صفحات الرأي

أبو بكر البغدادي سيكون علينا أن نشكرك/ فاروق يوسف

 

 

بإعلانه قيام دولة الخلافة الاسلامية حلّ أبو بكر البغدادي اللغز الأسطوري؛ لغز حياتنا الملغوم بالأوهام والأقوال والمخطوطات المتهالكة والأقبية السرية والغمز واللمز وحكايات الفرق الناجية والمشي على الصراط المستقيم الذي هو جسر بعرض شعرة في ذيل حصان.

قال الرجل الأعرج مثل تيمورلنك، الذي ظهر من الخفاء بلباس أسود ولحية شاب، وقد نصّب نفسه خليفة لنبي صارت بردته مادة متحفية، ما لا يظهره الكثيرون خوفاً وتفجعاً وهم في أشدّ الشوق إليه. الشوق إلى عصر الرسالة والفتوحات وخيبر والغنائم والخمس وما ملكت أيمانكم وحروب الردة وجمل عائشة والحشر والخوارج والغيبتين الكبرى والصغرى وباب فاطمة والملائكة التي هي جنود من السماء وواقعة الطفّ وتراب كربلاء الذي ينضح دماً كما لو أن فراتاً آخر صار يصبّ في بحر النجف وطلع الفجر علينا.

أخيراً قامت الفكرة التي تؤرقنا من رمادها لتُنهي سكرة وقع بشار بن برد في حفرتها وصار على الرشيد وقد خذله القدر حين مات غريباً في فارس، أرض أعدائه أن يدفع ثمنها؛ ثمن تلك السكرة. أمن أجل أن نُنكَب مرة ومرات، وضع التاريخ نكبة البرامكة عقبة في طريق صديق شارلمان؟ هل ابتلينا بصداقةٍ كان سلمان الفارسي قد دفع ثمنها نفياً ونبذاً، لتخذلنا مرؤة أبي ذر الغفاري؟ تصمت الحقيقة وسط عويل الهالكات من النوح واللطم وضرب الرحى. منذ سقيفة بني ساعدة إلى غزوة القيروان مروراً ببيروت التي أنهكتها الحروب لتنتهي دمية مرتجفة بين يدي “حزب الله”، ونحن نحاول تهدئة الطفل اليتيم الذي صار لشاربيه في المرآة لون اللبن. “لقد خبأت القنبلة بين أهدابي فلا تدعوني أنام. أنا ساهر من أجل أن لا تقع السماء عليكم وتهرب مياه دجلة من بغداد”. اما المنقلبون على ظهورهم ضحكاً، النابتون مثل عشب بري على ظهر سفينة حربية، الطالعون على الفلاة كما لو أن يد القدر تدفع بهم إلى السراب، فلن يفلتوا من العقاب الإلهي الذي سيقع قبل صلاة الجمعة بركعتين.

إلى أن يتم جلب كرسي الخلافة من اسطنبول، فإن البيعة ستجرى وقوفاً. ما من حبر بنفسجي ليسيل على باطن الرئة، وما من إصبع ليخون بصمته التي ستمحى بالكيّ، فهي مثل الصوت، مثل الهيئة، مثل نداء الصلاة ستكون واحدة. لا فرق بين المسلم وأخيه حتى لو اقتتلا. اللسان يُلوّث بماء آسن ليقول الحقيقة التي تكذب في طريقها إلى اليابسة. سنعد المراكب للقراصنة وننتظر المجزرة من أجل أن ننقّي سرائرنا العامرة بالآثام. ألم يمر المختار الثقفي من هنا؟ كلنا فدى طلعته البهية. سيقتل من المسلمين ما لم يقتله المغول ولا الصليبيون ولا دولة الخروفين الأبيض والأزرق. ألهذا خرجنا هائمين على وجوهنا منذ عقود تظللنا الرايات الشيوعية والبعثية والقومية والليبيرالية؟ أمن أجل أن لا نكون إلا حشرات تطفو على ماء الحياء الذي هو نوع من ثياب التقوى؟ لقد أُهدرت جنّات من الكلام من أجل أن يمتلئ فؤاد أم موسى ولم يمتلئ. لقد ضاع صراخ ابرهيم في البرية. كانت بلاده السومرية قد أنكرته مثلما أنكره والده. وصار عليه أن يعترف أن هذه شعوب منذورة للفناء المبكر، لكربلائها وطريق آلامها وحزيرانها وبحر بقرها وعيون حلواتها وقصور نهاياتها. لكآبةٍ إن مست الحجر أذابته، وإن شقّت البحر أفقدته هدير أمواجه لتتركه أخرس أصمّ أعمى.

لقد جاءنا البغدادي وهو وارث خلافة كانت لغيرنا ليقول لنا “نحن شعوب كئيبة” بالأسود في كل تجلياته. ثياب سوداء كنا لبسناها. رايات سوداء كنا رفعناها. أفكار سوداء كنا شمّعنا بها أدمغتنا. نقاب أسود كنا تغزلنا به. حكومات سوداء كنا ركبناها من زفت أخطائنا. بلاد سوداء كنا خلطنا أخضرها بالدموع فصارت جحيماً. “أطيعوني”، يقول الرجل. وهل خُلقنا إلاّ من أجل أن نطيعك؟ سيدنا، كنا في انتظارك. لا تهمّنا رنّة الموبايل في جيب جبّتك. الشيطان يقيم في اللحظات الخرساء. لا شأن لنا بشركة تويوتا اليابانية التي صارت تستثمر وقع كلماتك في سيارات رباعية الدفع، هي الأخرى سوداء. ستغلبنا العاطفة فنبكي ونحن نراك كما لو أننا نتخيلك. الحبر، وهو ماء عاطفتنا، كان أسود دائماً. يقال إننا نتفوق بعاطفتنا على سوانا من البشر. فهل أنت عاطفي مثلنا؟ نقتل ونسرق ونخون ونكذب وننافق من غير أن ينقص شيء من مياه عاطفتنا. لقد وهبنا الله وجوهاً مصفحة بالنحاس وعيوناً لا تكفّ دموعها عن النظر إلى الخضرة باعتبارها نوعاً من السواد. هي هبة من الله لا تنقص. وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى يا مولانا. لن يحتاج الامر هذه المرة الى سهام وتروس وسيوف وخناجر. رشة ملح تكفي لكي تعيدنا الارضُ إلى رحمها. فالصحارى كلها قبرٌ لمالك. ومالك لا يزال أخوته يهذون باسمه. يبايعون موته. “أطيعوني”، تقول، ولا يليق بنا سوى أن نطيعك. منذ السقيفة ونحن ننتظرك.

قرن ضلالتنا يفصلنا عنك يا مولانا. كان قرن بدعنا، وكل بدعة هي ضلالة، وكل ضلالة في النار، كما قلت، وكما قال الغزالي من قبلك. فهل عليك أن تصدّق أن كل ما فعلناه كان تمهيداً لظهورك البهي؟ لقد التبس الأمر علينا وهانت علينا ملكاتنا في الخلق. أنطون سعادة وميشال عفلق وجمال عبد الناصر وسعيد عقل وبن بركة وبدر شاكر السياب وصليبا الدويهي ومحمد اركون ونزار قباني ومحمد عبد الوهاب وأدونيس وعبد الرحمن البزاز ويوسف سلمان يوسف الملقب بفهد ومحمود مختار ونجيب محفوظ وأحمد الشرقاوي وجميلة بوحيرد وجورج حبش وخليل حاوي وسواهم، لم يكونوا سوى النغمة الناقصة التي تغلّف اسمك السري بقشرة زخرفتها. سيكون ابرهيم نداء خفياً، ترفع الأجنة أصواتها في الأرحام من أجل أن تبايعه.

جئتنا في اللحظة المناسة من تاريخنا. يا لروعته من تاريخ.

مولانا لقد سُحِقنا. ولم تكن حياتنا سوى كذبة. تضحك مولانا، لا لأن الحياة كذبة بل لأن الكذبة صارت حياة. يهمّك أن نأتيك طائعين ولا نتهمك في شيء أنتَ لم تفعله. لقد فعلناه قبلك. لقد سعينا إلى الفشل بأقدامنا. كانت الطريق سالكة أمامنا ففضّلنا عليها الدروب الملتوية. يفضّل بعضنا الطرق الريفية على ركوب الخطر في الطرق السريعة. لكننا كنا نكذب في نزواتنا. كنا نضع الله في قالب ثلج، بين وسادتين، على الحاجب الذي يغمز كما لو أنه يقع في الغزل. لقد سحقتنا ريبتنا ولم نكن مواطنين إلا من جهة الحق العام. فكانت الدولة تضحك بنا علينا. ستكون الخلافة حلاً. لن يكون هناك فراغ دستوري. فلا رئيس يذهب إلى بيته، ولا رئيس يصرّ على أن لا يذهب إلى بيته، ولا رئيس يُقتل قبل أن يذهب إلى بيته.

أبو بكر البغدادي سيكون علينا أن نشكرك.

لقد أنقذتنا من الديموقراطية التي عبثت بعقولنا. في الوقت الذي كانت عاطفتنا تفكر فيك. نحن مثلك عاطفيون. نقتل ونسرق ونكذب، غير أن عاطفتنا تظل دامعة العينين ولا ينقص ماؤها. منذ السقيفة هناك فراغ دستوري، وهو ما يجب أن يُملأ. سيقال إن لديك مهمات أخرى. وهذا ما نصدّقه، لكن بمزاج يائس. سيكون العالم مسرحاً. انت ممثل ونحن ممثلون. يسلّمنا القدر إلى أدوارنا على ذلك المسرح. تعجبني ثقتك في دورك وأنت تعتلي المنبر لتلقي خطبة الجمعة على بشر لا تعرفهم. إنهم أبناء الموصل. أكثر العراقيين وفاء لوطنيتهم. كانوا العمود الفقري للجيش العراقي. ورثة الأشوريين بثيرانهم المجنحة. دينهم لا ينافق، وعشقهم يصل بهم إلى الموت. كانوا يحلمون أن ينتهي الكابوس، فإذا بك تُخرجهم من دائرة سوء الفهم. لقد ابتليتَ بمهمتك الرسولية وعليهم أن يعينوك على حمل الأمانة بالمشي على رؤوس الأصابع في وادٍ سيكون مزروعاً بالبصل ومسيّجاً بالخبز اليابس استعداداً للهجرة الثانية. وهي هجرة ستعيدنا إلى حقيقتنا، خرافاً ضالة أخطأ رعاتها السابقون حين لم يعلّقوا برقابها الأجراس. وها أنت تفعل. لقد فعلتَها. فطوبى لمن يتبعك. لقد كذبنا على أنفسنا كثيراً. وها أنت تطلع منا لتقول كلمة صدق كرهناها. لو لم نكن كما تعرفنا، ما كان لك أن تتسيّد علينا. أنت المرآة التي تقول حقيقتنا، بلهاء، معتوهين، عبيداً ونفوسا مريضة. أسودُك ضروري في بلاد زيّن الذباب أسوارها الكئيبة برائحة الجثث، وهي بضاعتنا الوحيدة التي تقدّمنا إلى العالم.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى