ذلك اليوم
ذلك اليوم
فاديا لاذقاني
من أوراق صديقة نسيتها عندي منذ زمن بعيد. صديقتي اعتقِلت بين عامي 1981 و1984. اعتُقل أخوها الأكبر عام 1982 وأمضى قرابة 11 عاماً في سجن تدمر. ذهب أخوها الأصغر لمراجعة فرع “أمن” في الشام، أواخر أيار 1983. ذهب ولم يعد.
اليوم، عُلّق على خشبة… أخي. اليوم، تغادر بيتَنا الفراشات، وبنهر الجنون يتعمّد.
رحت أحثّ الخطى ولهاث الشؤم يخترق كياني. “احضري فوراً”. بالكاد استطاعت زائرةُ بيت أهلي تكملة جملتها. خدشت أذني شهقةٌ عظيمة وارتجاج خلته ارتطام السمّاعة على الأرض!
كان يوماً قائظاً. أخي الأكبر عاد إلى الحياة بعد قرابة أحد عشر عاماً، أمضاها في سجن تدمر.
كانت أمي قد شكت لي سلوكه معها منتحبة. “تعالي شاهدي أخاك الذي خرج مشلول اللسان أخرسَه”، “يا بنتي، لو كنت أكلّم صخراً لردّ. تعالوا دبّروا أخاكم”. إنما كانت أمي تسأله سؤالاً واحداً لا تحيد عنه.
فتحتُ باب البيت بيد مرتعشة، كأن الدقائق التي أمضيتها للوصول طالت ساعاتٍ لا أدري كيف تحمّل قلبي فيها خفقه. قبالة الباب في الغرفة الصغيرة كان أخي “الجديد” على الوضعية نفسها التي رأيته فيها قبل مغادرتي البيت. شاحباً كان، ومفرط الهزال، بشعره الذي بدأ يغزوه بياضٌ لا أزال أنكره، جامداً كأبي الهول على الأريكة نفسها، في المكان نفسه. كان يضع كفّه اليمنى على جبهة رأسه المنكّس الساكن. أيطرق في جماد الأرض يسائلها تُفاهِمُه لغةَ صمته المكين؟ ألم ينتبه إلى مجيئي؟ أين نسيتَ نفسكَ القديمة يا أخي؟ وكيف خطفوا من عينيك بريقهما؟
هدر صوتٌ آتٍ من منتصف البيت. صياح يتخلل أشباه كلمات، صواتٌ أشبه بعواء حيوان جريح. هرعتُ أفتح باب الصالون.
كانت الزائرة تصارع أمي ممسكةً ذراعيها وكتفيها، تدفعها خلفاً بجهد نفّرَ منها العروق، وغلّظ الأوداج. إنها تمنع اندفاعها لبلوغ المساحة المربّعة الصغيرة الفاصلة بين الصالون وغرفة أخي. فسحة صغيرة فاصلة بين ما كان وما سوف يكون. برهةٌ بين جلجلة وجحيم.
انفلتت أمي كمارد من حبس قمقمه الطويل: “لم أعد أحتمل. كم زيارة ذهبت بعد أيامٍ وأيام أحضّر أغراضها وألفّ الأكياس ثم أعود أفتحها عشرات المرات، لعلّي نسيت وضع الملح والفلفل وفرز الطعام واللباس والشراشف والمناشف. ثم طريق الصحراء التي لا نهاية لها. وعدّ الثواني بقلب يتصدع للوصول إلى القلعة الحصينة. وعلى بابها، يكون الجواب: ليس عندنا سجينان بهذا الاسم. يا ما تساءلتُ في الليالي ما سرّ حياة الأم رغم موتها كل يوم ألف مرة؟ ها هي أخته اسأليها إن كانت تعي، وقت كانوا يسمحون لي بزيارتها، كم تعللتُ العلل واخترعتُ الأكاذيب، كيلا يفضحني حزني ونظراتي الساهمة فتعلم بسجن أخيها الثاني. الآن خرج “هو” ويجب أن يحكي لي. ألستُ أمه؟ إنه يغرس في قلبي الخناجر بصمته. لماذا لا يردّ عليَّ؟ إنه يعرف أين أخوه. قلبي يقول إنه يعرف”.
أمي الضئيلة الرقيقة الناعمة ستتحول لبوءة كاسرة. ها هي تندفع كشلالٍ كاسح فقد للتوّ سدّه، وتفلت من يدَي الزائرة موقعةً إيّاها أرضاً. أما أنا، فسمعتُني أقول: “يا أمي ارحميه، العذاب نفسه الذي تحكين عنه عانى منه هو هناك”.
كأن ما قلته كان شرارةً أخرى، فها هي تقذف بي إلى الحائط وعيناها تجحظان نافثتين رعباً وويلاً وثبوراً. أربع وثلاثون سنة عشتها مع أمي لم أعرف لها عينين كعينيها اللحظة، ولا قوةً كهذه! كانت تزأر: “أنتم متآمرون عليَّ. هيا، صارحوني بالحقيقة. فكركم أني لم أسمع همسكم البارحة!”.
حالما بقينا وحدنا، نظر إليّ أخي “الجديد” وقهرُ العالم يهطل من عينيه، ثم قذف بجملته التي خنقها في حلقه سنين، دفعةً واحدة، بلا مقدمات ولا تمهيد: “أخونا عبد، روّحوه”.
“لستم أبنائي ولا أنا أمّكم. كأنكم لستم قطعا من جسدي. تتوشوشون الليلَ ظناً منكم بي النوم. تحكون اللغات الأجنبية التي أفنيت عمري لتتعلموها، كي لا أفهم. هل أصبحت عدوّتكم؟ ألا أستأهل رداً منكم؟ من التي حملت به وأرضعته وسهرت عليه ورعته وكبّرته؟ أليس ابني قبل أن يكون أخاكم؟ إن لم تصارحوني بالحقيقة فوراً، فسأرمي بنفسي من الشرفة. أريحكم وأرتاح”.
يا إله الشياطين.
– يا أمي، بالله عليك اهدئي، نحن لا نعرف شيئاً نقوله لك عن أخينا.
– وهل تعرفون الله أنتم؟ أنتم كفرة. أنكرتم حليبي.
أفلتت أمي مني، وخطت خطوةً وسيعةً في اتجاه الشرفة. وهي لا تزال ترعد وتزبد:
– اليوم بيني وبينكم. اليوم بيني وبين ابني الذي أضحى كالأخرس! سأقتل نفسي إن لم تصارحوني بالحقيقة فوراً.
أخي لا يزال في الغرفة. هكذا كنت أظن. كنت قد أقفلت الباب الفاصل بين نصفي البيت، بين أمي وأخي، بالمفتاح. لكن ها هو ينبق كأنما انشقّت عنه الأرض. راعتني عيناه، فمنهما تنبعث نظرة لا أعرف لها وصفاً، وقوة شيطانية تدفعه كسهمٍ مارق نحو أمّنا. أمسكها من ذراعيها: “روحي خلّصينا، روحي كبّي نفسك من البلكون”. وحشٌ حلّ في أخي. تلبّسته قوة مدمرة فراح يدفعها في اتجاه الشرفة! “ما هكذا تفعل أمهات الشهداء”. “قتلتَ أخاك. والآن تريد قتلي أنا”. لم يكن واحدهما يسمع الآخر، فخرجت جملتاهما متراكبتين اللحظةَ عينها. تابع يردد كآلة حمقاء هادرة: “يللا، روحي وخلّصينا”. جَرّها من ذراعيها كالخروف الصغير، “هذا هو اتجاه الشرفة. روحي، كبّي نفسك منها. روحي. خلّصينا”.
فجأةً، أمي الصغيرة الرقيقة الضئيلة استسلمت. كأنما بدأت تعي، فأفقدتها الدهشة كلّ حول. أما أنا فلا أدري من أين أتتني القوة لأفصل بينهما. “اذهب يا أخي. أتوسل إليك أن تدعها لي، أرجوك. اختف، اذهب”.
دفعتُه بقوة في اتجاه غرفته.
جاء دوري. لعلّي لم أجد حليفاً ضد العبث غير العبث. إذ خرجت من حلقي كلمات بصوت يشبه صوتي:
– يااااااااأمي، كفى. ياااااااااااااأمي. أخونا عبد… غير موجود.
نظرت أمي إلى الفضاء بعينين زائغتين. لم تقل شيئاً. لم تبك. فتحَت باب الصالون الذي كنا قد أغلقناه بالمفتاح.
آخر شريط لك قبل رحيلك كان حفل زواجك. كنت وسيماً حالماً بهياً ومشتاقا. كنت سعيداً. أكنت سعيداً يا أخي؟
قال أخي لعروسه ووالدته:
– سأغيب ساعةً أو بعضها. سأعود ريثما يسخن طعام الغداء. فانتظراني.
أين أمي؟ آه. الشرفة! ركضتُ كالملسوعة. خيّل إليّ أن وجيب قلبي يصل أعالي السماء وأنا أنظر إلى الشارع تحت الشرفة! لا شيء. لا أحد. فتشتُ عنها في الغرف. أفي الحمّام هي؟ ماذا تفعل في الحمّام؟ كانت هنا، فالباب مقفلٌ بالمفتاح. لم تفتح. لم تجب.
صمتٌ كحفّة الهاوية. يا أمي، يا أمي، افتحي الباب. صمتٌ كحدّ السيف. قررتُ أن أكسر الباب لو لم…
خرجت أمي. بسرعة البرق خرجت. سبقتَنْي إلى الصالة، دخلتها مغلقةً خلفها الباب.
كانت تقوم في منتصف الصالة طاولة خشبية. داخل أدراجها بضعة أغراض منها محبرةٌ لا أدري لِمَ لبثت هنا كل هذه الأعوام. ألبثت هنا انتظاراً لهذه اللحظة الغادرة؟
فُتح الباب. انبثق منه كائن كأنه خارج للتوّ من أعتى فيلم للرعب. سوداءَ، سوداءَ، سوداءَ خرجت أمي. بقعٌ سوداء على رقبتها، بقع سوداء على ثوبها، بقع سوداء على وجهها، بقع سوداء على كفّيها وذراعيها. وحده لون حفرتَي عينيها لم يكن أسودَ. خرجَت ولم تنظر إليّ فكأنها لا تعرفني.
تقدمت بجلال إلهةٍ في ملحمة تسطّر الجنازات والأهوال.
ببطءٍ شقّ موكبها الخطى خطوةً فخطوة. وصلتْ إلى باب البيت. فتحَته. وطارت للمسافات بحبرها وتيهها.
صفق الباب. بيتنا صناديق موت بلا جثث. وتأكد الفقدان فيه مقيماً أبدياً ينهش تقطيعاً في أوصاله.
عبد، يا أخي. يا حبيبي الصغير الوديع الأمين الصدوق المحب الخجول اللطيف الناعم الجميل السخي الرقيق العذب الودود المحترم العاشق النبيل. أنتَ الذي كنتَ تخشى قتل حشرة وتنهانا عن فعل ذلك، فإن رأيت أحدَنا يفعل، حملتها آمنةً في كفّيك الى خارج البيت.
أنتَ الذي كنتَ، منذ نعومة أظفارك، تفتح يديك دائماً بالعطاء.
ثم كبرتَ. وصار يخشى كلُّ من يعرفك أن يقول لك كلمة مجاملة في ملبس أو مأكل، فلا يذهبنّ إلا مجبراً على حمل ما مدحه في يديه صاغراً لقرار عطائك الذي لا نقاش فيه.
أنتَ الذي كنتَ تخاف الجنية “التابعة” ونحن صغار، فتتدثر تحت اللحاف كي لا تهجم عليك ليلاً، تبكي جُنحَهُ من دون أن تجرؤ على طلب الغوث، خانقاً نشيجك بين أضلاعك لئلا يوقظ أحدنا.
أنتَ الذي كنتَ تنتحب إذا اشتدّ على أمّنا صداع، وتسهد الليالي آنَ تمرض، تنظر إليها ذائباً من الوجد وتساعدها دائماً في أعمال البيت وتقطيع الخضر والفواكه. ثم تُجلسها قبالتك بين الحين والآخر كأميرة، تمد بقدميها نحوك تقص لها أظفارهما بكل حنان العالم كي لا تحني ظهرها إذا ما فعلت بنفسها.
أنتَ الذي أسمعتَني صالح والسيد وعثمان وأم كلثوم ويئستَ من تعليمي عزف “نسّم علينا الهوى”. ثم كنتَ تهتز طرباً كلّما عزفتَ “دقة ستي” و”النهر الخالد” على عود أبينا القديم.
متى غادرت بيتنا الزائرة ثم أخي؟
… ثم مشيت في اتجاه الباب لا فكر لي. ستكون لي طوال الساعات كي أعنى بترتيب تفاصيل فجيعتي كأنما لأتأكد من أن ما حدث كان يحدث لي!
خرجتُ الى الشارع أبحث عن أمّي. لحقتُ بها طلوعاً ونزولاً. ما من أثر.
… أعادوا أمي والحبر يغلفها من رأسها إلى أخمص قدميها. تفرّق نسيجه الواحد وبهت، فأضحى بقعاً بنفسجيةً زرقاء امتزجت حدودُها وتفارقت. غادرتها اللبوءة الكاسرة، وهيض جناحها إلى الأبد. دخلَت البيت كتمثال يتحرك. لا صوت لا كلام لا دموع. جفّت كما بقع الحبر على جسدها. ولا تزال لها تلك النظرة الساهمة في العماء.
أمسكتُها برفق فأطاعت. أدخلتها الحمّام ورحت أغسلها. كانت تمد يديها وقدميها ووجهها ورقبتها كطفل صغير صاغر.
ولم تكن قد نظرت إليّ منذ عودتها. ها هي اللحظة قد حانت، فما إن التقت نظرتانا، حتى رحنا في عناقٍ محموم وغرقنا في بكاءٍ مرير.