11 أيلول 2012
يوسف بزي
كل ما يحدث في سوريا، وهو موثق بآلاف الأفلام، لا يحرّك «غيرة المسلمين» ولا يُشعل فيهم الغضب. لكن فيلماً واحداً (رديئاً وعنصرياً حسب رأي الذين شاهدوه) لم يلقَ أي نجاح تجاري أو فني، كان كفيلاً بإخراج الجموع عن طورها في ليبيا ومصر واليمن وبلدان أخرى. وهؤلاء في الذكرى الحادية عشرة لهجمات 11 أيلول الارهابية (ويا للتوقيت المحرج)، لم يخرجوا في تظاهرات سلمية، ولم ينظموا اعتصامات مدنية، ولم يرفعوا مذكرات احتجاج، كما انهم مثلاً لم يكلفوا حقوقيين لرفع شكاوى قضائية ضد صانعي الفيلم ومنتجيه.. بل خرجوا كرعاع وغوعاء، وارتكبوا القتل والتعدي والشغب والحرائق على نحو همجي.
حدث ذلك في بلدان «الربيع العربي» تحديداً، حيث أبدعت الشعوب ثوراتها الحضارية، السلمية والمدنية، وتحاشت العنف قدر ما تستطيع، وواجهت أعتى الديكتاتوريات بالصدور العارية. حدث ذلك في البلدان التي خرجت منها عشرات الآلاف من الاشرطة المصورة والافلام اليومية والحقيقية، والتي جعلت العالم، لأول مرة في التاريخ المعاصر، يعيد صوغ صورة الشعوب العربية والإسلامية، بوصفها صورة إيجابية وإنسانية. لأول مرة برهن العرب والمسلمون للعالم انهم ليسوا «استثناء» في طلب الحرية والكرامة والديموقراطية والعدالة، وان الاستبداد والعنف والقسوة والتطرف ليس من طبائعهم الثابتة. في تلك البلدان بالتحديد، حيث راهنت الشعوب على القيم الانسانية المشتركة، وعلى الرأي العام العالمي، وعلى منظومة العالم الحر تحديداً، في نضالها ضد الطغيان، وخاطبت وجدان الغرب خصوصاً بلغة حقوق الانسان من أجل نصرتها ودعمها.. في تلك البلدان تحديداً ظهرت أسوأ السلوكيات وأردأ الأفعال من عنف وتطرف وهذيان منفلت تدميراً وفوضى.
هكذا عادت الصورة القديمة، الصورة الشيطانية عن «الإسلام السياسي». هكذا تجد «الإسلاموفوبيا» مادتها الجديدة وبراهينها الوافرة والدامغة لتنتعش مجدداً وتزدهر. البشرية جمعاء تفرجت على ما حدث في بنغازي والقاهرة وصنعاء، شاهدت تلك الجموع الهائجة بسبب فيلم لم يعرف به أحد تقريباً قبل ليلة 11 ايلول 2012، وبات الذين سيشاهدونه من الآن فصاعداً بالملايين. أما الإساءة للرسول التي تعمدها الفيلم فقد لا توازي الإساءة إليه وإلى الدين الإسلامي التي سببها رد فعل عشرات الآلاف من الذين اقتحموا السفارات، يضاف إليها حجم الضرر والإساءات التي ستلحق بالبلدان والشعوب في المستقبل القريب.
الأعمال الشائنة حدثت في الدول التي سقطت فيها الديكتاتوريات بالتحديد (ليبيا، مصر، اليمن، العراق) هذا ما دفع الكاتب الإسرائيلي غي بخور ليكتب في صحيفة «يديعوت أحرنوت»: «أسقطت السنتان الأخيرتان لإدارة أوباما في الشرق الأوسط نظم الحكم القومية القديمة ومهما تكن مكروهة، وجعلتا الدول العربية مثل أفغانستان موبوءة بالعصابات المسلحة، والجماعات المتطرفة المسلحة والعنف الشديد، وكل ذلك برعاية الديموقراطية المقدسة. وهل يوجد شك في أنه إذا نشأت دولة فلسطينية فستصبح مصدر خطر وجودي على جارتيها اسرائيل والأردن؟ وحصناً سلفياً آخر لا يمكن التحكم به؟ ألا نرى ما يحدث في غزة التي يجري عليها هي نفسها تحول إلى السلفية؟» يضيف غي بخور (وهنا بيت القصيد): «قد تتم إدارة أوباما الآن العمل بإبعاد بشار الأسد، وجعل سوريا ايضاً أفغانستان جديدة، وفريسة سهلة لعصابات مسلحة طائفية وعصابات مسلحة بالإرهاب والفوضى واليأس».
الكلام الإسرائيلي، للأسف، لا تعوزه البراهين الفورية من نوع ما جرى في بنغازي والقاهرة. سيجد آذاناً صاغية عند الرأي العام العالمي. الضرر المباشر، قد يدفع ثمنه الشعب السوري والثورة السورية. إذ ستطفو على السطح مجدداً تلك النظرية القاتلة التي مددت عمر الطغيان طوال خمسة عقود: الإستقرار بقوة الدبابات والعسكر والديكتاتورية قبل أي حريات أو ديموقراطيات. وقد يتراجع العالم إلى الوراء، سيعتصم بـ «التجربة الجزائرية» مثلاً: العسكر ولا الإسلاميين. سيتلقف النظام السوري الكلام الإسرائيلي، صارخاً: أرأيتم؟ هل تريدون أن تصير سوريا أفغانستان أو صومال على حدود إسرائيل؟
الذين انفلتوا في شوارع بنغازي والقاهرة وصنعاء لن يغيروا من حقيقة أن في العالم، كل يوم، ما لا يعد ولا يحصى، وبسهولة فائقة يمكن انتاج رواية أو رسم أو فيلم أو مسرحية تسيء للإسلام أو لأي معتقد ديني أو دنيوي.
هذه حقيقة لا يمكن تفاديها ولا التغلب عليها عبر التاريخ. لكن من الممكن الانتصار عليها وتهفيتها فقط بالتفوق الأخلاقي وبفضح بذاءتها أو عنصريتها أو تحاملها أو ركاكتها.. أما ما فعلته تلك الجموع فهو أنها هي بالذات أنتجت فيلماً رديئاً بثته شاشات العالم يبدو فيه المسلمون متوحشين، غوغائيين وإرهابيين. كل «أعداء الإسلام» يحلمون بفيلم كهذا. وها هم الذين يدعون «الغيرة» على الإسلام ونبيّه ينجزونه خير إنجاز وأقوى بما لا يقاس من ذاك الفيلم الذي أغضبهم.
في 11 أيلول 2001 قام تنظيم القاعدة بعمله الإرهابي. في 11 ايلول 2012 ثمة انطباع ان المعضلة أكبر بكثير، وقد يكون الضرر الذي سيلحق بالبلدان العربية والإسلامية، خصوصاً في دول «الربيع العربي»، من الصعب حصره. كل الجهد الذي بذل منذ هجمات نيويورك للتمييز بين الإسلام والإرهاب. وكل إنجازات الثورات العربية قد يتقهقر، وبالأخص ما قد يصيب مسار الثورة السورية وقدرتها على حشد الدعم والتأييد والمؤازرة. كان ذلك لسان حال لافتة رفعها متظاهرو حمص المحاصرة (موقع «ناو لبانون»): نحن نُقتل ونُذبح ونُشرد ونُهجَّر وتُنتهك أعراضنا وتُهدَم مساجدنا، والمسلمون ينتفضون من أجل فيلم؟! ليت ما يحدث في سوريا فيلم…».
المستقبل