لعبة المركز وأطرافه/ محمد العباس
■ تُثار بين آونة وأخرى قضية المركز والأطراف، مع زعم بانهيار عواصم الثقافة العربية على إيقاع صعود عواصم الظل والهامش الثقافي، بمعنى أن المعادلة تغيرت لصالح الدول الخليجية، وانحسار الدور الأدبي التنويري الذي اضطلعت به مصر ولبنان والعراق وسوريا والمغرب، لدرجة أن هذا الوهم تحول لكثرة الطرق عليه إلى حقيقة أشبه ما تكون بالبدهيات المتبناة من قبل دوائر ومؤسسات ثقافية، ومن مثقفين أيضاً.
وقد زاد من قناعة بعض المهجوسين بتثبيت هذا التصور المراوغ ما تعرضت له مضخات الفكر والإبداع العربي من ويلات ونكبات على أرض الواقع، حيث صارت محلاً للاقتتال، وما تبع تلك الحروب من أزمات اقتصادية وتمزقات اجتماعية أصابت البناء النفسي والأكاديمي في العمق.
هذه المقولات المتفشية بكثافة في أروقة الثقافة العربية تعني، حسب المفهوم الخلدوني، أن دول الخليج باعتبارها المركز الثقافي الناهض على أنقاض الحواضر العربية، هي اليوم المحل الأول والمركزي لإنتاج المعرفة والعلوم والآداب والفنون، وهي مغالطة صريحة تلعب بالجغرافية مقابل التاريخ، وبثقافة السوق مقابل ثقافة الإنسان، ولذلك لا تصمد أمام الوقائع، إلا أن هناك من يحاول الالتفاف على مبدأ (الإنتاج ) باعتباره جوهر النظرية، ليتحدث عن صخب المهرجانات والكرنفالات، ووفرة الجوائز والملتقيات، واستضافة العروض الأوبرالية، بدعوى أن الخليج العربي ما زال في طور المركز الناشئ، ويحتاج إلى برهة زمنية ليؤكد فاعليته ويحقق استراتيجيته بابتلاع المراكز التقليدية، وهو تبرير مردود عليه ببساطة، لأن معظم الذين يتحاورون في الملتقيات والذين يحصدون الجوائز والذين يحكمونها ليسوا من أبناء الخليج، إنما هم من الأقطار التي يقال إنها أصيبت بالعطب، بما في ذلك غالبية المترجمين الذين يتحدرون من المراكز التي يُزعم أنها آفلة.
المركز الثقافي يحتاج في المقام الأول إلى العنصر البشري المبدع، إلى جانب التمويل والبيئة السياسية المنفتحة المستقرة، إذ لا يمكن للمثقف أن يبدع إلا في ظل رحابة ديمقراطية، وفي ظل بنية اجتماعية مفتوحة السقف، تعمل كحاضنة للمشروع الثقافي، وهي متطلبات تفتقر إليها الفضاءات الخليجية، إذ لا تمتلك إلا الملاءة المالية التي يمكن بموجبها تأسيس المباني، ولكنها لا يمكن بحال أن تنتج المعاني، وإذا كانت دول الخليج لا تخلو من مفردات ثقافية رائعة وفاعلة، إلا أنها لا تشكل جُملة كاملة في الحياة الثقافية، كما هو الحال في المجتمعات العربية، التي تمتلك تاريخها وتقاليدها الإبداعية، حيث لا زالت تنتج من الإبداع ما يفوق منتجات الخليج العربي بأضعاف على مستوى الكم والكيف، على الرغم مما تتعرض له من نكبات.
الهامش الثقافي صار اليوم بمقدوره أن يتكلم، وأن ينتقم أيضاً من المركز، فهناك عقدة خليجية قديمة يمتزج فيها السياسي بالثقافي، ويُراد لها اليوم أن تتلاشى، ولكن بدون أي فعل حقيقي على الأرض، وتتلخص تلك العقدة في حالة الشعور بالتبعية والاستلحاق الثقافي لدول المركز، لأسباب تاريخية واجتماعية وثقافية وحضارية، فكل دولة من دول الخليج تقع تحت تأثير ارتدادات الدول المجاورة، وتكاد تكون مجرد صدى لما يُنتج في عواصم شكلت ملامح النهضة العربية على كل المستويات، كما يتصعد هذا الشعور بالدونية الثقافية نتيجة وجود قوى متعالية في الطرف الآخر، لا ترى في دول الخليج إلا مجموعة من القبائل المستنقعة في لحظة البداوة المتخثرة، والغارقة في وحول الثروات النفطية، وربما يفسر هذا البعد مراودات بعض الخلجيين بالانشقاق الشكلي عن المركز.
الكائن النفطي هذا كان وما زال محل سخرية الشعراء والروائيين والسينمائيين لأسباب موضوعية كثيرة، لا يتحمل وزرها من أسس تلك النظرة النمطية للإنسان الخليجي وحسب، بل يتحملها أيضاً المثقف الخليجي ومؤسساته، التي لم تتحرك لعقود طويلة باتجاه تغيير تلك الوصمة، لأن دول الخليج العربي لا تمتلك أي مشروع ثقافي في صميم التنمية الشاملة، وهكذا مر زمن طويل غاب فيه الإنسان الخليجي عن المشهد الثقافي، حيث سلم كل مقدراته الثقافية لمؤسسات عاجزة عن الفعل التنموي الثقافي، أو غير راغبة فيه، وعندما حانت لحظة الاستحقاق استعارت أصوات وأسماء ومنجزات وتاريخ وسمعة المراكز الثقافية العتيدة، وحاولت توطينها في الفضاء الخليجي لتعلن موت المراكز القديمة ونهوض الأطراف.
المثقف الخليجي يحتاج إلى سن التشريعات التي تكفل له حقوقه وتصون كرامته، أكثر من حاجته إلى الإغداق المالي، ويحتاج إلى أن يُعترف به كعنصر فاعل في التنمية عوضاً عن التعامل معه كعنوان وطني للاستعراض، وهذا هو ما يحقق الاكتفاء الذاتي الثقافي، أي حين يعبر الإنسان الخليجي عن هواجسه وهمومه ومطامحه على قاعدة إبداعية، وبالتالي لن يحتاج إلى شهادة تعميد من المراكز العربية، كما أنه حينها سيؤسس مركزه الثقافي المجاور للمراكز الأخرى بدون أي إحساس بالدونية أو المفاضلة، بل على قاعدة التضايف مع الآخرين، حيث يمكن أن تتحقق مقولة وجود آداب عربية متخالفة ومتكاملة عوضاً عن وجود أدب واحد بدون ملامح واضحة ولا معالم معرّفة، وهذا البعد بالتحديد يتطلب التعامل مع فكرة الهامش كواقع ينبغي الفرار منه وليس مجرد تصور ذهني.
إن ما يحدث اليوم على إيقاع ما يسمى بالربيع العربي يعيد تدوير قضية المركز والأطراف، حيث تتبنى دول الخليج البعد الهوياتي بقوة، وتطرح نفسها كحامية للعروبة وحاملة لقيمها، وهذا من صميم فاعلية المركز، ولكن الهوية لا تتشكل في ساحات المعارك فقط، بل تتبرعم فكرتها في المنتج الثقافي، وهنا يتولد المأزق الكبير، لأن المثقف الخليجي لا يبشر في خطابه الفكري ومنتجاته الأدبية بأي بعد قومي، ولا يبدو مهجوساً بتأكيد عروبيته من خلال النص، لأسباب كثيرة ومزمنة، أهمها تفريغه المبرمج لعقود من أي قيمة قومية أو عروبية، وهو خلل تكويني يخلع عنه أيضاً صفة الحامل لهيكل المركز الثقافي، لأنه لا يختزن هويته المركزية، كما أن بعض العواصم الخليجية تطرح نفسها كبؤر كوزموبوليتية حاضنة للتشظي الهوياتي، الأمر الذي يتعارض مع فكرة المركز.
نظرية المركز والأطراف ببعديها الرمزي والمادي ليست على تلك الدرجة من البساطة والسطحية التي يتداولها الإعلام الموجه، وما يقال ثقافياً عن انقلاب الهامش إلى مركز إن هو إلا مقاربة ذات مغزى لما يحدث على مستوى البنى السياسية، لأن انتزاع صفة المركز وخلعها عن أي فضاء يعني التقليل من أثره، وهو كحالة من حالات الإبدال الثقافي يعادل تغيير المرجعيات واحتكار القوة وتضئيل مساحة نفوذ الآخرين، حيث يعمل فيها الجانب الديني إلى جانب العامل القومي تحت مظلة الثقافي، كما يتفاعل فيها ثالوث التاريخ والأيديولوجيا والثقافة، وهو أمر لن يتحقق للإنسان الخليجي إلا بوجود صناعة ثقافية عصرية ذات طابع أصيل، أي باختلاق سرديات تتبنى الحداثة بمعناها التغييري وليس الصوري، كما يستلزم الأمر خروج المجتمعات الخليجية من عزلتها والتخلي عن حسّها المحافظ، أي تعطيل آليات اشتغال الهامش التي استنقع فيها والتخطيط بوعي استراتيجي لابتناء أساسيات المركز بدون أي استعارات ولا انتحالات.
٭ كاتب سعودي
القدس العربي