مراجعات كتب

”لبنان وسوريّا: الغريبان الحميمان” (حاشية نقدية على كتاب)/ أحمد بيضون

 

 

 

بذلت وسعي، في عجالات سبق نشرها هنا، لإنصاف العمل النفيس الذي أهدته إلينا الباحثة الفرنسية أليزابيث بيكار في موضوع العلاقة السورية اللبنانية. فاجتهدت في تقديم خلاصات لما وجدته أهمّ مندرجات كتابها الصادر مؤخّراً بالفرنسية، وهو ما لا يغني عن قراءته قطعاً.

وإذا كان لي من نقد إجماليّ للكتاب يتجاوز عن مآخذ تفصيلية (نادرة في كلّ حال) فلعلّ هذا النقد يقبل الاختزال في نقطة واحدة. لا تجهل المؤلّفة أن «على المسيرة أن تساير الطريق» بل هي تذكّر بهذه الضرورة حيث يلزم التذكير. وهي تخصّ لبنان وسوريا بمقارنة عامّة، سبق أن وقفتُ عندها، تستغرق صفحات من الكتاب. تظهر هذه المقارنة ما بين البلادين من تفاوت جسيم، متعدّد الوجوه، يجعل الكفّة السورية راجحةً جدّاً عند المغالبة. على الرغم من عناصر تعويض ينطوي عليها المجتمع اللبناني بما تحصّل له من تقاليد تمنحه قدرة على مداورة التفاوت.

على أن المؤلّفة لا تفعّل ـ في تقديري ـ هذا التفاوت بمقدار حقّه من التفعيل في ما تعالجه من فصول المواجهة والتداخل بين البلادين. وهي لو فعلت لظهرت حصائل هذين، المواجهة والتداخل أقلّ فرادةً ممّا يبدو لقارئ الكتاب وأوثق ملازمة لقانون القوّة المألوف في الأخذ والردّ بين الدول المتجاورة، وبين المتفاوت القوّة منها على التخصيص. وهذا بالطبع إذا لم يكن في الموقع الإقليمي للدولتين المتجاورتين أو في النظام الدولي ما يحدّ كثيراً أو قليلاً من مفعول التفاوت.

ولا ريب أن ما نراه جديراً بالاعتبار، في هذا المساق، لا يختصر في مساحة كلّ من القطرين السوري واللبناني وعدد سكّانه وما جرى هذا المجرى من معطيات وصفية أولى. فإنّما تجزئة المجتمع اللبناني وما تنطوي عليه من عوامل التنازع، القائمة أو الممكنة الاستثارة، واقعة شديدة الوقع على مسار العلاقة اللبنانية السورية. ويقال الشيء نفسه في طبيعة النظام السياسي الذي فرض نفسه عقوداً مديدةً في سوريا وهو نظام مونوقراطي يسفر عن وحدة في القيادة تسجّلها المؤلّفة فيبدو مؤهلاً تلقائيّاً للسعي الدائم إلى وضع يدٍ متعدّد الصيغ على الدولة المجاورة.

لا ريب أن التقابل بين هاتين الحالين لا يستنفد صورة التفاعل غير المتكافئ بين سوريا ولبنان في نصف قرن مضى أو يزيد. فثمّة مطالب ومقتضيات للنظام الدولي في حركته الدائبة وثمّة قوىً أخرى في الإقليم يحسب لها القوي والضعيف في المواجهة حساباً يطمئنّ إليه أو يقلق له. هذا كلّه تعرفه المؤلّفة حقّ العلم. ولكن الأساس المتمثل في معطيات التقابل الذي أبرزناه للتوّ يبقى هو المستحقّ الظهور في تحليل مسار العلاقة ويبقى الكفيل بإظهار امتثال هذا المسار لعوامل «عاديّة» تبعد محلّله أو واصفه عن الإيغال المفرط في منطق «الخصوصية» ناهيك من «الفرادة».

ولقد كان يكفي المؤلّفة الالتفات إلى بعد الشقّة بين ما كان قد حصل حين جرى الانفصال الاقتصادي لسوريا عن لبنان في سنة 1950، بعد إجراءات مهّدت له، وما حصل حين دخلت القوّات السورية لبنان من باب الحرب الأهلية في سنة 1976. ففي الحالة الأولى، لم تفلح السلطات السورية في تفعيل واحد من امتيازاتها الإستراتيجية، وهو استئثارها بمنافذ التجارة البريّة اللبنانية، على نحوٍ يلزم السلطات اللبنانية بقبول شروطها. وذاك أن تكوين السلطة في سوريا لم يكن ليطلق يدها في اتخاذ ما ترتئيه من إجراءات. ولا كان السياق الإقليمي يبيح لها ذلك. هذا فيما كان تطويع المنظّمات الفلسطينية وتحمّل المسؤولية عن مسلكها من جانب دولة خاضعة للمساءلة يمنح النظام الأسدي فرصةً معتبرة، أمريكية وإسرائيلية على الخصوص، لوضع يد مشروطٍ على معظم لبنان. تحت هذا الفارق، كان التفاوت الأساسي بين البلادين معطىً ثابتاً لا يقبل الإبطال وإن يكن يقبل اللجم والإطلاق وفقاً لاتّجاه محصّلة تستعلي عليه بما لها من قوّة الإلزام.

مقارنة أخرى نرى لها وجاهة لا يستهان بها حين نريد الإفضاء إلى تقديرٍ لما هو مستمرّ الفاعلية (وإن لم يكن يتّصف بالخلود أبداً) في توجيه العلاقة السورية اللبنانية. تلك هي المقارنة ما بين مجرى هذه العلاقة، من جهة، ومجرى العلاقة السورية الأردنية، من الجهة الأخرى. ولا نجاوز هنا لفت النظر إلى هذا الإمكان. فنكتفي من ذلك بالتنويه بأن سوريا، على ما بينها وبين الأردن من تفاوت لصالحها قد لا يقلّ مقداره عن مقدار ما بينها وبين لبنان، ولو اختلفت العناصر، كانت في السنوات الأولى التي تلت استقلالها تخشى، على نحوٍ ما، أن «يَضُمّ»ـها الأردن فيما يُفترض حصول الخشية من جانب هذا الأخير.

وحين حاول نظام البعث، في زمن لاحق، إرسال دبّاباته إلى الأردن، في أثناء المواجهة بين السلطة هناك والمنظمات الفلسطينية، كان ذلك، في مطلع السبعينيات، نوعاً من التمرين على ما فعله النظام الأسدي، في وسط العقد نفسه، في لبنان. ولكن الحصيلة كانت مختلفة غاية الاختلاف. وهو ما يفسّره اختلاف الأردن التكويني، سلطةً ومجتمعاً، عن لبنان. ذاك اختلاف زوّد الأردن موقفاً عامّاً من التدخل السوري مختلفاً عن ذاك الذي لقيه التدخل نفسه في لبنان، حيث لم يكن يوجد موقف عامّ من أيّ أمر.

مرّةً أخرى، كان من شأن الإقدام على هذا النوع من المقارنة، لو عمدت إليه بيكار، أن يسعفنا في التوصّل إلى توزيع حسن للفاعلية بين ما هو ثابت لجهة قوامه المادّي، طويل الأجل، لجهة مفعوله، وما هو متغيّر، بهذا القدْر من السرعة أو ذاك، من معطيات العلاقة اللبنانية السورية…

بات رتيباً، في الختام، كلما عرضت كتاباً ذا قيمة، موضوعاً بغير العربية، أن أوصي بنقله إلى لغتنا. ولكن أجد سروراً في ارتكاب هذا الأمر الرتيب مرّة أخرى بصدد كتاب إليزابيث بيكار الذي نحن موضوعه.

كاتب لبناني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى