صفحات الرأي

مئوية لينين والقطار الألماني الذي «احتجز» القرن العشرين/ وسام سعادة

 

 

قبل مئة عام من تاريخه، عبر فلاديمير ايليتش (لينين) وثلاثون من أركان حزبه المنفيين معه في سويسرا البلاد الألمانية، ومنها إلى السويد وفنلندا، فبتروغراد (سانت بطرسبرغ) التي كانت ثورتها الشعبية في شباط (8 آذار بالتقويم الغريغوري) 1917، قد فاجأت الجميع، وبينهم لينين، بنشوبها وبسرعة إطاحتها بالقيصر نقولا الثاني رومانوف.

انتقال لينين ورفاقه، بالقطار الألماني، قبل مئة عام، هو حدث تأسيسي ـ تفجيري بامتياز- بالنسبة إلى قرن كامل. ومثلما كانت عليه الحال قبل قرن، يوم انقسم الروس بين من اعتبر لينين خائناً للوطن، لأنه رضي العودة إليه بالتعاون مع العدو، في عز الحرب بين المانيا وروسيا، وبتلقيه – كما بات معروفاً اليوم – أرصدة مالية ألمانية حولت للحزب البلشفي، في مسار سينتهي إلى كارثة قومية بعد عام على عودته وأشهر على ظفره ورفاقه بالسلطة، بتسليم المانيا أوكرانيا وبيلوروسيا ودول البلطيق و98 طناً من الذهب بموجب صلح «بريست ليتوفسك»، وبين من لا يزال يرى عكس ذلك، ليس فقط من باب استعادة السردية التي دبجها البلاشفة عن أنفسهم، وعن تلك العودة، وليس فقط لاعتبارهم لينين خائناً لوطنية قديمة «قيصرية» ومؤسساً في نهاية الأمر لوطنية جديدة «سوفياتية» لا تزال روسيا الحالية أقرب إليها من تلك القيصرية، بل لاعتبارات احتمالية مختلفة عند مؤرخين روس وأجانب ما زالوا يرون في لينين الخيار الأقل سوءاً في ما كان متاح لروسيا وقتها (فهناك من يرى أنّه لولا هذه العودة لكان الألمان نجحوا في احتلال عاصمة روسيا القيصرية، بتروغراد، وقتها، أو أنّ الحرب الأهلية الروسية كانت حتمية في كل الحالات إنّما بين لوردات حرب متساوين، من دون طرف قادر على تحطيم الأطراف الأخرى).

وسطاء عديدون حققوا عمولات طائلة أيضاً في فترة المفاوضات بين لينين وبين الحكومة الألمانية. فكرة العودة عبر المانيا طرحها أساساً المنشفي مارتوف، بعد سقوط القيصر، لكن مارتوف طرحها في حدود أن تقوم الحكومة الروسية الجديدة بتبادل للأسرى مع الألمان يسمح على هامشه للإشتراكيين الروس، من جميع الإتجاهات، بالعودة من المنفى. أعجب لينين بفكرة العودة عبر المانيا، لكنه أرادها صفقة مباشرة مع حكومتها وجيشها، وتعني البلاشفة دون سواهم، وليس بواسطة الحكومة الموقتة الروسية التي اعتبرها أساساً عدوة مشتركة له وللألمان.

هذه المفاوضات جرت بإشراف شخصي حثيث من الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني نفسه، خاصة وأنّ لينين قد شدّد على أنّ القطار ومن فيه لا يخضعون خلال مدة انتقالهم عبر ألمانيا إلى قوانينها، فلا يدخل أحد من الألمان إليه، ويعطى الأمان لكل من في القطار بمن فيهم المطلوبون من الألمان أو حلفاؤهم، مثل البلشفي البولندي كارل راديك، الهارب من الخدمة العسكرية النمساوية، كما لم يسمح لأحد من ركاب القطار بمغادرته لأي سبب كان، ولا يتوقف القطار نفسه إلا بأقل قدر تقني ممكن، كما اشترط لينين أن تحظر الحكومة الألمانية أي خبر صحافي يتناول عملية الإنتقال هذه إلى حين وصول الركاب إلى محطة فنلندا في العاصمة الروسية بتروغراد (لاحقاً، سينقل البلاشفة العاصمة إلى موسكو، لخشيتهم من سقوط بتروغراد بيد الألمان أو الفنلنديين أو بيد أعدائهم الداخليين، وسينفذون بذلك واحدة من مشاريع نقولا الثاني وحنينه إلى زمن قياصرة ما قبل بطرس الأكبر ومدينته الفاقدة للأصالة الروسية الأرثوذكسية النيوبيزنطية).

وعلى ما تظهره المؤرخة كاثرين ميريدال في كتابها الأخير «لينين في القطار»، فقد كان الرجل خلال الرحلة أشبه ما يكون بناظر مدرسة، يحدّد للرفاق ساعات قراءتهم، وأوقات تنظيمهم لحلقات الغناء، وكان إلى جانب لينين في الرحلة زوجته ناديجدا كروبسكايا، وأمينة سرّه وعشيقته الفرنسية إيناس آرمان، ومن القادة البلاشفة زينوفييف ولوناتشارسكي وراديك. ونظراً لأنّ محاكاة أحداث الثورة الفرنسية كان يطغى في تلك الفترة على الثوريين الروس، فقد استطاب الرفاق انشاد «المارسييز» الفرنسية فيما هم يعبرون البلاد الألمانية، وينصرون عملياً ألمانيا ضد كل من روسيا وفرنسا في الحرب الكبرى. سمحت الرحلة للينين بأن يدرك حجم الفجوة الديموغرافية التي كانت تعاني منها ألمانيا، لأنّه من نافذته في القطار لم ير في كل المدن التي جابها إلا نساء وأطفالا. زادت قناعته بأنّ الثورة موشكة في ألمانيا أيضاً، وبأنّ ما سيسلمه لألمانيا باليمنى، سيعود ويأخذه منها باليسرى. لم تفتر هذه القناعة رغم تقصّد الطاقم الألماني على القطار تقديم وجبات طعام دسمة وغنية للبلاشفة، لإقناعهم بأن ألمانيا لا تعاني من أي مشكلة غذائية خلال الحرب.

بعد المانيا، عبر الطاقم البلشفي إلى السويد ومنها إلى فنلندا التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية. في ستوكهولم، سيجبر راديك لينين على اقتناء جوز حذاء ومعطف غاليي الثمن، كي يبدو في أحسن حلّة عند عودته إلى روسيا، لأن بلاشفة العاصمة كانوا منهمكين في نفس الوقت في تنظيم استقبال احتفالي ضخم للرجل الأقوى بينهم، الذي كان معظمهم لا يعرف شكله. في فنلندا، سيطالع لينين بغضب أعداد جريدة حزبه، البرافدا، التي كانت عاودت الصدور بعد سقوط القيصر، فيدرك أنّه عليه خوض نضال ضروس لتصحيح المسار في حزبه أيضاً. لم يخف لينين مراده عند وصوله: انهاء الحرب مع المانيا تماماً وبسرعة، واستبدالها بحرب أهلية روسية. التعويل في نفس الوقت على ثورة وشيكة في ألمانيا التي تعاون معها من أجل عودته، ومن أجل الإطاحة بالحكومة الموقتة.

لم تعمل الحكومة الموقتة على ايقاف لينين بتهمة التعامل مع الألمان وعودته من خلالهم. الرأي الذي ساد داخلها، خصوصاً من طرف وزير العدل (لاحقاً وزير الحرب ثم رئيس الحكومة الموقتة) الاشتراكي البرلماني المعتدل الكسندر كرنسكي ان لينين قضى نهائياً على سمعته داخل روسيا من خلال قبوله بهكذا عودة بالقطار الألماني.

لكن لينين نفسه كان يستعد لإحتمال توقيفه ورفاقه عند العودة، وينظّم خطة مرافعته أمام المحكمة خلال الرحلة. قبل ساعات طويلة من وصول زعيمهم إلى محطة الختام، محطة فنلندا في بتروغراد، نجح البلاشفة في تنظيم حشد جماهيري فاق توقعاتهم لاستقباله، وكان حشداً مسلّحاً إلى حد كبير. جماهيرية الحشد كانت قبل كل شيء لحماية لينين ورفاقه من احتمال توقيفه. فرقة المصفحات المطواعة للبلاشفة، البحارة المسلّحون الآتون من قاعدة كرونشتات (سيبيدهم تروتسكي لاحقاً عن بكرة أبيهم في نهايات الحرب الأهلية)، كانت هناك لتأمين اللازم.

لم ترسل الحكومة المؤقتة من يريد ايقاف لينين يومها، ولا من يكون رسمياً في استقباله. في المقابل، حضر رئيس سوفيات المدينة المنشفي (الجيورجي) نيقولا تشخيدزه، مرحباً بالعائدين، فلقي كل استخفاف به وجفاء من طرف لينين. فالرجل الذي عاد إلى روسيا في 3 نيسان بالتقويم القديم، 16 نيسان بتقويمنا (الغريغوري) كان يتحضّر لكتابة «موضوعات نيسان» التفجيرية: لا للجمهورية البرلمانية. تجذير القطيعة مع من أسماهم «الإشتراكيون قولاً، الشوفينيون فعلاً». قطع صلة البلاشفة بالإشتراكية ـ الديمقراطية التي شكلوا جناحها الراديكالي حتى ذلك الوقت، والتأسيس للحزبية الشيوعية، والأممية الشيوعية، والأهم، إعداد العدّة للإستيلاء على السلطة بإسم سلطة المجالس، رغم «الإعتراف بأن حزبنا ما يزال أقلية، وأقلية ضعيفة في مجالس مندوبي العمال».

مفارقة رهيبة في هذا الرجل الناقم، كل النقمة، على الحرب العالمية بين الدول التي قضت على ملايين الشبان في الخنادق، والمتشوّق، بلذة شبقية، إلى الحرب الأهلية، وبشكل كان صادماً لمريده جوزيف ستالين في ذلك الوقت، لأن البلاشفة «في الداخل»، ومنهم ستالين، كانوا معتادين على تقاسم الحلوة والمرّة أيضاً مع المناشفة في السجون والمنفى السيبيري، بخلاف لينين والمثقفين المنفيين الذين كانت عداوتهم مع المناشفة هي عداوة منفيي مقاهي في سويسرا، عداوة تشبه ما قد يحصل يومياً على مواقع التواصل الإجتماعي في أيّامنا.

هي مفارقة أيضاً بين لينين الذي كان أقرب للتسليم قبل شهر من ثورة الإطاحة بالقيصر، بأن جيله لن يعيش ليرى الثورة، وبين من أراد فرض الخط الذي رسمه للثورة التي لم يتوقعها، ونجح في فرضه بشكل متقن، منهجي، إنّما بشكل ساعدته عند كل عتبة جملة من المصادفات والظروف أيضاً. فليس كل من يركب قطار يصل إلى محطة فنلندا، وليس كل من يصل إليها يؤسس للقرن العشرين برمته، بكوارثه وأحلامه، وتركته الغليظة التي لا تسمح بعد لـ»قرننا» من أن يأتي.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى