صفحات العالم

مَسارُ العلاقة السورية اللبنانية: الاقتصاد السياسي للسيطرة/ أحمد بيضون

 

 

ما هو من بعدُ هذا «الاقتصاد السياسي للسيطرة السورية» على لبنان الذي تكرّس له اليزابيث بيكار ذاك الفصل الألمعيّ من كتابها الأخير؟

تقول المؤلّفة إنها لا تقصر المقاربة الاقتصادية على ما هو مادّي من وسائل وغايات، وإنما تلحظ المساق الاجتماعي والتجربة التاريخية في معاينتها تكوين الهويّات وتشكّل التصرّفات والمصالح. فهي تقتفي أثر كارل بولانيي في النظر إلى الاقتصاد على أنه بعدٌ من أبعاد الاجتماعي، بل هي تصل أيضاً إلى الاعتراف بقيمة معرفية لما يسمّيه جيمس ياسبرز وبرتراند بادي «البعد العاطفي» من الاقتصاد السياسي.

عليه تقرّر المؤلّفة أن السيطرة السورية على لبنان غادرت في الأعوام 1990 – 2005 حال الثمرة المباشرة للتدخل السوري في الحرب اللبنانية لتتخذ لها مرتكزاً شبكاتٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية فيها لبنانيون وسوريون وفيها فلسطينيون أيضاً.

كانت الحرب اللبنانية، على ما سبقت الإشارة إليه في عجالتنا الماضية، قد أسهمت في تحويل المعايير والممارسات الاقتصادية تحويلاً مرشّحاً للدوام عقوداً بعدها. فإذ فتّتت المشهد العام وعسكرَتْه خرّجت أيضاً مقاولين للسياسة من عداد السلك المقاتل مدخلةً العنف الصريح في الضبط الاجتماعي. والأهمّ أن الخروج من الحرب حكمه سياق سياسي ومؤسّسي كان أبرز معالمه الخروج السوري من اشتراكية الدولة ومغادرة سورية الخيار العسكري في مواجهة إسرائيل. كانت الساعة الأمريكية تدقّ في العراق وفلسطين فيما كان اتّفاق الطائف يتّخذ مساراً التبس فيه التطبيق بالتحوير. ويستوقف المؤلّفة «سَيْلُ» الاتفاقات التي تبعت «معاهدة الأخوة والتضامن والتنسيق» بين لبنان وسورية. وهذه اتفاقات تَصاحَب في صياغتها وإقرارها قدْرٌ من الاستعجال وقدْرٌ من قلّة الاكتراث. ولكن يستوقف المؤلّفة، على الأخصّ، ما نشأ من شبكات سورية لبنانية، في تلك المرحلة، مثّلت نسيجاً للمجال السوري اللبناني الجديد. داخلت هذه الشبكاتُ الهياكلَ المؤسّسية ولابس عملُها التشغيلَ البيرقراطي وعدّل إوالاته.

كانت الحرب قد مهّدت لهذا كلّه بإفقاد السلطات اللبنانية سيطرتها على الأرض وعلى الحدود. وهو ما أسفر في المنطقة المحاذية للحدود السورية عن مضاعفة زراعة الحشيش بين عامي 1975 و1984. وفي سنة 1984، أَحلّت القيادةُ السورية في جُرْد بعلبك مجموعاتٍ مسلّحة منها الفلسطيني (فتح المجلس الثوري لصاحبها أبو نضال) ومنها الأرمني (أصالة) ومنها الكردي (حزب العمّال الكردستاني) فبدأت، في المنطقة، زراعة الخشخاش. وموّل تصديرُ مشتقّاته شراءَ الأسلحة وأرضى شيئاً من جشع قادة الحرب وشركائهم من «المدنيين».

هكذا شهد أصحاب الثروات الموروثة الذين مالأوا المليشيات مضطرّين أو مختارين ظهورَ مقاولين جدد كثيراً ما كانوا ذوي اختصاص حقوقي أو هندسي وقد راكموا بعض الثروة من هجرات حديثة مختلفة الآفاق. وضع هؤلاء، على وجه السرعة، أيديهم على الفرص التي أتاحها تعطّل التموين العمومي (بالحبوب والمحروقات خصوصاً) وأفادوا بلا خوفٍ من حسابٍ من تلف السجلّات العقارية أو تعذّر الوصول إليها واستثمروا عجز الشرطة عن قمع الاستهلاك الهمجي للمياه والمقالع والرمول. في حمّى الاستعجال وفقدان الضوابط هذين، تكوّنت الثروات الجديدة بفعل أنشطة مضاربية وريعية غيّرت تكوينَ الرأسمالية اللبنانية ووجوهَ ممارستها. وفي جميع الطوائف، قَلَب ظهورُ الأغنياء الجدد ما كان معروفاً من تراتباتٍ اجتماعية منذ زوال الدولة العثمانية.

ذاك هو الوضع الذي انطلقت منه الوصاية السورية على لبنان بعد اتّفاق الطائف. فمذ ذاك استوى الاقتصاد اللبناني أرض «افتراس» سلّمت به أوساطٌ من المجتمع اللبناني أعرَضُ بكثير من تلك المؤيّدة أصلاً للنظام السوري. ومثّل تكوين «الشبكات» جواباً على قصور سلطة الدولة. فالشبكات، بتكثيرها فرص التفاعل، تُصرّف ما لا يسع المؤسسات استقطابَه من ولاءات الأفراد، ولكن هذا كان يقتضي، في الحالة التي نتناول، ما سمّاه جوزف مايلا انتقالاً لبنانيّاً «من الخضوع إلى الخنوع»…

في ختام هذا الاستعراض لجوانب السيطرة السورية على لبنان وصيغها، تتوقّف بيكار عند المعالجة الأسدية لأوضاع القوّات المسلّحة اللبنانية. وخلاصة الأمر ههنا أن الجيش اللبناني حُمِلَ على اعتماد النموذج الذي ميّز ما كان يسمّى «الجيوش الوطنية» في عددٍ من الدول العربية. وهذا في حينٍ كانت الجيوش المذكورة في سبيلها إلى مجافاة هذا النموذج. والسمة الرئيسة لهذا النموذج هي شركة الجيوش الوثيقة في حماية الأنظمة السلطوية القائمة. وهذا يقتضي وفرةَ العديد ويقتضي الأفضليةَ الإجمالية في المعاملة على أسلاك الوظيفة المدنية إلى إخضاع العسكر، مع ذلك، لرقابة أجهزة أمنية مختلفة وجعل مهمّات الجيش شبه محصورة في النطاق المعتاد لعمل الشرطة. في هذا المساق، أعيد تنظيم ما كان يطلَق عليه اسم «المكتب الثاني» واختير قائد الجيش لرئاسة الجمهورية وتوالى اختيار وزراء الدفاع من بين المقرّبين إلى دمشق وأصبح ضابطٌ سوريّ رفيع الرتبة يحضر اجتماعات مجلس الدفاع اللبناني وبوشر السعي إلى «تطبيع» الضبّاط اللبنانيين في دورات مدفوعة البدل من 18 شهراً في المدارس الحربية السورية وأفاد هؤلاء أيضاً من إقامات في منتجعات مخصّصة للضبّاط على الشاطئ السوري. وتستذكر بيكار من بين أصناف النشاط «العسكري» أن رفعت الأسد الذي كانت مليشياه قد ضلعت في النهب والمصادرة منذ الثمانينيات، في أرجاء لبنانية مختلفة، قد بسط حمايته على فريق من رجال الأعمال وهذا قبل أن يتحول إلى الاستثمار المباشر شريكاً لبعض أسر الشمال اللبناني. وعلى الإجمال، أصبحت كلّ شبكة لبنانية تحظى برعاية ضابطٍ سوري يعاونه رديفٌ لبناني عند اللزوم. فيما بقيت الشبكات ذات الطابع الدولي كتلك المختصة بتهريب الهيرويين الأفغاني خاضعة حصراً لإشراف القادة الكبار، تعرف طريقها المباشر من البرّ السوري إلى المرافئ اللبنانية. كان تعدّد الرؤوس هذا في العلاقة اللبنانية السورية، كما في توزّع الأجهزة الاستخبارية في سورية نفسها، مناسباً لحافظ الأسد الذي كان غضُّ النظر عن الإثراء الشخصي لمعاونيه يضمن له ولاءهم ويمثّل، في الوقت نفسه، ذريعة لإزاحة من يظهر داعٍ لإزاحته بدعوى مكافحة الفساد! هذا يستوفي عناصرَ ما تطلق عليه بيكار اسم «التذاوت» أي إسفار علاقة التداخل الموضوعي عن نوعٍ من الامتزاج التفاعلي بين الذاتين السورية واللبنانية. على أن هذا «التذاوت» استبقى عناصر «تمايز» هي التي يصفها القسم الثالث (الأخير) من كتاب بيكار. وهو القسم الذي نكرّس له ولخلاصة الكتاب عجالتنا المقبلة.

كاتب لبناني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى