“عرفتُ الجحيم.. من سوريا الأسد الى مخيمات لبنان”
[مقتطفات من كتاب صدر حديثاً عن دار “بلون” الفرنسية، عنوانه “عرفتُ الجحيم. من سوريا الأسد الى مخيمات لبنان”. للراوئية فايزة د. والكاتبة جنان قارح تاجر. نشرت المقتطفات صحيفة “لوموند” الفرنسية (11 تشرين الأول 2013).
“صارت الزبداني خطراً على محمد، خطيبي. كان يعيش مختبئاً في أراض بور، لا يعرف أحد بالضبط أين. لم يكن محمد يجرؤ على القيام بزيارة لي. كان يخشى أن يراقبه أحد، فتكون حياتي وحياة أهلي تحت دائرة الخطر. كان ملاحقاً كما الحيوان، تبحث عنه دمشق بالإسم، بذريعة انه هرب من الخدمة العسكرية وتحول الى “عدو من الداخل”، ومهدّد بالتالي بحكم الإعدام. في صفوف رفاق محمد لم يبق عدد كبير على قيد الحياة. وكانت الشائعات الهامسة تقول بأن التمرّد الآن أصبح يتمتع بدماء جديدة، بدعم جديد من رجال يتقنون فنون الحرب. وكلهم جنود أو ضباط كانوا قد انشقوا عن الجيش النظامي، ومقاتلون محترفون درسوا وتدربوا في روسيا، ولكن أيضاً جهاديين كانوا يتدفقون من كل أنحاء العالم، من العراق الى باكستان وحتى من فرنسا والسويد وبريطانيا. لم نكن نحب هؤلاء الجهاديين، كنا نكره تعصبهم. كنا نناديهم بـ”طالبان”، ولكن كنا بحاجة اليهم. كانت شجاعتهم تتفوق على المعايير البشرية، كانوا يذهبون الى القتال من دون حساب للمخاطر. لم يكونوا يهربون من الموت، إنما كانوا يبحثون عنه… وكانوا، لو لزم الامر، يقاتلون بأياديهم أو بمجرد قاذفة صواريخ لمواجهة أرتال الدبابات. كانوا يتسابقون على التطوع من أجل تفجير أنفسهم بسيارات مفخخة، وكانوا يصيبون أهدافهم أكثر مما يفعله شبابنا. كانوا يريدون الذهاب من هذه الدنيا وهم شهداء، لينضموا الى جنة الله؛ وهذه الفكرة كانت تمنحهم قوة خارقة. وطالما انهم أتوا الى هنا للجهاد، ولم تكن نيتهم البقاء عندنا، كنا مضطرين للقبول بهم وعدم الإعتراض على أعمالهم.
أخيراً قرر محمد، خطيبي، أن يرحل. اذ لم يتبقَ له أي حيز يتحرك ضمنه. كانت قوات الأسد كشفت هويته تماماً وصنّفته كعدو. والأرجح أيضا ان في صفوف الجيش المنشق نفسه كان هناك جواسيس للأسد. تمكنوا من تحديد مكانه، فحاصروه. كان يعرف بأن توقيفه لم يعد سوى مسألة أيام، بل ساعات. قال لي على الهاتف بأنه سيرحل، وهو غارق في حزنه. وعدني بأنه سوف يتصل بي حالما يصل الى مكانه المقصود، لبنان على الأرجح، إذا تمكّن من عبور الحدود. خرج مشياً على الأقدام، هو وإثنين من رفاقه. الزبداني ليست بعيدة عن الحدود اللبنانية، ولكن الجبال التي تفصلنا عن لبنان كانت محشوة برجال النظام وبالألغام المضادة للأفراد (…).
ثم إنضم محمد الى قافلة اللاجئين. ولكنه كان لا يزال على قيد الحياة؛ وهذا هو الأهم بالنسبة لي. إتصل بي بعد وصوله الى لبنان وأفصح عن السبب الحقيقي لرحيله من سوريا. قال: “تركتُ الزبداني من أجلك، من أجل أن أتمكن من الإلتقاء بكِ… عرفتُ طعم السعادة معك، وكان من الغباء أن أموت الآن” (…).
في هذه الأثناء، كان “الجيش السوري الحر” اكتسب مهنية قتالية عالية وأخذ يسيطر على بلدتنا ونواحيها. بالمقابل، أصبحت الإنفجارات والصواريخ أكثر تكراراً، بمعدل الساعة أو الساعتين في النهار؛ ودائماً بشكل مفاجئ، بحيث تكون القذائف الأولى حاصدة العدد الأعلى من المدنيين. الجيش النظامي أيضا أصبح أكثر مهنية. وكل قذيفة يلقيها علينا كانت تصل الى هدفها. كانت الناس تهمس بأن الواقفين على المدافع من الجنود السوريين قليلي الدقة، وبأنهم استبدِلوا بأنفار من “الباسدران” الإيراني أو من ميليشيات “حزب الله” اللبناني. هؤلاء كانوا يعرفون مكامن أوجاعنا: كانوا يتركوننا لساعات طويلة ننام على إطمئنان مطلق، ثم بضربة واحدة يطلقون سرباً من القذائف ذات الأعيرة المختلفة.
أصوات الانفجارات كانت تقترب وتشعرنا بإقتراب الخطر. كان واضحاً أن مدينتنا التي أعيد تحريرها أصبحت هدفا عسكرياً. في شقتنا لم نجد زاوية واحدة توحي بالأمان: سقفها وجدرانها كان يمكن ان تخترقهما أتفه القذائف. التفجيرات تكثّفت. في اليوم الثاني، نزلنا الى قبو بيت قديم قريب من عمارتنا، ووجدنا فيه عدداً كبيراً من أهالي حينا. أو على الأقل الجيران الذين عادوا الى الزبداني، لأنهم لم يجدوا مكاناً آخر يلجأون إليه. كرهت هذا القبو. كرهت هذا التجاور الذي كنا مرغمين عليه، كرهت بكاء الأطفال وشهيق الكبار. كان الجو فيه خانقاً والصخب دائم. كنا مرصوصين مثل الجراذين، أكثرنا جرأة كان ينتظر أية هدنة ليخرج من هذا القبو، بعضهم يركض الى داره ويعود محمولا بالمؤن وقناني المياه (…).”
المستقبل