هل انتهى المسار السياسي في جنيف؟/ بكر صدقي
على مسافة أسابيع قليلة من الموعد الافتراضي الذي حدده سايكس وبيكو القرن الواحد والعشرين، جون كيري وسيرغي لافروف، لبدء المرحلة الانتقالية على أطلال الخراب السوري، وقف سفاح دمشق الصغير أمام مجلس شعبه «المنتخب» ليعلن أن «سيل الدماء لن يتوقف» قبل القضاء «التام» على الإرهاب.
والإرهاب في نظره، كما أصر على إفهامنا طوال خمس سنوات ونيِّف من قتل السوريين وترحيلهم خارج البلاد، يتمثل في كل السوريين، باستثناء قلة قليلة ما زالت متمسكة بالعبودية تحت حذاء الطغمة الحاكمة ومستعدة للانتحار من أجل بقائها، بعد القضاء على ملايين السوريين طبعاً.
هو يعرف أن استقدامه لكل حلفائه، من روسيا إلى إيران إلى الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، للحرب على سوريا من أجل بقائه، لم ينفع في تغيير مصيره المحتوم. ولا حرب التحالف الدولي ضد داعش المستمرة منذ قرابة السنتين، في العراق وسوريا، وتشارك فيها نحو ستين دولة، استطاعت أن تفعل شيئاً يتناسب مع ما كان متوقعاً منها ضد الإرهاب الحقيقي.. فلا يبقى من معنى لكلامه الدموي إلا إعلان النية لمواصلة سفك دماء السوريين إلى النهاية (ولم نكن بحاجة لهذا الإعلان، على أي حال، لمعرفة النوايا. فالأفعال سابقة). نعم لن يتوقف سيل الدماء إلا بانتهاء أجل هذه العصابة الممسكة بإمكانيات عسكرية كبيرة، وللأسف: بشرعية دولية لم تُسقَط عنه، بخلاف الادعاءات الكاذبة للدول الفاعلة والأمم المتحدة. وإلا لما جلس ممثلو هذه العصابة الإرهابية المسلحة في قاعات المؤتمرات في جنيف كطرف سياسي له رأي في «حل سياسي». فمكانهم الطبيعي هو وراء القضبان في لاهاي. حتى جهات مستقلة كنادي الصحافة في واشنطن، لم تجد حرجاً في تأجير قاعات مقرها لندوة استضافت ـ عبر اتصال بتقنية سكايب – بثينة شعبان المدانة بالإرهاب في قضية ميشيل سماحة المعروفة في المحاكم اللبنانية. وهي نفسها مستشارة رأس العصابة الإرهابية التي أطلقت، في آذار/مارس 2011، إشارة البدء بالفتنة الطائفية.
إن العمل على مسار «تسوية سياسية» أحد طرفيها هذه العصابة الإرهابية، كما تريد الولايات المتحدة وروسيا، هو بحد ذاته وهم، الغاية منه ملء الفراغ السياسي و»إدارة الأزمة» كما يقال، إلى أن تنضج الظروف لحل حقيقي لن يكون أحد طرفيه الطغمة الكيماوية القابعة فوق صدر دمشق. ربما كان هناك أمل ضئيل بأن ترغم الدينامية السياسية لمسار جنيف التفاوضي، العصابةَ على بعض التنازلات، كفترات من وقف إطلاق النار ليتمكن السوريون المنكوبون من التقاط أنفاسهم ومداواة جراحهم النازفة. لكن مسار «وقف العمليات العدائية» المزعوم، الذي بدأ في نهاية شباط الماضي، اتضح أنه لا يعني وقف قصف طيران النظام وحليفه الروسي للمستشفيات ومخيمات النازحين. وها هي الأمم المتحدة تعلن عجزها عن إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة (وقد ازداد عددها في فترة وقف العمليات العدائية) وتراجعت عن خطتها المزعومة بصدد إلقاء المساعدات من الجو، بذريعة أن ذلك يتطلب موافقة النظام!
فإذا كان ذلك الأمل الضئيل نفسه وهماً، لم يبق إذن ما يمكن توقعه من مسار جنيف القائم أصلاً على أساس هش، وغير قابل للتطبيق.
يبقى أنه حتى الجهات المشرفة على عملية جنيف، لم تعد تتحدث بلغة التفاؤل المحدود التي كانت سائدة قبل أشهر. فستافان ديمستورا ـ المكلف الأممي بالمسألة السورية – انكفأ عن تحديد مواعيد مقبلة لاستئناف جولات المفاوضات، و»المشاورات المتواصلة» بين كيري ولافروف حول سوريا، تدور بعيداً عن الإعلام. ما قد يعني أنها تركز على جوانب الصراع في الميدان، وما هو مسموح أو غير مسموح به في محاولات تعديل موازين القوى على الأرض.
مدهشٌ، مثلاً، تصريح لافروف الأخير بصدد «عدم السماح بسقوط حلب»! في الوقت الذي يُخشى فيه العكس، أي سقوط حلب المحررة التي يضيق طوق الحصار من حولها، باستثناء الجنوب. أي خانطومان التي أصبحت تسمى بحق «مقبرة الجنرالات الإيرانيين في سوريا»! الوضع محيِّر فعلاً: ففي الوقت الذي تعمل فيه روسيا وحلفاؤها المحليون في «قوات سوريا الديمقراطية» على قطع شريان الحياة عن فصائل المعارضة في القسم الشرقي من مدينة حلب، من خلال تمدد تلك القوات من الشمال باتجاه المدينة، بموازاة محاولات تمدد الميليشيات الشيعية من الريف الغربي باتجاه غربي المدينة، تحقق الفصائل الإسلامية انتصارات ماحقة في الريف الجنوبي.
وسبق للإيرانيين أن تذمروا من امتناع الطيران الروسي عن تقديم الغطاء الجوي لقواتهم في تلك المنطقة، خلال الجولة السابقة من القتال في شهر أيار. ربما ضبط إيقاع المعارك بهذه الوتيرة الغريبة هو ما يشكل قسماً من «المشاورات المستمرة» بين كيري ـ لافروف. هذا بدون أن نتحدث عن الجبهة الجنوبية التي لها حسابات أكثر تعقيداً، ربما بسبب حضور العامل الإسرائيلي القوي، بدلالة زيارات بنيامين نتانياهو المتكررة التي باتت روتينية إلى موسكو، للتنسيق بشأن الصراع السوري متعدد المستويات والأطراف.
التصعيد العسكري الأسدي ـ الروسي، وفشل «المجتمع الدولي» في الحفاظ على وقف الأعمال العدائية، وفي إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة ـ ناهيكم عن فك الحصار عنها أو إطلاق مئات آلاف المعتقلين في معتقلات الإرهاب الأسدي ـ ودخول «الهيئة العليا للمفاوضات» في غيبوبة «إعادة الهيكلة» ونفقها المظلم… كلها علامات لا تخطئ على انتهاء مسار جنيف بشكله الحالي ومعطياته ومفرداته الحالية على الأقل.
٭ كاتب سوري
القدس العربي