض ذلك أن تجهد المنشأة على الدوام في التوفيق ما بين منطق الربح والإنتاجية المفضية إليه (وهو منطق الرأسمالية «السويّة» أو «العاديّة») وبين المنطق الطفيلي الذي تمليه عليها حاجتها إلى رعاية أو حماية سياسية… هذا مع العلم أن الحماية هنا هي بالدرجة الأولى حماية من الجهة السياسية الحامية أو من جهاتٍ غيرها، سياسية أيضاً، وأن الرعاية هي بالدرجة الأولى حماية من القانون ورعايةٌ في وجهه.
وبين منطويات هذا التشكيل أن القول بتبعية الطبقة السياسية لأصحاب الرساميل في لبنان قولٌ فيه نظرٌ كثير. ففضلاً عن كون أركان من هذه الطبقة ضالعين في مواقع ذات فاعلية من شبكة الملكية والاستثمار فإن للزعامة السياسية وللتشكيــــلات الحزبيـــة الرئيســـة من القـــوّة الاجتماعية ما يكفي لتستتبع من في دائرتها من أصحاب الرساميل. وهو ما يعني أن التمييز بين التابع والمتبوع ههنا مسألة أعقد من أن تعالَج باستدعاء الترسيمة المعتادة…
ختاماً يتّسم نمط الإنتاج السياسي هذا بِسِمَتَين أخريين: أولاهما أنه يُدخل التنافس السياسي بين الجماعات أو بين فروع الجماعة الواحدة في منطق توزيعه لوسائل الإنتاج العائدة إليه. وهو ما يجعله معيداً لإنتاج المواجهة بين هذه الجماعات، مزكّياً لتماسكها النسبي، ومانعاً لإنتاج مصالح مفارقة لها أو حادّاً من نطاق هذا الإنتاج. السمة الثانية أنه، إذ يتّخذ هذا التنافس أساساً، يستدرج تبعية الجماعات لدولٍ أو أشباه دول غير لبنانية يعرض عليها شراء الولاء والخدمة السياسيين لقاء الدعم. ويفترض الحصول على الدعم وجود مشترٍ للولاء يجانس، بمعنىً من معانٍ عدّة محتملة، صورة الجماعة عن نفسها أو يحتمل توصّله إلى هذه المجانسة. يجانسها في الهويّة المفترضة، في الأهداف المرحلية إلخ، بحيث لا ينتهي الولاء له إلى فَرْط عقدها…
على أن أهمّ ما تضمنه التبعية إنّما هو زيادة الوزن النسبي للجماعة فضلاً عن إشعارها بالانخراط في تيّار قضية شاسعة الأبعاد. وهذه زيادة قد تبقى محدودة وقد تبلغ حدوداً قصيّة، غير متناسبة والإمكانات الذاتية للجماعة. والحال أنه كلّما ازداد النصيب الخارجي من وزن الجماعة رجحاناً ازدادت التبعية عمقاً وأصبح الخروج من أسرها (أو مجرّد الرغبة فيه) أمراً مستبعداً.
على أن حديث التبعية هذا، وإن يكن متّحداً كلّ الاتّحاد بحديث «نمط الإنتاج السياسي»، يقتضي وقفةً مطوّلة على حدة. ثم إن كلامنا هنا على «نمط الإنتاج السياسي» في لبنان لا يجاوز اقتراح مفتاحٍ جديد لفهم الاجتماع اللبناني، بما ينطوي عليه من سياسة ومن اقتصاد. ولكنّه (أي الكلام) يبقى بعيداً عن استيفاء البحث في فاعلية هذا المفتاح وصلاحيّته.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي