صفحات الثقافة

واقعية قذرة/ ساجي

 

دمشق هي كابول، وكابول تصغر كغابةٍ من فراغٍ معمّم، كبصقةٍ من الطابق العاشر للقصر، تصغر كسربٍ من القمل المهاجر لم يحترم الإشارة الحمراء، تصغر كخروج قبائل الدادائيين على سلطةِ المنظور، حيث “النظرةُ تختلف باختلاف المنظور إليه”، تصغر تصغر كقفصٍ من الدجاج يدخل في عداد المذبوحين على الشريعة، تصغر كلا شيء أمام طاووسٍ يلقي رائعته الرواندية، “الآن… هنا أو شرق المتوسط” للمرة الألف.

حمص “غيرنيكا” الأزمنة الحديثة، عدن ما بعد الطوفان، عروض الهواء الطلق، خفة الدم المدخَّنة، الساعةُ التي تسهر عقاربها على مينا مفضّضة ومفضوضة، هناك “حيث تبول الملائكة”، حيث يفيض الحبّ من منقار ديك الجن بصياحه المذبوح: حمص يا ألف طعنةٍ في جسدِ الله، يا قشدة الشرق الملفوفة حين سقطت الكلمةُ في ضمير “أبانا” فتولدتْ دمشق. لن تكوني لوحةً أخرى أمام UN العالم الحامل كونترول الشاشة شبه النائمة.

الآن صار بإمكانِ صدركِ أن ينال حصته المجانية من الهواء وحصته المقنّنة من السارين، الآن صار بإمكان قلبكِ ان يثبت حزنه الواقعيّ ويبرهن أن الألم الشعريّ لم يكن افتراضياً قط، الآن صار بإمكان عينيكِ أن تفتحا ذاكرتهما للملأ في معرضٍ استعاديّ، وكل الصور للعرض فقط: دمٌ على قماش ومواد حية أخرى، الآن صار بإمكان الليل أن يعلن سيادته على النهار، والنهار أن يعلن انسحابه من الزمن، والفرح دعوةٌ مؤجَّلة لكنها لا تزال قائمة. الآن صار بإمكانِ كلماتكِ أن تتلو رغبتها الأخيرة وحلمكِ، أُحيلتْ أوراقهُ على المفتي.

* * *

أمسكتْ بخصلة شعرها الهاربة كمظلةٍ تجرفها الريح، تطلعتْ إلى لا شيء وأعلنتْ: اعتنقتُ مذهب ريتشارد فورد!

قبل ذلك كانتْ حالمةً إلى درجةِ أنها علّقتْ على جدرانِ بيتها الحديث صورَ كل الرومنطيقيين ورقصت على “الأطلال” وعمر ابو ريشة وحتى عمرو موسى والعقيد الذي أصبح مرحوماً في ما بعد، مع حل الدولة الواحدة. رغمَ أنها في قرارة نفسها تؤيد المبادرة العربية للسلام وتهزّ رأسها وتكتفي بقول لمَ لا، ليس لحيثياتها السياسية أي المبادرة لكن لكونها هي تقدّس ذلك الألم الممض الظالم الذي ينتجه حبٌّ من طرفٍ واحد. اهتمتْ بكلّ التفاصيل وقالتْ: غرفةُ نومي هي عالمي المائل للغروب. كان صوتها عبر الهاتف يضاهي البحّة الضارعة في: “evry thing I do I doit for you”، وهي أغرمتْ بنقاشاتهم الرومنطيقية، حتى أنها فكرتْ مرة في وضع ملصق “لسيريا باركينغ” كإسقاط لولعها بالأرصفة والعواطف المجانية والامتيازات الضبابية وتصيح: ديني هو الرومنطيقية. كانتْ تجلس على رصيف ساروجة بخفٍّ رياضي من شركة تومي وكوفية محدّثة وتمسك نبريش نارجيلتها كفرمان “ويا جبل ما يهزك ريح” وتقول: ما الثورة؟ ما العمل؟ وتجيب نفسها: الثورة هي أن تصحو وتجد نفسك في بستان أخضر، هي أن تفتح ملفاً على سطح مكتبكَ وتسطر الكلمات المفتاح: “حرية، إخاء، الوطن للجميع” وأيقونةً تمثل غيفارا ممسكاً سيجاره الغليظ، الثورة شيء في غاية الحلم. وتضيف لكن “الثورة بحاجة إلى حزب فا جريدة حزب فا”. وكنا نقول لها الثورة أساساً هي هدم من أجل إنشاءٍ أكثر وعياً. الثورة هي وجع مرحلي وانفصالات عميقة. الثورة بحاجة إلى نظام ورؤيا. وحناجر. وكانت تغضب وتصرخ أنتم متشائمون ومتخوفون. أنتم واقعيون.

الذي حدث بعد ذلك كان سطلاً من الماء البارد، كان انكساراً في دارة الدفق الشعوري، كان مفاجأة لا يطالها التنظير وفرحاً بغير المتوقع واحتمالاً كبيراً في ألمٍ أحمر، كان “الغضب الساطع” وبدايةً خضراء، وكان أيضاً دعساً ممنهجاً على الحشيش الطفل، وتصيح في وجه اللقطات الأولى “يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي”.

لكن! الذي حدث أنها في لحظةٍ ما فتحتْ عينيها لتجد وجهها الليموني ومؤخرة زوجها المحبحبة نابضةً في مرآة السقف (التجلي الخارق لرومنطيقيتها) والدماء تملأ الشاشات…

تطلعتْ صديقتي إلى لا شيء وأمسكت خصلات شعرها الهاربة، القصيرة كآياتٍ مكية وقالت: الآن أنتظر ورقتي، وأصبحتُ واقعيةً قذرة.

* * *

يحدث أحياناً كما في لحظةٍ بعينها أن يتغيّر لونُ الدم وتتوقف كرياتُ الفرح عن الدوران، يحدث أحياناً كما في لحظةٍ بعينها أن تنوء الفكرةُ بثقلها ويترسب صدأٌ أسود على حوافِ قلبٍ تعلّم البياض، حيث لا بدّ للريح من بوصلة ولا بدّ للبوصلة من جهة ولا بدّ للجهة من شاخصة زرقاء وسهم يشير إلى الطريق حيث لا بدَّ للطريقِ من قدم آن يحدث في لحظةٍ بعينها أن ينمو فرحٌ طحلبيّ على حبال الحناجر وتنهض صديقتي لتجد نفسها وقد أصبحتْ حنجرة.

* * *

التناص

“النظرة تختلف…” جملة لابن عربي، “الآن هنا…” رواية عبد الرحمن منيف، غيرنيكا قرية إسبانية دمرها النازيون وخلّدها بيكاسو بلوحة شهيرة، “حيث تبول الملائكة” مجموعة شعرية لجورج أمادو، “أبانا” تسمية قديمة اطلقت على نهر بردى، ريتشارد فورد روائي أميركي من أبرز كتّاب الواقعية القذرة، “الأطلال” قصيدة ابرهيم ناجي غنّتها أم كلثوم، evry thing أغنية للمغني الكندي براين آدمز، “سيريا باركينغ” شركة خاصة استثمرت شوارع دمشق، “يا جبل…” جملة اشتهر بها ياسر عرفات، “حرية، إخاء…” شعارات الثورة الفرنسية، “الثورة حزب فا…” جملة من إحدى مسرحيات زياد رحباني، “يا أولاد الأفاعي…” إنجيل متى آية 7.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى