نسبية المعرفة ومصير العقل/ أحمد بيضون
في كتاب سوكال وبريكمونت، إذن (وقد بدأنا حديثه في عُجالتنا الماضية) ما يتعدّى المآخذ الموضعية على بعض ما انطوت عليه أعمالٌ لأركان «ما بعد الحداثة» من المفكّرين الفرنسيين، وعلى استعارتهم نماذج من الرياضيات والفيزياء المعاصرتين، على الخصوص.
في الكتاب تناولٌ نقدي للموقف الفكري الذي ينتظم هذه الأعمال ويمثّل منطلقاً لها ومصبّاً في آن. ذاك هو القول بـ»النسبية المعرفية».
لا يجعل سوكال وبريكمونت نفسيهما خارج «النسبية المعرفية»، على نحوٍ قطعي. ولا هما يدّعيان دحضها، بل هما يقولان بتعذّره. هذه النسبية (وهي واحدة من نسبيات ثلاث لا يعرض المؤلّفان لاثنتين منهما: وهما النسبية الأخلاقية والنسبية الجمالية) موقف فلسفي لم يجترحه أركان ما بعد الحداثة الفرنسيون، بل هم بنوا عليه وذهبوا به مذاهب شتّى: بعيدة وقريبة. وإنما هي تجد مرجعها في الفلسفة الكلاسيكية عند ديفيد هيوم، مثلاً، وفي عهد أقرب إلينا عند نيتشه وفي عصرنا عند كارل بوبر وأقران له مختلفين وعند مارتن هيدغر أيضاً. فهي تفيض كثيراً عن نطاق «الأعيان» الفرنسيين الذين كُرّست لهم فصول من الكتاب ويعرض المؤلفان، في مساق نقدها، لمؤلّفين عديدين مختلفي الجنسيات. وحين يقال إنها لا تُدْحض يسري ذلك على صيغ قصوى منها: من قبيل القول بـ»التوحّد» أي بكون القائل بها موجوداً وحده في الوجود ولا وجود لسواه. فكيف يُدحض موقف عالمة بارزة من علماء المنطق، تدعى كريستين لاد فرانكلين، كتبَت إلى برتراند راسل تقول إنها «توحّدية» وتَعْجب أنها لا تجد من يعتمد يقينها هذا بين الناس؟!
على أن سوكال وبريكمونت يلفتان إلى أن تعذّر دحض القول ليس دليلاً على صوابه البتّة. وهو ما يفتح من جديد أبواب المناقشة في مناحي النسبية المعرفية ودرجاتها، مُبيحاً بَسْطَ الحجج للمفاضلة بين ما ينتسب إليها من طروحاتٍ مختلفة المشارب… ولكن ما هي «النسبية المعرفية» أصلاً؟ هي القول إن المعرفة لا تتعلّق بالموضوع وحده، بل بعلاقته بالعارف وإن ما ينتهي إليه هذا الأخير، في أي موضوع، ليس حقيقة موضوعية بل صيغةً للمعرفة مُلْزَمةً بالتقدّم في قوالب لغةٍ بعينها، وبما تعكسه هذه الأخيرة من اصطلاح اجتماعي يكيّف بدوره التكوين الشخصي للعارف. ولعلّ أبرزَ مثالٍ يستهدي به هؤلاء في إيضاح موقفهم هو «مبدأ اللايَقين» الذي جاء به الفيزيائي فيطرنر هيزنبرغ. ومؤدّاه أن درس مكوّنات الذرّة يقتضي إضاءتها… وأن تسليط الضوء هذا، بعناصره التي «يقصف» بها الدارس عناصر موضوعه، يفضي إلى تغيير في حالة الموضوع تجعل المعرفة المتواقتة لأي اثنين «متكاملين» من المتغيّرات الواصفة للموضوع أمراً محالاً. لا «يقين» إذن يبيح أن يوسم بـ»الموضوعية» وصفنا لعناصر الذرّة المدروسة. هذا «المبدأ» الذي يشير المؤلّفان إلى إساءة نقله المتكرّرة إلى مجال علوم الإنسان والمجتمع ونظرية المعرفة الخاصّة بها مبدأ مقرّ في المنظومة التي إليها ينتمي. وفي مناقشتهما لأمثال كارل بوبر وتوماس كون وبول فيرَبند، يبقى سوكال وبريكمونت بعيدين عن إنكار النقصان في المعرفة العلمية والتبدّل في أمثولاتها وسوء التأويل للمعطيات الذي يبقى العلماء عرضة له، ويجهد لتقريبه من جادّة الصواب علماء لاحقون. هذه نسبية يريانها مقبولة ويقبلان ما يعادلها في علوم الإنسان والمجتمع. وكان كلود ليفي- ستروس، مثلاً (ومؤلّفانا يجادلانه في بعض فرضيّاته) قد أظهر وجود منظومات متباينة للمعرفة تتوزّعها المجتمعات من «وحشية» وغيرها ولا تعدو منظومة الفكر العلمي الذي تأخذ به المجتمعات الحديثة أن تكون واحدةً منها.
على أن «نسبيةً» يقرّ بها العلم ويؤكّدها تقدّمه نفسه ويسعى العلماء، بلا توقّفٍ أو كَلَل، إلى نقد آثارها وتصويب ضلالاتها هي غير «النسبية» التي تذهب إلى إنكار وجود العالم الموضوعي من أصله، وإلى اعتباره بناءً اصطلاحياً تنشئه المجتمعات بلغاتها وتقاليدها… هي غير نسبية «البرنامج الشديد» في فلسفة المعرفة، وهو يجهد لردّ المعارف العلمية إلى بواعثَ اجتماعية يرى أنها تستنفد مضامينها. هي أيضاً غير «النسبية» التي تضع المعارف كلّها على قدم المساواة، مسوّية ما بين العلم وما يدحضه العلم من فكرٍ سابق له. فيكون منها، مثلاً، أن تفترض الصواب لعلم الفلك الحديث وللمعرفة التقليدية بالنجوم والأبراج سواءً بسواء. وترى أن حركة الشمس الظاهرة في أفق الأرض حقيقة، في نطاقها المعرفي، مساوية لدوران الأرض حول الشمس ولمعرفتنا الحالية بالنظام الشمسي، في نطاقٍ معرفيّ آخر. فعند هذه النسبية أن أمر الحقيقة مودَعٌ عند الجهة العارفة فلا يختصّ بالموضوع المعروف ولا ينسب إليه.
يوضح سوكال وبريكمونت أن هذا الجدال يتعلّق، في نهاية مطافه، بمكانة العقل، وأن «النسبية» حين تُنْصب حدّاً لعمل العقل ولا تعدّ حافزاً لمسيرته إنّما هي أَمارةٌ لانقلاب أساطين «ما بعد الحداثة» الفرنسيين على فلسفة «الأنوار» الفرنسية، أي على الإسهام الفرنسيّ الأهمّ في تأسيس العالم الحديث أو بعضِ ما هو قابلٌ لخدمة التفتّح الإنساني فيه، على الأقل. ويعجب المؤلّفان، وقد سبق القول إنهما من أهل «اليسار»، أن يكون خصوم العقل المحْدَثين في فرنسا من أهل «اليسار أيضاً. وهما يريان بعضاً من تفسير هذه المفارقة في انهيار اليسار التقليدي وخواء وفاضه، من فكريّ وغيره، وفي تعيين هذا الجيل من أهل الفكر مواقعهم في مواجهة تراثه. وهو ما قد يحمل على إطاحة الصالح والطالح، خصوصاً عند النظر في أفق يبدو متفاقم الانغلاق منذ أن فشل السعي إلى تجديد اليسار في حركة 1968 وفي غدواتها. على أن هذا لا يمنع المؤلّفين من التشديد، عند التطرّق إلى الجانب السياسي من فكر «ما بعد الحداثة»، على كون العداء للعقل والظلامية كانا دائماً عُدّة شغلٍ يمينية وأن في هذه الواقعة ما يحمل على ردّ العقل إلى مقامه السامي في جهة «اليسار».
لا يفوت سوكال وبريكمونت أيضاً أن يدرجا هذا الجدال الذي يخوضان فيه في مداه التاريخي. فيعيدان إلى الذاكرة نقدَ برغسون المشهور لنسبية آينشتاين في كتاب سمّاه «المدّة والتواقت» ولم يلبث أن اضطرّ إلى وقف إعادة طبعه فلم تصدر له طبعة جديدة إلا بعد وفاة المؤلّف بمدّة مديدة. يرى المؤلّفان في كتاب برغسون هذا كتاب فلسفة، بطبيعة الحال. ولكنهما يضيفان أنه كتاب فيزياء أيضاً وأنه كتاب فيزياء رديء مشحونٌ بالمغالطات، بصدد آينشتاين ونسبيته، وجديرٌ، من هذه الجهة، بموقع يتبوّأه في الصفّ الذي ينتظم فيه رعيل «ما بعد الحداثة» الفرنسي.
لا تبيح لنا معرفتنا بحدّنا إبداءَ رأي إجماليّ في قيمة هذا الكتاب: كتاب سوكال وبريكمونت. فهو، في الجانب الأهمّ منه، يستقي حججه من علومٍ ليس لنا منها نصيب يذكر. هذا مع أن الكتاب شديد الوقع على قارئه، في كلّ حال. فهو يغيّر النظرة إلى مؤلّفين عشناً مع أعمالهم وبها حيناً من الدهر. ثم إن عرضاً سريعاً للردود عليه يُظْهر بيسر كم كانت سقيمةً بل منحطّةً أحياناً ولو وقّعها أمثالُ جاك درّيدا وميشال سير. على أن الكتاب لا ينبغي له (ولا هو يريد، في ما نرجّح) أن يُدْرِج في جرابٍ واحد دعيّةً من طراز كريستيفا وفيلسوفاً له قُماشة دولوز.
نبقى على يقين، في الختام، أن العالم الموضوعي موجودٌ بقوانينه التي يواصل العلم تبديلَ نفسه ليُحْسِن استقصاءَها… وأن من يعتبر هذا العالم وقوانينه مجرّدَ «اصطلاحٍ» لغوي- اجتماعي ليس عليه سوى أن يلبّي دعوةَ سوكال (الذي يبدو، فضلاً عن سعة معارفه، رجلاً ظريفاً يحبّ اللعب) إلى تحدّي هذا الاصطلاح من نافذة شقّته الكائنة في الدَوْر الحادي والعشرين!
كاتب لبناني
القدس العربي