أضرب المربوط يخاف السايب!
أمجد ناصر
لا يفعل نظام بشار الأسد سوى تعميم سيناريو ‘حماة’ الثمانيني على النطاق الوطني السوري لإنهاء الثورة ضده. لا درس عنده ولا عبرة (ولا سياسة) عندما يتعلق الأمر ببقاء حكم العائلة أو زواله، سوى تلك المجزرة التي حملت اسمها مدينة واحدة في سورية تدعى ‘حماة’ وتحملُ، اليوم، مدن وبلدات كثيرة اسمها ولونها القاني، رغم انقضاء ثلاثين عاماً على المجزرة الأولى التي أريدَ لها أن تكون عبرةً لمن اعتبر. العبرة حصلت فعلاً. واشترى الأسد الأب، بسيلٍ من الدم وتسّوية مدينة بالأرض، ثلاثين عاماً من خضوع السوريين وصمتهم.
لكنَّ التاريخ لا يعود الى الوراء. لا يكرِّر نفسه، بحسب تعبير ماركس، إلا على شكل مأساة أو مهزلة، بيد أنَّ السَّدنة الخفيّين للنظام السوري، أولئك الذين تركهم الوالد ذخراً للولد في أيامه السوداء القادمة، لا يعرفون شيئاً عن التاريخ واستحقاقاته التي قد تؤجل، أو تمطّط، ولكن لا يمكن تفادي حتميتها. هناك شيء واحد يعرفونه لمواجهة التمرد على الإخضاع ألا وهو المزيد من الاخضاع. التمرد على القمع يعالج بمزيدٍ من القمع، والاحتجاج على النار يُصلى بمزيدٍ منها. وما يجري في سورية، مذ قرَّر قسم من السوريين تحطيم أعلى جدار للصمت في العالم العربي، هو عودة لمخطط ‘حماة’ ودرسها الذي خُتِمَ، بالحديد والنار، على أفواه السوريين وأجسادهم. خلاصة ذلك الدرس، لمن لا يعرفه، بسيطة ولا تحتاج الى علوم سياسية أومهارات في التضليل بل أعلى مستوى يمكن أن تصل إليه وحشية البني آدم: توزيع العنف المنظَّم والعشوائي، ليس فقط، على الذين تحدّوا سلطة العائلة الحاكمة وأصنامها بل، أيضاً، على البيئة الحاضنة لهم. ‘أضرب المربوط يخاف السايب’، كما يقول المصريون أو العكس، مارس أقصى قدرٍ من العنف المتاح، أشعر الثائرين، ومن لفَّ لفَّهم، أن لا وجود لخط أحمر. وأرِهم ذلك. لا رحمة ولا شفقة ولا شفاعة لأحدٍ حتى يأتي الجميع راكعين، بكلِّ معنى كلمة ركوع وكما تظهر الفيديوهات شكل هذا الركوع وأمام أيِّ إله يفعلون! الركوع ولا شيء غير الركوع لإله القتلة والشبّيحة وشاحذي السكاكين ومنعدمي الضمير واللصوص المعاد تأهيلهم.
هذه هي ‘سياسة’ النظام السوري ولا سياسة لديه غيرها. حرفياً لا شيء. ففاقد الشيء لا يعطيه. لا تنتظروا منه مبادرة ولا حلاً من أي نوع فهو غير قادر، بنيوياً، على ذلك. قد يقول قائل: ولكنَّ هذه ‘السياسة’ التي نفعت في حماة الثمانينات لم تنفع في الثورة الراهنة بدليل استمرار الصراع المدني والعسكري مع النظام بلا توقف أو تراجع منذ ثمانية عشر شهراَ. هذا صحيح، لكن، مع ذلك، لا يزال بشار الأسد وزمرته يأملون ‘أن يؤتي القمع أكله’، بحسب تعبير مجلة ‘تايم’ في خصوص هذا النقطة بالذات، كما أنه لا يزال يستخدم أسلحة تقليدية ضد شعبه ولم يلجأ بعدُ الى ‘آخر العلاج’: السلاح الكيماوي. هل يمكن أن يستخدم بشار الأسد أسلحة كيماوية لإنهاء الثورة ضد حكم عائلته؟ يصعب التكهن بذلك مع أن هناك تقارير تؤكد استخدام والده لغاز ‘السيانيد’ أثناء هجومه على مدينة حماة عام 1982 ما أدى إلى سقوط نحو ثمانية عشر ألف قتيل في ذلك الهجوم فقط.. ولكن حتى وإن لم يعد يأمل بشار بنجاعة ‘الدرس الحمويّ’ وقدرته على ردِّ عصاة اليوم الى حظيرة الطاعة فلا طريق أمامه سوى هذه الطريق المعبَّدة بالدم والأشلاء.. لا يستطيع، بشار ومن معه، هؤلاء الذين أحرقوا سفنهم مع شعبهم، إلا المضي في طريق الدم وبراميل الديناميت، هذا الاختراع البشَّاريّ الفظيع، الماركة الرهيبة المسجلة باسم طبيب العيون في فترينة القتلة والسفاحين.
‘ ‘ ‘
هذا في خصوص النظام، ولكن ماذا عن المعارضة السورية؟ ماذا عن هؤلاء الذين ابتلي بهم الشعب السوري كما ابتلي ببشار الأسد وزمرته؟ أي كوارث ألحقوها بشعبهم من خلال ‘قواهم’ السياسية و’تنظيماتهم’ التي تتناسل كالفطر السام، والتي لا يتجاوز جمهور بعضها الرجل وزوجته، وربما واحد أو اثنان من أبنائه؟ ماذا عن استزلامهم شبه الكامل لدوائر قرار عربية وإقليمية قد لا تتوافق مصالحها مع مصالح الشعب السوري الآن، ناهيك عن المستقبل؟! ماذا عن هؤلاء؟
لا مجال، بالطبع، للمقارنة في ‘ميزان’ القوة بين النظام ومعارضته. هذا أمر مفروغ منه، ولكن هناك امكانية للمقارنة بينهما لجهة ‘الإحساس’ بالمسؤولية الوطنية. كلاهما، في رأيي، على هذا الصعيد سواءٌ. كلاهما منعدم الإحساس بالمسؤولية. النظام الذي يفجِّر مدنه ببراميل الديناميت والمعارضة التي كلما تعمَّق مأزق البلاد وعمّت الكارثة فيها تشظت أكثر. ففيما كان يعوَّلُ على انشقاقات، سياسية وعسكرية، تضعف النظام وتقرِّب يوم الخلاص لسورية حصل العكس: راحت المعارضة تصبح معارضات والمعارضات تتشظى، بدورها، الى معارضة للمعارضات، خصوصا مع كل موعد لتوحيدها، أو للتنسيق بين أطرافها، حتى صرنا نأمل أن تتوقف كل ‘مبادرات’ توحيد المعارضات لأنها لن تجلب أخباراً طيبة للغالبية العظمى من السوريين الذين يتطلعون الى خلاص سريع وقريب كيما تحافظ البلاد على وحدتها الترابية والوطنية. وبقدر ما المعارضة السورية مسؤولية وطنية سورية كبرى هي، أيضاً وبالمقدار نفسه مسؤولية عربية. ولم نر، حتى الآن، إحساساً حقيقياً بالمسؤولية العربية تجاه الكارثة التي تعرفها سورية اليوم والمتجهة الى ما هو أسوأ مستقبلاً إن لم تحدث معجزة ما تطيح بالنظام من فوق وتحافظ على جسم الدولة (والبلاد) قائماً ما أمكن.
لو كان الذين لهم القول الفصل مع ‘المعارضات’ السورية يبغون مصلحة سورية بعيدة المدى لضغطوا على جماعاتهم كي تنضوي في اطار جبهة وطنية عريضة تشكل حالة تمثيلية يمكن الركون اليها محلياً وعربياً ودولياً. ولو كان الذين يعملون على ‘زكزكة’ نظام الأسد عسكرياً يرغبون، فعلاً، باطاحته لبذلوا جهداً أكبر (وهم قادرون) على مستوى توحيد القوى العسكرية المعارضة (المتشظية بدورها مثل المعارضات السياسية) في اطار وطني عريض ومن يشذُّ عنه، من القوى، يقصى وينبذ، بدل هذا التعدد غير الصحي لكتائب ‘الجيش الحر’ وتشتت جهودها ومواقفها، وهو ما أفسح في المجال لتسلل قوى سلفية تكفيرية لن يكون سهلا احتواؤها أو مواءمتها مع الخط العام للثورة السورية المنادي بدولة مدنية ديموقراطية تعددية.
فمتى تصحو المعارضات السورية من غيبوبتها التلفزيونية وتنهي (أو على الأقل تحدُّ) استزلامها لقوى عربية وإقليمية لا يمكن أن تكون في صف الثورة.. أي ثورة حقيقية لأنها معادية، جذرياً، للثورات بل للتغيير بمعناه البسيط؟
فهل نسمع خبراً طيباً في اللقاء القادم للمعارضات السورية المقرر في السابع عشر من هذا الشهر؟
نأمل ذلك من أعماق قلوبنا.
القدس العربي