خليل النعيميصفحات الثقافة

القتل ليس حلاً والاستجداء كذلك/ خليل النعيمي

لماذا لا نقول الحقيقة؟ والحقيقة ليست في قبول الواقع، ولا في تَراكم الأحداث، وإنما في استلهام التاريخ. والتاريخ يعلمنا أن «قلب الوضـــع» لا مفر منه عندما يستاء الشعب، ويبدأ بالتمرد على الطغمة الحاكمة. وهو عندما يصل إلى هذه النقـــــطة، نقطة الاستياء المُحَرِّر، لا يحتاج لا إلى براهين، ولا إلى مبررات، وإنما يبدأ العمل بتلقائية ثورية لا نكوص عنها. 

ما نحن فيه الآن، ليس أزمة عابرة، ولا انتفاضة مغرضة، ولا شأناً مفتعلاً، ولا هو حركة احتجاجية بسيطة. إنه أعمق من ذلك بكثير، وهو يجمع كل هذه الصفات أيضاً. إنه شيء آخر لا تعريف شافياً له إلى الآن، وبالخصوص لا توصيف منهجياً له. لأن هذه المقاربات الشكلية هي من ثوابت «الوضع القديم»، الذي غدا، فجأة، مهترئاً وبذيئاً. وهو ما يجعل حيرة الطغمة الحاكمة في أعلى مراتبها، حتى أنها لم تعد تعرف أين موقعها.

لماذا لا نقول الحقيقة؟ حقيقة أوضاعنا. لماذا نغمض أبصارنا عن الماضي، ونُهَوِّله، ونقدِّسه، وهو مُلَفَّق ومزيف وتعيس؟ مَنْ نخشى، بعد الآن، وقد وقعنا في المجزرة؟ واليوم نتساءل لماذا يعذبنا «الرئيس» ويرهق نفسه، وهو يحاول جاهداً أن يحكم شعباً شَبَّ عن الطوق، ولم يعد يريده؟ وكيف لا زال يظهر بضحكته العريضة مخترقاً أزلام سلطته التي بدأت تزول تدريجياً، على الرغم من العنف الدمويّ الذي يسوم به الشعب الثائر. لماذا؟ نريد جواباً «جديدا» منه، من الرئيس الضاحك، جوابا لا علاقة له بالإصلاح الكاذب، ولا بالحوار المعطوب، ولا بالعفو المزعوم عمَّن لا يحتاجون إلى عفو من أحد: الثوّار الأحرار، والمناضلين الشجعان، والرافضين لكل أشكال العبودية الحديثة. هو الذي يحتاج، في الحقيقة، إلى عفو منهم. نريد أن نسمع أكاذيبه بصوته الشخصيّ، لنتأكد من أن القطيعة، في وضع مثل هذا، هي السبيل الوحيد للخلاص منهما، من الرئيس ومن نظامه.

الشعب الثائر لا يريد المحافظة على «شعرة معاوية»، وإنما قَطعها. وهو الذي سيَقصُم تلك الشعرة التي تربط بين السلطة والإصلاحيين. فمنذ أن بدأ «الوعي الجديد» بالعمل لدى الشعب صار كل شيء ممكناً بما فيه «التحرر من العبودية» المفروضة عليه بقوة السلاح. والحرية المنتزعة، في هذه الحال، هي التي يريدها الشعب، ويبحث عنها. ومنذ أن يدركها، لن يُفَوِّض أمرها لأحد، من بعد، تحت أي ظرف، ولأي سبب كان.

منطق السلطة (لا لغتها فحسب): منطق «راقِب وعاقب» هو الذي تجاوزَته وقائع الثورة الجديدة. تجاوزته حتى وهو يتذَرَّع بــ «منطق» الحوار والإصلاح، والتدرُّج والاستجابات الكاذبة لإرادة الشعب، خاصة، في ما يتعلق بالمواضيع التي يعتبرها «معقولة» و«قابلة لللتحقيق»! ولكن، مَنْ يقرر ما هو معقول وما هو غير معقول؟ ومَنْ يعرف ما هو قابل للتحقيق وما هو غير ذلك؟ إنها السلطة، نفسها، طبعاً! هي التي تعرف كل شيء، تعرف..

تعرف مصالحها ومصالح غيرها. تعرف مصالح الوطن ومصالح الشعب ومصالح العالم، و… كل شيء تعرفه هي، حتى بلا جهد معرفيّ.

لكنها تجهل بالتأكيد أن الشعب الثائر لم تعد له علاقة بما تعرفه، ولا حتى بما لا تعرفه. لقد أصبح في حالة قطيعة جذرية معها، ومع كل أشكال منظومتها السابقة. قطيعة مع النظام السياسي الذي تدافع عنه، ومع السياق المعرفي التي تتبنّاه، ومع المفهومات الأخلاقية التي تتحرك وفقها، ومع الاعتبارات الواقعية التي تحاول، إلى الآن، الاستناد اليها، مهما قدَّمت من تبريرات وأسباب ومخاوف واحتمالات.

ما يحدث الآن، للشعب الثائر لا علاقة له بالسياسة. والمسؤولون عنه لا علاقة لهم بها، أيضاً. إنه قتل محض، وهم قتلة ومجرمون. ولا يبرر ذلك أي شيء في الوجود، حتى ولا «الوطن» نفسه. ولا يمكن قبوله من أية زاوية نظرنا إليه. ونقطة الافتراق الحاسم بين الشعب المتمرد، والمثقفين المسْتَوْعَبين، ولو «كباراً»، هي مواقف «الاستِجداء»، والسلوك المتذبذب المرافق لها. وخير مثال على ذلك هو استجداء أدونيس في «السفير» رئيسه الضاحك، الذي لم يعد رئيساً لمن ثاروا عليه، لكي يعطي الحرية للشعب! ولم يسأل أدونيس نفسه كيف يمكن لرئيس غير حر أن يتصدَّق بحرية لا يملكها على شعب أصبح خارج نطاق السيطرة، ولم يعد يقبل الهدايا المسمومة، بعدأن بَلغ «سنّ الوعي».

فليستجدِ رئيسه مَنْ شاء، ولينتظِر «حرية» ستهبط عليه من السماء. أما الشعب الذي عرف طريقه التاريخية إلى حريته اللامستجداة، وقد بدأها بقوة، ومشى نحوها خطوات صاخبة، فقد صار يدرك أن عليه أن ينتزعها من مخالب «الأسد» حتى ولو كَشَّر عن أنيابه الضاحكة. لا تستمعوا إليهم، إذن. إلى مثقفي القرن المنصرم، فهم أيضاً، جزء من السلطة الغاشمة، وإن بتجليات أخرى. وهُم يخلطون بين الحرية والجوائز.

لا! لا تَفاوُضَ، ولا تَراجُعَ، ولا استيهامات إصلاحية. لا شيء غير القطيعة الكاملة مع الوضع القديم، يمكن أن يرضي، بعد اليوم، أو يكفي الشعب الذي ثار، أخيراً. وإذا كانت السلطة تعرف كل شيء، فإننا لا زلنا نجهل لماذا تقتلنا. ومع ذلك، ليس الموت هو الذي يخيفنا اليوم، ولا هو هدفنا، وإنما الثورة. الثورة حتى على أوضاعنا الشخصية التي تتضخَّم كثيراً عندما تنضاف إلى الوضع العربيّ العام. وهو ما لا تستطيع السلطة الحمقاء إدراكه، فتصير تتمادى في قتلنا وكأننا للموت خُلقنا، لا للحرية والحياة.

والآن، رَدِّد ورائي، «أيها الرئيس»، كلما نظرتَ إلى وجهكَ في المرآة، فأنت المسؤول عما يحدث، أيّاً كانوا الجُناة: لماذا تقتل شعبكَ الأبيّ، ياغبي؟

رَدِّدْ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى