مقالات لكتاب سوريين تناولت “داعش”
في التطرف وأسبابه/ عدي الزعبي
مع انتشار وتوسع القاعدة وتنظيمات إسلامية أخرى سلفية ومجاهدة في المناطق المحررة، تنتشر بين السوريين أساطير وخرافات حول أسباب هذا التوسع. هذه الأساطير لا تسمح لنا بقراءة المشهد السوري بعقلانية. تنطلق هذه الأساطير من أن للطوائف جوهراً ثابتاً لا يتغير. فيما تخضع إلى تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة، يبقى جوهر الطائفة ثابتاً على الدوام. ما يلي محاولة لتسليط الضوء على مقاربتين في شأن انتشار التطرف بين السنة السوريين. أطروحتي أن كلا القراءتين، المتناقضتين شكلياً، تتفقان في المنهج. كلا القراءتين تحيلان إلى جوهر ثابت للسنّة السوريين.
القراءة الأولى في محاولة تفسير انتشار التطرف السني في سورية هي أن الفاشية والإرهاب خارجيان وغريبان عن السنة السوريين، جلبهما الجهاديون الأجانب أو استدعاهما النظام السوري. القراءة الثانية أن الفاشية والإرهاب داخليان، كامنان في جوهر السنة السوريين. نرى على العكس، أن السوريين السنة والعلويين، كبقية البشر، عرضة لأشكال مختلفة من الفاشية الدينية والقومية، وأنّ انتشار الفاشية يعود لأسباب متعددة، ليس بينها جوهر ثابت طائفي.
خارجية التطرف السني
القراءة الأولى في محاولة تفسير انتشار التطرف السني في سورية هي أن الفاشية والإرهاب خارجيان وغريبان عن السنة السوريين، جلبهما الجهاديون الأجانب أو استدعاهما النظام السوري. الإرهاب ليس صفة للسوريين ولا يمكن أن يكونوا مسؤولين عنه. ينتشر هذا الرأي بين المؤيدين للثورة اللذين يرون أنّ الإسلام السوري السنّي وسطي، وأنّ القاعدة، والسلفية الجهادية، تنظيمات خارجية دخيلة على المجتمع السوري. سوف أدعو هذا بخارجية التطرف السني. تبعاً لهذا الرأي، يبدو أن القاعدة لم تدخل سوريا إلا بسبب قدوم الجهاديين الأجانب. يضيف البعض أن النظام السوري مسؤول عن انتشار القاعدة في الشمال؛ ويشيرون إلى صلات قديمة للنظام بالقاعدة في العراق، وإلى تنظيمات قريبة من القاعدة كفتح الإسلام. يرى القائلون بخارجية الإرهاب أن المجتمع السوري بتكوينه غير متقبّل للحركات الإرهابية والسلفية الجهادية.
القول بوجود دور للنظام الأسدي و للجهاديين الأجانب صحيح، ولكن لا يجوز أن يكونا العاملين الوحيدين في تفسير انتشار التطرف. الدور الذي يلعبه النظام والجهاديون الأجانب في نشر التطرف السني في المناطق المحررة، وهو دور غير واضح المعالم ويخضع لاعتبارات مختلفة ومتعددة، يجد بيئة مناسبة في المجتمع السني السوري. لا يجوز التعمية على انتشار التطرف بين السنة السوريين بلوم النظام والأجانب. تقوم القراءة الجوهرية بإرجاع التطرف إلى جملة ظروف خارجية، وتتغاضى عن قابلية المجتمع السني للتطرف. هذه قراءة تمنعنا من المساهمة في مواجهة القاعدة وأسباب انتشارها المتعددة. نرى أن القراءة الجوهرية تُغفل قابلية السنة السوريين أنفسهم للتحول إلى فاشية متطرفة.
داخلية التطرف السني
الرأي الثاني هو أنّ الفاشية داخلية، موجودة في جوهر السنة. التحوّل إلى التنظيمات الإرهابية السنية قدر لا مفر منه؛ ما إن يتحرّك جموع السنة حتى يتحولوا إلى تنظيمات متطرفة. هذه هي البروباغندا الرسمية للنظام السوري. منذ اليوم الأول للحراك في درعا، اتهم نظام الأسد السوريين بالتطرف الإسلامي. نعتقد هنا أن هيئة التنسيق وبعض اليساريين والعلمانيين على اختلاف توجهاتهم، من أصدقاء النظام إلى التيار الثالث، يتبنّون رؤية جوهرانية للسنة. حين يرى قادة الهيئة على سبيل المثال أنّ التسليح سيقود حتماً إلى انتشار التطرّف، وحين يؤكدون اليوم أنّ ما حذّروا منه في بدايات الثورة قد أثبتت الأيام صحته، يبدو لنا أن التأويل الوحيد لمثل هذا الرأي هو أنّ جوهر الحراك السنّي المسلّح عنفي: ما إن يحمل سنة سوريا السلاح حتى يتحولوا إلى التطرف. لا حلول أخرى. علينا أن نسجّل للهيئة وبعض اليسار أنهم يختلفون عن النظام السوري فيما يلي: بالنسبة للنظام، كل حراك سني سيقود إلى التطرف؛ بالنسبة للهيئة، كل تسليح سينتهي إلى التطرف. لو حافظ المتظاهرون على سلميتهم لما وصلنا إلى الحرب الأهلية. لا يشرح لنا منظّرو الهيئة، لماذا ستتجه الثورة المسلّحة حُكماً إلى التطرّف؟ ولماذا تعتقد الهيئة أنّ كل الاحتمالات الأخرى في تطور الثورة المسلّحة غير واقعية؟ لماذا ترى الهيئة أن التحول إلى التطرف السني قدر مفروض على السنة السوريين؟ يبدو لنا أن الجواب هو أن الهيئة تشارك النظام السوري في رؤية جوهرانية للحراك السنّي. يوجد عنف أصيل داخلي سني سيتجلى ما إن يتوفر السلاح للسنة. نعتقد، بعكس الهيئة وأحكامها القدرية، أنّ هناك احتمالات مختلفة لتطور الحراك السوري المسلّح، وأنّ أحدها هو بروز التطرف السني، الذي بدأ بالانتشار التدريجي نتيجةً لعوامل متعددة ومعقّدة.
التطرف وأسبابه: في خطل القراءات الجوهرية
يشترك القائلون بخارجية التطرف وبداخليته في رؤية جوهرية للسنة السوريين، تعرّف السنة بصفات ثابتة فيهم، وتنحو إلى تفسير الظواهر الاجتماعية، كانتشار التطرف، بهذه الصفات. بالرغم من الاختلاف الظاهر بين القراءتين، إلا أنهما تتبعان المنهج نفسه، وهو منهج عنصري أسطوري علينا تجاوزه إن أردنا فهم أسباب انتشار التطرف في المناطق المحررة، تمهيداً لمواجهة هذا التطرف.
علينا أن نسجّل هنا أنّ هناك قراءة جوهرية للعلويين، تحديداً عند متطرفي السنة. هكذا يبدو أنّ العلويين في جوهرهم وبطبيعتهم عنفيون فاشيون، يبرّرون استخدام الكيماوي ويتغاضون عن سقوط السكود على رؤوس المدنيين السنة. بالطبع، للعلويين أيضاً رؤيتهم الأسطورية للسنة اللذين يريدون إذلالهم واستعبادهم، هذا هو محرك الثورة وفق هذه القراءة.
نرى من جهتنا أنّ كل القراءات الجوهرية خاطئة. لا يوجد شعب أو فئة اجتماعية أو دينية تمتنع على الإرهاب والفاشية. والسوريون ليسوا استثناءً. لم يكن الألمان في الجوهر نازيين، ولا اليهود في الجوهر صهاينة، ولا العراقيون السنة أو الأفغان أو في الجوهر متطرفين يتبعون القاعدة. في الحالة السورية، لدينا إرهاب مزدوج، علوي/ شيعي وسنّي، على ضفتي القتال. ولكن لا يوجد صفات جوهرية للطوائف ينبع منها التطرف والإرهاب. ليس العلويون في الجوهر متوحّشين يتبعون آل الأسد، وليس السنّة في الجوهر إرهابيين يتبعون القاعدة. نحن بحاجة إلى تفسير عقلاني لأسباب انتشار التطرف السني والعلوي/الشيعي في سوريا، إلى تفسير لا يقبل بجواهر خالدة أبدية للطوائف.
نقدّم، بدلاً من أساطير الجوهر، التفسير التالي لانتشار الفاشية بين العلويين و السنة في سوريا:
تتركب الهوية في سوريا على طبقات مختلفة، دينية واجتماعية وطبقية ومناطقية. تتحول إحدى الجماعات إلى فاشية صريحة لأسباب متعددة ومتنوعة، منها الخوف من عمليات إبادة جماعية، كما نجد عند العلويين السوريين؛ أو بسبب عمليات قتل تطال المدنيين على أساس طائفي-طبقي بلا تمييز، كما يحصل مع فقراء السنة السوريين. المسؤول الأول عن انتشار الفاشية بين السوريين هو النظام الفاشي السوري، ذلك الذي اختطف الطائفة العلوية، وشيطن فقراء السنة: أيّ خروج على الأسد يعني التحول إلى إرهاب القاعدة حُكماً في عرف النظام، وفي عرف من يشابهه في الهيئة وبعض اليسار. من مصلحة النظام السوري انتشار الفاشية بين العلويين كي يبرر المقتلة المفتوحة ضد السنة، ومن مصلحته انتشار التطرف في المناطق المحررة كي يبرر قصفها اليومي بحجة مواجهة الإرهاب. مسؤولية النظام السوري في انتشار القاعدة لا تكمن في تغاضيه عن دخول القاعدة، أو إطلاق سراح القادة الإسلاميين، أو بصلاته مع تنظيمات القاعدة في العراق ولبنان، بل في تهيئة الظروف التي ستنمو فيها القاعدة في المناطق المحررة ذات الأغلبية السنية. ينتشر التطرف في بيئة تعاني من تهميش وقصف وحشي يومي. من هنا فإن تنظيمات التطرف السني ستصبح، بل ربما أصبحت، مقبولة في المناطق المحررة. بالمقابل، نجد أن معظم العلويين، والأقليات، يقبلون بالنظام الفاشي، وببراميل الموت التي تنصب على إخوتهم السنة، فقط خوفاً من التطرف السني.
أسباب انتشار الفاشية في سوريا إذن تتمثل في نظام قمعي فاشي يستثمر في قابلية العلويين والسنة للتطرف والفاشية. يتبعها العوامل الخارجية، من تدخلات إيرانية وعراقية ولبنانية ذات طابع شيعي صريح، وتدخلات شيشانية وسعودية وتونسية وغير ذلك ذات الطابع السني الصريح، والتي تجد بيئة خصبة مهيّأة سلفاً وقابلة لانتشار التطرف. هذه القابلية هي التفسير لانتشار الفاشية، وليس الصفات الجوهرية المزعومة. لا يوجد صفات جوهرية عند السنة والعلويين تجعلهم متطرفين أو معتدلين. كل ما في الأمر أن جملة الظروف التي يعيشونها تدفعهم إلى الفاشية والتطرف. لوقف تدهور سوريا في هذا الدرك، علينا تغيير هذه الظروف. لا بديل عن إسقاط النظام لوقف انتشار التطرف؛ سيؤدي ذلك إلى نزع الخوف العلوي المقيم من عمليات إبادة جماعية، وإيقاف المقتلة المفتوحة بحق الفقراء السنة. هذا بداية الحل. أما وقف انتشار التطرف، فيتطلب عقوداً من إعادة بناء الثقة.
تتيح هذه القراءة العقلانية أيضاً طرح بعض الاقتراحات لوقف انتشار التطرف في المناطق المحررة. فشلت المعارضة السورية في التواصل مع السوريين اللذين يعيشون تحت القصف، وتركت البلد لشيوخ الجهاديين. ما زال الائتلاف متردداً في إدانة «داعش» وممارساتها، وما زال تحرك مشايخ السنة المعتدلين في المعارضة إزاء انتشار التطرف والجهاديين الأجانب خجولاً ومحدوداً. بناء جسور جديدة مع المجتمع السني التقليدي في المناطق المحررة، ومحاولة إحياء تقاليد المجتمع المدني، تتطلب عملاً مؤسساتياً متكاملاً، وقد يكون أحد السبل لوقف انتشار التطرف.
تخطئ القراءة الجوهرية في فهم طبيعة البشر. طبيعة الكائن البشري أكثر تعقيداً من اختزالها إلى مجموعة صفات ثابتة. السوريون، العلويون والسنة، بشر كغيرهم. في لحظات مفصلية في التاريخ، تتبنى جماعات بشرية مختلفة أيديولوجيات فاشية متطرفة، وتسعى إلى تبرير هذه الفاشية عن طريق موروث مختلط ومعقّد يحمل الاعتدال كما يحمل التطرف. تحطيم الأساطير التي تعرّف الطوائف بجواهر ثابتة هي الخطوة الأولى على طريق طويل قد يمتد لعشرات السنين. السنة والعلويون في سوريا، كغيرهم من البشر، يستحقون أكثر بكثير من الفاشية التي تأكل أبناءهم يومياً بتسارع مفزع. العقلانية هي السبيل الوحيد لمواجهة أساطير الفاشية. العقلانية، والإيمان بأنه في نهاية النفق المُظلم ستتفتّح طبيعة الكائن البشري في ظروف مختلفة، سيجعلان التسامح ينمو ليصبح طبيعة ثابتة. لا يجوز أن نكفر بالعقلانية، وبالتسامح. ملايين السوريين يواجهون براميل الموت يومياً حالمين بغد أفضل. لهم علينا أن نُبقي هذا الإيمان حياً
موقع الجمهورية
في الحرب على داعش/ عمر قدور
تزامناً مع التظاهرات المندّدة بها، انطلقت يوم الجمعة الماضي الحرب على “داعش”. عنصر المباغتة كان سمة الهجمات التي قامت بها كتائب عديدة على مقرّات الدولة الإسلامية في العراق والشام، فتهاوت بسرعة تلك المقرّات الغامضة التي روّعت المدنيين والناشطين السياسيين والإعلاميين على حدّ سواء. لم تظهر داعش بالقوة المتخيّلة عنها، هذا لا يعني هزيمتها النهائية بسهولة، فالتنظيم قد يلملم قواه في الأيام المقبلة ويخوض معارك أشرس مما مضى، وهو أيضاً استهلّ تحضيراته بتفخيخ السيارات والتهديد بها، مثلما كان واضحاً في البيان المنسوب إليه، والذي يهدّد فيه بالمصير الذي سيلقاه خصومه من قوات النظام إن تم إقصاؤه عن “ولاية حلب”!
تأخرت المعركة على داعش ما أتاح لها الوقت لتفرض سطوتها في العديد من المناطق، وساهم التأخر في تمكينها وصنع هالة حول مقدراتها، بالتزامن مع الدعاية الخارجية ودعاية النظام اللتين اتفقتا على اختصار مآل الثورة بهذا التنظيم الإرهابي المتطرف وأمثاله. خسارة داعش في معارك يومي الجمعة والسبت 3 و4 كانون الثاني لا تدلّل على هشاشة الصورة المتخيلة عنها فحسب، لكنها أيضاً تشرح واقع التنظيم الذي يصعب تجذّره في غالبية المناطق السورية، وتشرح أيضاً قدرة المقاتلين المحليين على الانقضاض على المقاتلين الأجانب وهم عماده.
أصحاب الأرض عادوا إلى استلام زمام المبادرة في مناطقهم وطردوا الغرباء منها مدعومين بإرادة شعبية عامة فقط، بعد أن غابت الوعود الدولية الهزيلة التي تربط مساعدتهم بمحاربة الإرهاب، وهذه المرة فتحوا المعركة بسبب حاجتهم إليها لا إرضاء لجهات خارجية. ذلك سيشكّل إحراجاً وخسارة للنظام أولاً الذي يسوّق نفسه كجهة وحيدة قادرة على مواجهة الإرهاب، بصرف النظر عن أنه لم يستهدف مطلقاً مقرّات داعش في غاراته التي لا تخطئ المدنيين. النظام الذي صنع واستدرج التطرّف والإرهاب، الشيعي والسني على حد سواء، تلقّى في سقوط مقرّات داعش أقوى ضربة على أبواب “جنيف2″، هو الذي يتوخّى من المؤتمر تفويضاً دولياً جديداً بذريعة تحوّل سوريا إلى بؤرة للإرهاب العالمي.
حلفاء النظام، والإدارة الأميركية أيضاً، ليسوا بحال أفضل بعد إتمام ترتيبات “جنيف2” بحيث تحتل مسألة مكافحة الإرهاب الأولوية فيه، فما هو معدّ لإحراج المعارضة سيفقد وجاهته وقيمته إن تمكنّت الأخيرة من تحقيق نصر كبير على داعش بقواها الذاتية. من جهة الإدارة الأميركية تحديداً سيكون هذا النصر إعلاناً مدوّياً لفشلها. فهي بعد قطع معوناتها “غير الفتاكة” عن الجيش الحرّ لا تستطيع أن تنسب لنفسها أي فضل فيه، وتالياً لا تستطيع استثماره بمزيد من الضغط على المعارضة لإجبارها على قبول التسوية التي ترتئيها للملف السوري.
ثمة خاسرون أيضاً ضمن جهات محسوبة على المعارضة، أولئك الذين استغلّوا طغيان داعش للقول بأن تسليح المعارضة لن يأتي سوى بالتطرّف، وهؤلاء بدأوا فور ورود أنباء المعارك بالتقليل من شأنها ودلالاتها، وراحوا يتّهمون الجميع بإسلاميتهم بصرف النظر عن مدى التطرّف أو الاعتدال، وبصرف النظر عن السلوك العملي لمختلف الكتائب تجاه السكان وحرياتهم العامة. هؤلاء كانت داعش مثالهم المفضّل عن العسكرة، ولما أُنذِروا بهزيمتها تبيّن أنها لم تكن غير ذريعة لهم، وكانت أيضاً داعش مثالهم المفضّل للنيل من الإسلام ككلّ. اليوم لا يجدون مفراً من إشهار معاداتهم لكل ما هو إسلامي، أي ممارسة النهج الإقصائي الذي يلغي الاختلاف ضمن الثورة ويلغي الخصومات الفكرية فيها. يقابلهم بلا شك أولئك الذين وقفوا ضد المعركة على داعش بحجة أنها تُضعف الكتائب المقاتلة ككلّ، وأيضاً بحجة طائفية لا تخفى عندما يصفونها بالمعركة ضمن البيت الواحد، ويقصدون به البيت السني.
مقاتلة داعش من قبل العديد من الكتائب والألوية لا يمنح الأخيرة صكّاً على بياض، ولا يجعلها فوق النقد، بل قد يكون بعضها بين منتصري اليوم وخاسري الغد، لأن الحرب على داعش تُنذر بعدم قبول السوريين باستبداد جديد على أنقاض النظام، وتنذر الكتائب الإسلامية منها بالمصير ذاته بعد حين، إن هي حاولت وراثة السلوك الذي كان للأولى. جبهة النصرة وهيئاتها الشرعية قد تكون الهدف اللاحق، وهذا ربما يبرّر عدم انخراط الجبهة رسمياً في الحرب على رغم مقتل عدد من عناصرها فيها. لكن الإنذار لا يستثني أيضاً الجبهة الإسلامية عموماً إذا حاولت فرض نمط إسلامي محدّد على السكان الذين يمارسون تديّنهم بطرقهم الشعبية الخاصة، وبخاصة إذا حاولت التضييق على حرياتهم التي انتزعوها بدمائهم من فم الأسد.
في استعراض الخاسرين من الحرب على داعش لا نحتاج إلى ذكر الطرف الرابح، ولا يصعب تخمينه. هو الطرف الذي حاول النظام وحلفاؤه سحقه، وتخلّى عنه من زعموا صداقته، وشكّك في أهليته حتى بعض ممن يزعمون تمثيله.
المدن
براهين غليون/ ربيع بركات
«نحن نؤكد سلمية الثورة. وهذا هو جوهر قوتها وشرط انتصارها والإبقاء على طابعها الشعبي العميق. إذا تعسكرت، تحول الصراع بين ميليشيات النظام وميليشيات الأهالي. وهذا هو الفخ الذي سعى النظام إلى الدفع إليه منذ البداية». (برهان غليون: الأخبار، 17/10/2011).
«نحن ضد أن نفكك (الجيش) هذه المؤسسة الوطنية المهمة الحامي الرئيسي للدولة السورية اليوم. لا نريد أن ندخل في حرب أهلية. لا نريد أن ندخل في صراع أهلي وصراع عنيف داخل سوريا. نريد أن نحرر سوريا بالاحتفاظ بوحدة الشعب السوري وبوحدة الأراضي السورية ومنع أي انزلاقات لا يمكن ترميمها فيما بعد». (برهان غليون: الجزيرة، 8/10/2011)
بالإمكان تقديم تفسير للتحول الذي طرأ على مواقف الدكتور برهان غليون حيال الأحداث في سوريا. فلجوء النظام إلى أقسى درجات الحل الأمني فرض، على الأرجح، مراجعة في مقاربة المسألة السورية من قبل معارضي الخارج. فقد حصلت انزياحات في مزاج قوى الحراك الداخلي كرد فعل على عنف السلطة. سمّاها رئيس المجلس الوطني السابق «انزلاقات» في سياق تحذيره منها. وجاء تعبير «الفخ» على لسانه ليفيد المعنى ذاته أيضاً، وهو أن التحول إلى العسكرة غير مرغوب ولا يفيد مقاصد التغيير المطلوب. لكن الأمر حصل. وتحولت الثورة، وفق استشراف غليون وتعبيره، إلى «صراع أهلي» وضع «ميليشيات النظام» في مواجهة «ميليشات الأهالي». وحصل «الانزلاق» الذي «لا يمكن ترميمه». يمكن لمعارضة الخارج القول إن القضية كانت شراً لا بد منه وإن المسؤول عن بروزها ونموها هو النظام. لكن القول هذا برهان على عدم دقة حساباتها ورهاناتها التي عاندت في التمسك بها برغم قراءات معارضين في الداخل تفيد بخلافها.
لاحقاً، ظهرت في سياق العسكرة جماعات إسلامية، وهو أمر طبيعي في مجتمع محافظ يدين أغلبه بالإسلام، وفي ظل صعود عام للتيار الإسلامي في المحيط. لكن الأمر تحول إلى نتوء ظواهر متطرفة يفترض، من حيث المبدأ، أن تدفع إلى إعادة تقييم وحسابات، سواء لناحية المسار العام أو التكتيكات المعتمدة. شكلت «جبهة النصرة» عنوان التحول الأبرز في هذا السياق، وسارت على منوال شبيه من حيث الخطاب والأسلوب جماعات جهادية أخرى. «أحرار الشام» كانت من أبرزها. أدبيات كل منهما أظهرت نزوعاً نحو التفرد والعنف. لم يكن غليون الوحيد الذي راهن على تعديل خطاب هذه الأجسام، بل واكبه آخرون في رهانات مماثلة. خلفُه جورج صبرا ورئيس الائتلاف الأسبق معاذ الخطيب زادا على هذا التقدير مديحاً بـ«النصرة»، برغم أن الأخير حذر من تنامي ظاهرة «الجهاديين» الأجانب غير مرة وقدم نقداً جريئاً في هذا المجال. ظل الأمر على هذا النحو إلى أن أعلنت «النصرة» ولاءها «للقاعدة» وانشطرت إلى قسمين أحدهما تابع لقيادة «الدولة الإسلامية في العراق»، وظهرت مع ذلك مخاطر «الجهاديين» الأجانب التي أغفلها غليون ومعظم رفاقه. بوسع هؤلاء المحاججة بأن ديناميات الصراع الدموي وانفتاح الحدود السورية على إقليم مضطرب أثمرا هذه النتيجة. فالظروف، في نهاية المطاف، تسهم في تشكيل اللاعبين. لكن هذا، إن صح، برهان على إغفال هذه الظروف برغم كثرة المحذرين (ومنهم معارضون من الداخل).
بعد ذلك بأشهر قليلة، برز تنظيم «داعش» الوليد كقوة ميزت نفسها لناحية الأسلوب والأهداف عن سائر التنظيمات. لم يمنع الأمر تعاوناً، ولو على حذر، بينه وبين سائر القوى. شاركت وحدات «الانغماسيين» (أي الانتحاريين) في «داعش» في معارك أساسية للمعارضة ضد القوات النظامية. بُرر التعاون على أنه نتاج ظروف الميدان، وفسر على أن كل هذه القوى تقاتل النظام نفسه. وبرغم تحذير معارضين سياسيين في الداخل ومتابعين في الخارج من تغول التنظيم المتطرف، إلا أن أياً من ذلك لم يلق آذاناً صاغية. بل ظهر ميل للتهجم على المحذرين بذريعة «تساوقهم» مع رواية النظام حيال «القاعدة» ومشتقاتها. غير أن «داعش» أثقل مناطق المعارضة بتجاوزاته بعدما غض «حلفاء الضرورة» من جماعات المعارضة المسلحة الطرف عن تجاوزات مماثلة له في مناطق مخالفة. ثم تحول التعاون الحذر إلى حرب مفتوحة بين «التنظيم» وكل معاديه ومنافسيه، ومنهم «جهاديون» محليون يمتازون عنه بوجهة الارتباط الخارجي وحدود «الدولة» و«الجهاد» أكثر مما يفترقون عنه في طبيعة الفكر والممارسة. وطفى على السطح دور «جبهة النصرة» كطرف قادر على «إعادة تدوير» عناصر «داعش» بعد القضاء على القيادة المركزية للتنظيم، وبعدما جرى تعويم «الجبهة» على الأرض وتلميعها في الإعلام على مدار أشهر. وفي حين ظهر زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني في مقابلة تلفزيونية هي الأولى من نوعها في سياق «إعادة تأهيلها»، توالت مدائح برز منها قول الدكتور غليون إن «النصرة صنعت لنفسها إسماً كبيراً في دائرة الثوار السوريين بسبب اعتدالها النسبي وبُعدها عن التكفير واستعداء المخالفين في الرأي والقول».
لم يُظهر رئيس المجلس الوطني السابق برهاناً على قوله ذاك. يمكن الدفاع عن إعادة تقييمه (مجدداً) بالقول إنها ثمرة «مواكبة التطورات» وما تفرضه من تعديل في زاوية الرؤية. لكن ذاك يؤكد أن الموقف المتبدل، تماماً كما سلفه من «تعديلات» في المواقف، خاضع لحسابات السياسة والربح والخسارة، سواء في الميدان أو قبل المفاوضات على نتائج هذا الميدان. أما الأكيد، فأن لا علاقة له بشعارات الحراك الأولى.
ثمة ما يكفي من البراهين على فشل الحل الأمني للنظام وبطشه. لكن آن أوان عرض البراهين على فشل رهانات معارضة الخارج، أقله قياساً بتصوراتها واستشرافها للأمور.
والبراهين هذه، وهي التي يطول عرضها، تتجاوز رجلاً دمثاً احترف الحياة الأكاديمية ونفذ منها إلى السياسة. إنها دليل على عقلية متهافتة، زادتها تعارضات الخارج تبعثراً، ويرجح أن تصطدم بمطبات جديدة قريباً. وما على المتابع إلا تأمل انقلاب الظروف والرهانات على قوى ميدانية متشددة في مقبل الأيام حتى يدرك ذلك… أو يتأكد.
السفير
المعركة مع داعش و«التيار الثالث» الإسلامي/ صادق عبد الرحمن
على الرغم من وحشية النظام السوري وانفلاته من أي ضوابط سياسية أو وطنية أو أخلاقية، فقد ظهر بين السوريين فئة من المثقفين والسياسيين والمتعلمين المعارضين أطلقت على نفسها تسمية «التيار الثالث»، ورفضت وصف ما يجري بأنه ثورة منذ البداية، والتقت مع النظام على الرغم من معارضتها له في وصف ما يجري بـ«الأزمة». وربما يكون تحليل موقف هؤلاء وانتقاده معاداً ومكرراً حتى الملل، لكنه يبدو واجباً اليوم لأن لهذا «التيار الثالث» نظيراً مطابقاً في صفوف الثوار أنفسهم؛ إنهم أولئك الذين يصفون المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بـ«الفتنة»، ويرون فيها حليفاً ضالاً يجب إعادته إلى رشده بدل قتاله وهزيمته.
التيار الثالث «الوطني السوري» يبني موقفه على ثلاثة حوامل رئيسة، والثلاثة تحتل موقعاً مركزياً في السردية الوطنية السورية بنموذجها الذي هيمن على الحياة السياسية السورية لنصف قرن: أولها (1) تمثيل النظام لشرائح مهمة من السوريين، مما يجعل الصدام معه خطيراً على مستقبل «الدولة الوطنية السورية»، خاصة في ظل وجود طائفيين وإسلاميين في صفوف مناوئي الأسد؛ وثانيها (2) يتمثل في نظرة «وطنية إنسانوية» تنتهي إلى أنه لا يحق السوريين -وهم أبناء شعب واحد- بحمل السلاح ضد بعضهم البعض، لأن قتلى النظام سوريون ولا يجوز سفك دمائهم، بمن فيهم أولئك الذين يرتكبون الفظائع، فهؤلاء يجب أن يساقوا إلى محاكم وطنية مستقلة بعد التغيير السلمي الديمقراطي؛ وأما حاملها الثالث (3) فيتمثل في مقولة الصراع مع الصهيونة والغرب الامبريالي الذي يتآمر علينا ويغذي صراعاتنا لنضعف في مواجهته، ويوجب التيار الثالث على السوريين، بناءً على ذلك، التصالح ورصّ الصفوف وعدم التفرق، كي لا يتسرب المشروع «الصهيوأمريكي» إلى بلادنا. هكذا ينتهي هؤلاء إلى ترميم شرعية النظام والحرص على عدم القطيعة الجذرية معه حفاظاً على «الوطنية السورية» بنسختها البائسة، التي تحولت إلى عبء على سكان هذه البلاد بدل أن تكون حاملاً للنماء والتقدم والاستقرار.
وعلى الرغم من أن للمعركة مع تنظيم القاعدة أبعاداً دولية لا تخطئها عين، كما هي المعركة مع النظام السوري في واقع الحال؛ وعلى الرغم من استخدام اللاعبين الدوليين والمحليين جميعاً لتلك المعركة بوضوح، بمن فيهم النظام السوري، لتحقيق أهداف لا صلة لها بمصالح سكان المناطق التي تشهد المعارك مع التنظيم، إلا أن لهذه المعركة حوامل محلية تبدو مطابقة إلى حد بعيد لحوامل الثورة على نظام الأسد، وتتعلق بالتوق للحياة والحرية والكرامة لدى الثائرين على «داعش» وحاضنتهم الشعبية. غير أن هناك تياراً ثالثاً «إسلامياً» يُطلّ برأسه مرمّماً شرعية «داعش»، على النحو نفسه الذي ينتهجه التيار الثالث «الوطني السوري»، وعلى حوامل مشابهة إلى حد بعيد.
تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام»، الذي لا يعترف بالكيان الوطني السوري ولا بأي كيان وطني آخر، ويكفّر كل مخالف له، ويقتل الناس تحت التعذيب، ويخطف الإعلاميين والأطباء ويقتلهم، بل ولا يتردد في تصفية واعتقال بعض عناصر التنظيمات المشابهة له في الأيديولوجيا (كـ«حركة أحرار الشام» السلفية)، هذا التنظيم بالنسبة للتيار الثالث الإسلامي مجرد حليف مخطئ، والمعركة معه فتنة يجب وأدها.
الحجج والذرائع نفسها. فـ«داعش» (1) تمثل جزءاً من المسلمين الثائرين على الأسد، ومن ثم فإن الصراع معها يهدد «وحدة الصف» الإسلامية، وخاصة في ظل وجود «علمانيين وملحدين وكفار» في صفوف مناوئي «داعش». وأما عناصر التنظيم فهم (2) من المسلمين الذين «لا يجوز سفك دمائهم»، ومن ثم فإن قتالهم أمر مرفوض أو مكروه، وإنما يجب تحكيم شرع الله فيهم أمام «محاكم» شرعية، ويجب التفاوض معهم وعقد الهدنة كلما أمكن ذلك تجنباً لسفك الدماء. وفوق كل هذا (3) فإن المعركة معهم «مطلوبة أمريكياً واسرائيلياً وغربياً»، وحتى من قبل النظام السوري الذي قد يستفيد من المعركة، إذ يجعلون من المعركة التي تجري في الوقت نفسه في العراق دليلاً على تواطؤ محتمل لبعض أعداء «داعش» المحليين مع المالكي في العراق وإيران والولايات المتحدة الأمريكية والنظام السوري.
هكذا، وكما تم التبرير الضمني من قبل التيار الثالث «الوطني السوري» لجرائم قمع المتظاهرين وقتلهم، وللاعتقالات التعسفية والتصفية تحت التعذيب، يتم التبرير الضمني للجرائم نفسها من قبل التيار الثالث «الإسلامي»، ويصبح قتل الطبيب الشهيد حسين سليمان (أبو ريان) تحت التعذيب خطأ فردياً، أو ربما حدثاً مفبركاً أو مؤامراتياً يمكن التغاضي عنه بصورة من الصور لصالح المعارك الكبرى والشعارات الكبرى، كما كان قتل الطفل الشهيد حمزة الخطيب خطأ فردياً، أو ربما حدثاً مفبركاً أو مؤامراتياً يمكن التغاضي عنه بصورة من الصور لصالح المعارك الكبرى والشعارات الكبرى.
لا يبدو أن هناك نهاية لبؤس «الأيدولوجيا» وانعدام الاتساق الذي تخلفه، وكما لا يرى بعض «الأيدولوجيين» مشكلةً في أن تبنى الدولة السورية على جماجم الناس ورُفات توقهم للحياة، لا يرى أيدولوجيون آخرون مشكلة في أن تبنى الدولة الاسلامية أيضاً على جماجم الناس ورفات توقهم للحياة. على أن مما لك شك فيه أن المعركة مع «داعش» ليست فتنة من وجهة نظر ما، إلا بقدر ما تكون المعركة مع النظام فتنة أيضاً من وجهة نظر أخرى، وليس تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، وهو النموذج الأكثر وحشية للفاشية الدينية، قابلاً للإصلاح أصلاً، إلا بقدر ما أن نظام الأسد، وهو النموذج الأكثر وحشية للفاشية العسكرية، قابلاً للإصلاح.
موقع الجمهورية
سوريا بين الثورة والإرهاب/ د. رياض نعسان أغا
سياسة خلط الأوراق فن عريق برع فيه الصهاينة أكثر من سواهم، وليس أقل منهم براعة السياسيون المحترفون في النظام السوري الأمني الذي تمرس بهذا الفن خلال عقود أهمها فترة تدخله في لبنان حيث الساحة السياسية على صغر حجمها تشبه المسرح التجريبي.
وخلط الأوراق نوع من فن التعمية الذي برع فيه الفرس كذلك، وأعتقد أن ما نشهده الآن في السياسة الدولية هو عرض مبهر لخلط الأوراق وتزييف الحقائق وإرباك اللاعبين الهواة.
مشهد يصل إلى إحدى ذرواته في قضية الملف الكيماوي السوري وتداعياته التي فاجأت العالم، وكانت التعمية هي غياب إسرائيل عما يحدث كأن الأمر لا يعنيها مع أنها المستفيد الوحيد على صعيد استراتيجي، وقد بدا مثيراً أن تعلن ضيقها من التقارب الأميركي الإيراني المفاجئ، وبعض المحللين اعتبر أن إسرائيل اضطرت أن تلجأ إلى فرنسا قلقة من التصرف الأميركي، وتناسى المحللون أن سياسة الولايات المتحدة ترسم حسب المصالح الإسرائيلية تحديداً، ومن يتجاوز هذه المصالح تلاحقه الفضائح. ومن يتابع مسلسل التعمية الأميركي الذي شغل العالم بعد جريمة الغوطة الكيماوية في أغسطس الماضي 2013، سيجد عرضاً مسرحياً مدهشاً حقاً على صعيد دولي، فقد دقت أجراس الحرب ضد سوريا وتم تحديد موعد انطلاق الطائرات والصواريخ، وعاشت بريطانيا وفرنسا حالة الحرب، وعقد كيري سيلاً من المؤتمرات الصحفية وتحدث أوباما مرات بلهجة صارمة، وقد خشيت أن تكون الضربة جادة وكانت المفاجأة التي أدهشت العالم ظهور الاتفاق الذي كان مستتراً بين روسيا وأميركا والانسجام السري بين أميركا وإيران، والتوافق على أن تسلم سوريا أسلحتها. ومرة أخرى نحمد الله على أن الضربة الأميركية لم تحدث، وفي ذات الوقت نشكو إلى الله أن سيلاً من الضربات التي لا تقل خطورة عن الكيماوي تصاعدت بقوة مريعة ضد المدن والقرى السورية مع حصار الجوع والخوف وقطع سبل الحياة، ولكن المجتمع الدولي بدا موافقاً على استخدام البراميل التي توزع الموت بشكل عشوائي فهي غير محرمة دولياً!
كان خلط الأوراق في قضية الكيماوي مثيراً حتى إنه ضيع بوصلة كثير من المحللين السياسيين، فنسوا أن عقاب من يرتكب جريمة لا ينتهي بمصادرة السلاح، وقد فوجئ العالم بتزامن ما حدث مع نجاح مفاوضات جنيف بشأن النووي الإيراني على رغم كونه ما يزال غامضاً، ويبدو الفصل الآخر الأكثر خطورة في خلط الأوراق هو التعمية الكاملة على الثورة السورية في وسائل الإعلام العالمية، والتركيز على المنظمات الإرهابية التي غصت بها الساحة السورية، حتى باتت القضية السورية قضية نظام يحارب الإرهاب، وهذا ما تم الترويج له وقد نجحت حملة خلط الأوراق وبدا المجتمع الدولي مؤيداً لحملة ضد الإرهاب متجاهلاً مصدره الحقيقي. ووصل الأمر إلى أن تطلب بعض الجهات الدولية المعنية أن يتحد الجيش الحر مع الجيش النظامي مع قوى المعارضة بقيادة النظام لمحاربة المنظمات التكفيرية الإرهابية. وأما الثورة السورية من أجل الحرية والكرامة وبناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية فقد صارت ذكرى رومانسية من الماضي، على رغم أن دماء نصف مليون شهيد وقتيل لم تجف، ورغم أن آلاف المعتقلين ما يزالون يموتون تحت التعذيب، ورغم أن ملايين المهجرين والمشردين يعانون التيه والشتات، وقد صاروا جميعاً مجرد كومبارس في المسرحية الدولية التي تستهين بكرامة الشعب السوري وتعبث بقضيته. وإذا كان بوسعنا أن نفهم دوافع إيران العقائدية والتوسعية في موقفها ضد الشعب السوري، فإن فهم دوافع روسيا يبدو معقداً، وبموافقة تامة من الولايات المتحدة وإسرائيل وهذا ما كشفته النتائج.
ولن نعتب على إسرائيل بالطبع إن هي تدخلت في الخفاء وحولت النتائج لصالحها، ولكننا نعتب على المجتمع الإنساني الذي تخلى عن الشعب السوري وتركه يواجه الجوع والبرد والقهر والموت الجماعي بذريعة أن النظام يحارب الإرهاب وكأن الشعب السوري كله قد صار إرهابياً.
ولم يكن يغيب شيء من هذا كله عن السوريين، فقد سموا ثورتهم «اليتيمة» منذ قيامها، وهم يدركون أنه لا مصلحة لأحد في انتصار مشروعهم، لأن تغيير بعض سياسات المنطقة قد يهدد أمن إسرائيل وهو الخط الأحمر العريض الذي تعلنه الولايات المتحدة التي تبدو سياساتها الخارجية مرسومة بهدف حماية أمن إسرائيل، وهي مستعدة للتضحية بكل حلفائها وأصدقائها في الشرق الأوسط حين تجد أمراً يبعث قلقاً في إسرائيل ولو بعد عقود. وليس بوسع أي باحث أن يقول إن سياسة روسيا الخارجية تقع خارج هذا الإطار فقد تمكنت الصهيونية من التوغل في خلايا القيادات الروسية واستولت مرة أخرى عبر الاقتصاد على القرار الروسي.
وربما قال قائل هل ستبقى إسرائيل هي المشجب الذي تعلقون عليه ضعفكم وتناحركم وخيبتكم؟ أقول إننا لا نصنع وهماً، ولسنا أغبياء كي نظن أن التقارب الأميركي الإيراني جاء ضد إسرائيل التي عبرت عن ضيقها وقلقها، ونحن حقاً محكومون بالضعف، لأن التناحر السياسي ما يزال بيد لاعبي مسرح العرائس. ألا ترون كيف أجبر السوريون على تشكيل الائتلاف، وكيف يجبرون اليوم على هدمه حين يطلب منهم أن يذهبوا إلى مؤتمر جنيف دون أي وضوح في الهدف، حتى إن دولاً عربية ذات مكانة وشأن لا تعرف حقيقة ما سيعرض على السوريين في جنيف، لقد اختلطت الأوراق إلى درجة أن المعارضين السياسيين وقعوا في الفخ وباتوا يشغلون وقتهم كله بمعارضة زملائهم في المعارضة. والمقاتلون في الداخل يصارع بعضهم بعضاً، ولا تبدو بارقة أمل راهنة غير أن تتحد قوى الثورة، وأن تشكل كياناً ثورياً يأخذ شرعيته من الداخل ومن الشعب السوري الذي يعاني ما لا يطاق من الظروف القاهرة التي يعيشها، وأن يكف بعض المعارضين السياسيين عن تلقي التعليمات حتى من الدول الداعمة، فلا أحد حريص على السوريين أكثر من حرصهم على أنفسهم. وأؤيد وقوف الثوار لمواجهة قوى الإرهاب التي شوهت الثورة وسحبت بساط التأييد العالمي لها وقدمت صوراً متخلفة مفتعلة للحضور الإسلامي، في بلد هو مضرب المثل في الفهم الصحيح الوسطي اليسير المعتدل للإسلام، وفي مجتمع كان يقتدى به في تفاعل التنوع و التعددية والعيش المشترك على أساس المواطنة وحدها.
لقد كان قرار الثوار بمواجهة التنظيمات الدخيلة على الثورة قراراً جريئاً، ويبدو مريباً أن تعجز استخبارات دول كبرى عن معرفة مصادر تمويل هذه التنظيمات الإرهابية ومصادر تسليحها.
وأنا أدرك أن كثيراً من شباب سوريا انضموا إلى بعض هذه التنظيمات المعمّاة لجهلهم بقياداتها وأهدافها، أو لبحثهم عن حماية ومأمن، أو لفهم ديني ملتبس، وهؤلاء جديرون بأن يتم إنقاذهم من أيدي الغرباء الذين تم شراؤهم وتوظيفهم ليقوموا بأخطر عملية خلط أوراق ضاعت فيها أوراق الثورة النظيفة المطالبة بحق مشروع، هو الحرية والكرامة.
الاتحاد
موسم الرقص مع “داع”/ مشرق عباس
«لا حل امام «داعش» سوى العودة الى العراق»، هكذا كان الناطق باسم التنظيم ابو محمد العدناني يتحدث ضمناً في ملخص خطابه الأخير، ويردد مهدداً ومتوعداً «عائدون… عائدون»، ويبدو ان هذا ما يتحدث به الرسميون ايضاً على الأطراف المختلفة للصراع اقليمياً ودولياً.
لماذا نشبت أزمة الأنبار في تزامن دقيق مع انقلاب الفصائل المسلحة السورية على «داعش» في حلب وإدلب؟ ما علاقة الأنبار بـ «جنيف 2»، والاتفاق الإيراني- الأميركي، والانهيار الأمني اللبناني؟ تلك اسئلة خارج السياق، فالحرب على «داعش» والتحذير من دولتها الجديدة من البحر المتوسط الى الخليج العربي، يكفيان لإخراس اية اسئلة اخرى مقترحة. الغريب ان «داعش» تحولت هدفاً اعلامياً دسماً لتوحيد صفوف المتطاحنين منذ اعوام. فإيران و «قاعدة» الظواهري (النصرة) و «حزب الله» و «الجيش السوري الحر» ونظام الأسد والعرب وتركيا وأميركا وروسيا، كلها رفعت راية الحرب عليها. والأدهى أن كل طرف يتهم خصمه بإيجاد «داعش» كأداة صراع بالنيابة، وتم تناقل الاتهام بين اللاعبين ككرة سلة لا يريد احد الاحتفاظ بها اكثر من موعدها المحدد.
الملعب متزاحم، وعلى اللاعبين الأقل حجماً ادراك اوزانهم، او التعرض الى خشونة الكبار، وربما بطشهم.
«داعش» لاعب ايضاً. فهي تعرف ان مصدر قوتها مقدرتها على التنقل في الملاعب، والتزاحم مع اللاعبين مرة أو افساح المجال لهم.
عندما حرك رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الجيش العراقي باتجاه صحراء وادي حوران، قرب المثلث الحدودي العراقي – السوري – الأردني، كان من السهل ان تبنى الفرضيات الاستراتيجية على اساس ان العراق يحاول اغلاق حدوده مع سورية المضطربة، لمنع تدفق عناصر «داعش» اليه.
تلك الفرضية نموذجية ما دام المحللون بعيدين من فهم الجغرافيا، وما دامت كلمة «الحدود» مغرية للعناوين. وبالطبع لم يكن في البال ان المسافة التي تفصل وادي حوران عن مناطق تدفق «داعش» الحدودية شمالاً تتراوح بين 300 و500 كيلومتر.
لماذا وادي حوران اذاً؟ ومن قاد الطائرات التي قصفت معسكرين لـ «القاعدة هناك؟ وماذا كانت تفعل في حوران شاحنات تحمل نحو 60 سيارة «تويوتا» و «نيسان- بيك اب» بيضاء جديدة هناك؟ ومن اين أتت تلك السيارات المصنعة؟
أسئلة كهذه ليست جديرة حتى بالإجابة، والمالكي نفسه لم يمنح الوقت الكافي لجمع الإجابات، فغيّر بوصلة المعركة الى الرمادي (عاصمة الأنبار) عبر الدفع بالقوات الى فض اعتصام العشائر السنية هناك، واعتقال النائب احمد العلواني، والاستعداد لخوض مواجهات كبيرة مع العشائر سمحت بإسقاط الوجود الرسمي للسلطة خلال ساعات.
«داعش» لم تنتظر طويلاً، فخلال اقل من 24 ساعة كانت موجودة بأرتالها ومقاطع الفيديو التي تصوِّرها في شوارع الأنبار، وتم الحديث عن قدومها بزعامة شاكر وهيب الذي اعلنت السلطات العراقية رسمياً قتله قبل نحو 4 أشهر، ولم يصدر التنظيم اي تكذيب الى حين ظهور وهيب في مراكز شرطة الرمادي.
وبالطبع ليس من المناسب التساؤل على خلفية النظرية التي سادت عن قدوم وهيب وقواته من سورية، هل كانت تلك القوات في حمص ومرت عبر وادي حوران آتية الى الأنبار؟ أم كانت في دير الزور والحسكة وقدمت الى الموصل قبل الدخول الى الأنبار؟ أم ربما كانت في الرقة فتوجهت الى دير الزور ومنها الى الموصل؟ أم في شمال حلب او ادلب فقطعت حماه وحمص ووصلت الى الحدود العراقية لتقطع وادي حوران باتجاه الأنبار؟ وهل سارت تلك الأرتال من السيارات التي تحمل مدافع وصواريخ، على الطرق الدولية الرسمية، أم قطعت الصحراء المعقدة؟ وهل وجدت الحدود مفتوحة فقطعتها في مسيرها السريع هذا ام انتظرت هناك وتسللت؟
لا جدوى من الأسئلة. فـ «داعش»، وفق الرواية الرسمية، احتلت الأنبار ومنها احتلت الفلوجة، وبعدها غادرت للاستقرار في جبال حمرين الى الشرق من الفلوجة بنحو 400 كيلومتر!
العدناني في خطابه ردد مراراً، مخاطباً العراقيين، كلمة «عائدون»، وخاطب بغداد والبصرة وصلاح الدين والأنبار والموصل مبشراً بالعودة، ومحذراً من القاء السلاح، ومتوعداً من يلقيه «بهدم منزله على رأس من فيه». ولكن متى غادرت «داعش» العراق لتعود اليه؟ وهل يُقصد بالعودة تغيير نمط عمل التنظيم من تفجير السيارات المفخخة وتنظيم حملات قتل يومية عبر عبوات ناسفة او اسلحة كاتمة، الى استعادة استراتيجية الزرقاوي بالإمساك بالأرض وإعلان حكم الدولة الإسلامية وتنظيم المحاكم الشرعية؟
مصادفة، خاطب العدناني تحديداً القضاة في العراق ودعاهم الى الانضمام الى محاكم دولته، واستشهد بمقولة طويلة للزرقاوي عن جهاد «الصفويين»، قبل ان يعلن ان تنظيمه قاتل في العراق عشر سنين وسيقاتل عشرات السنين الأخرى!
لم يعد بالمقدور كتمان ذلك التساؤل المحير عن سر انهيار «داعش» الدراماتيكي في الأقاليم السورية، حتى من دون مواجهات جدية! وظهورها في العراق لتقتسم مع حوالى 300 الف جندي في الجيش العراقي وقوات الشرطة مناطق انتشارهم…
من الممكن ان نستمع بعد اسابيع الى العدناني نفسه يردد ما نصه: «في سورية المعركة ملتبسة، المقاتلون باتوا يرفعون السلاح ليس ضد النظام السوري او الجيش هناك بل ضد من يدين بالبيعة لأيمن الظواهري… في العراق الأمر مختلف، فالمعركة واضحة ضد الشيعة وجيشهم والخونة من الصحوة».
صار بالمقدور سماع ابو بكر البغدادي يعيد بيعته للظواهري، ويعلن نهاية معركته في ارض الشام بعدما سلمها للنظراء «المجاهدين» هناك ويرفع حرف «الشين» من «داعش» لتصبح «داع» فقط. صار بالإمكان التكهن بقبول الظواهري توبة البغدادي المتمرد، «حفاظاً على وحدة «الجهاد» و»المجاهدين» وحضه على ادامة معركته في ارض الرافدين «لاستعادة الخلافة».
كل السيناريوات متوقع، وكلها يؤكد ان العراق يعود الى استقبال «المجاهدين الضالين» بكثافة وبحدود مشرعة، فالعراق يحتمل لعبة الجوائز المتبادلة للاعبين اقليميين ودوليين، وسيغطي النفط تكاليف المعارك المقبلة ولن يضطر احد الى استنزاف خزائنه. وهناك في ارض السواد حلقة رقص واسعة، مزودة بكل الإمكانات، على الراقصين فقط عدم تجاوز قواعد وتوقيت الرقصات الثنائية والجماعية مرة اخرى. وعليهم الحرص جميعاً على وصلة رقص مع «داع» الجديدة.
الحياة
احتلال الثورة!/ ميشيل كيلو
اذا كان صحيحا ان الثورة والحرب هما صراع ارادات ، يكون من الصحيح ايضا ان قهر الثورة وكسب الحرب يمكن ان يكونا فعلين خارجيين او داخليين ، أي ان الثورة يمكن ان تحتل من الداخل بواسطة اعدائها ، فيقال عندئذ إنها سرقت ، وأن من لم يقوموا بها هم الذين وضعوا يدهم عليها ، بينما يقال عن الحرب إنه تم كسبها قبل خوضها، لأن احد اطرافها اقام تفوقا كاسحا على غيره، اقنعه بأن خوض الحرب لن يجلب له غير الهزيمة ، وان من الافضل له تفاديها ، لان خسائره ستكون في هذه الحالة اقل من خسائره في حال غامر وخاضها وتعرض للدمار باسلحة عدوه . يقال إن لا وتسي ، الاستراتيجي الصيني الكبير ، هو الذي نصح اباطرة الصين بالعمل على اعداد جيوش تستطيع كسب الحرب دون خوض معارك ، لان كسب الحرب دون قتال هو الانتصار الاعظم الذي يمكن لاية قوة احرازه .
ليس هناك دولة تحترم نفسها إلا وتحاول استخدام الاختراق الداخلي او التطويق الخارجي لاحتواء او لكسر ارادة خصومها واعدائها . وليس هناك سلطة تحترم نفسها وتستحق صفة الوطنية تمارس هذين الاسلوبين لمواجهة مطالب شعبها التي وصفها رئيسها في خطب متعاقبة بالمشروعة والمحقة ، او تستخدمهما لكسر ارادة الحرية لدى مجتمعها ومواطنيها ، على غرار ما فعله نظام الاسد ، الذي عمل طيلة نصف قرن لاقامة ميزان قوى يستطيع احتواء اي حراك داخلي مهما بلغ من الاتساع ، استكمله باختراقات داخلية واسعة جدا وعميقة لمختلف قطاعات المجتمع وفئاته، ولاحزابه وتنظيماته ، بما في ذلك الموالية له، وخاصة منها حزب البعث ، الذي يضم تجمعات عشوائي لمواطنات ومواطنين يخضعون لمراقبة دائمة من تنظيم امني / مخابراتي عابر له ، ينقل تفاصيل حركاته وسكناته إلى اهل السلطة ، ويضعه تحت اعينهم الساهرة ، التي ترى فيه شيئا نافلا تفضل لو انه لم يوجد اصلا ، صحيح انه لا يضم غير مواطنين مخلصين وخانعين، الا انهم يحتلون مواقع تتيح لهم الحاق الاذى به ان هم انفكوا عنه في اية ازمة محتملة ، فلا مفر من اخضاعهم لرقابة صارمة كتلك التي يخضع لها اي تنظيم معاد !.
لم ينفع ميزان القوى الذي خال النظام انه اقامه في احتواء الثورة ، رغم العنف الذي استخدمه ضدها جيشه المسلح حتى الانياب ، والمؤيد عموما لقمع وقتل من قاموا بها . ان نجاح الثورة في بناء جيش خاص بها وسط حمأة الصراع، ورغم تعرضها لاقسى انواع العنف الرسمي ، هو من اعاجيبها الفذة. ومنها ايضا نجاح التمرد الشعبي والمجتمعي وتصميمه على المضي حتى نهاية الشوط في الحيلولة بين عنف النظام المتصاعد بلا توقف وبين كبح نمو الجيش السوري الحر وتزايد انتصاراته الى الحد الذي مكنه من اقامة توازن استراتيجي مع جيش افضل تسليحا واقوى منه بكثير .
هذا الفشل دفع النظام إلى اعتماد سياسات تقوم على اختراق الثورة ، وتوسيع الخرق تدريجيا كي ينقلب الى احتلال من الداخل ، من الباطن . هذا ما اراد تحقيقه بادوات غير مكشوفة ،كانت تبدو بعيدة عنه، بل ومعادية له مثل “داعش”، “الدولة الاسلامية في العراق والشام” ، التي غزت سوريا من الشرق ، بينما غزاها حزب الله من الغرب وكثف النظام عملياته في الشمال والجنوب ، من ضمن هجوم متكامل ومتزامن وشامل . ومع ان دور حزب الله كان مكشوفا بسبب تبعيته لايران، فإن دور “داعش” كان مختلفا ، فالتنظيم بدا خارجا عن اي سياق او نسق شرعي او دولوي معترف به ، واعتبر جزءا من القاعدة ، التنظيم الذي يقاتل العالم بأسره ، ولا يقر بالتبعية لاي نظام مهما كانت طبيعته ، لذلك لن يصدق احد انه يخدم نظاما متهما بالتبعية لطائفة منشقة ومعادية للاسلام، وانه يعينه على كسر شوكة اهل السنة .
لعبت “داعش” هذا الدور انطلاقا من استقلاليتها المزعومة عن النظام،وتصدت لمهمة دقيقة هي احتلال الثورة من داخلها والحلول محل القوى التي اطلقتها، وصار عليها قضمها تدريجيا ومقاتلتها باعتبارها قوى كافرة لن تنجح ثورة اسلامية على يديها . وقد كادت “داعش” ان تنجز مهمتها ، بعد ان انتشرت في سورية انتشار النار في الهشيم ، ووضعت الريف في مواجهة المدينة ، وفرضت حيثما حلت نظاما اشد استبدادا وقسوة من نظام الاسد ، وطهرت عديدا من المناطق المحررة من محرريها ، ولاحقت وقتلت مننظمي الثورة من الشباب والديمقراطيين ، فبدت سورية وكأنها ذاهبة الى استقطاب جديد حده الاول النظام وحده الثاني “داعش” ، هو بديل الاستقطاب الذي صنعته الثورة بحديه المتنافيين: النظام والشعب .
واليوم ، تكسر الثورة الغلاف “الداعشي “وتخرج منه الى درب الحرية التي راهنت عليها منذ يومها الاول ، دون ان يعني ذلك ان معركتها ستكون سهلة مع التنظيم الاجرامي ، او مع النظام الذي كلفه باحتلالها من الداخل ، وسيبحث دون شك عن طرق جديدة لتحقيق هدفه : القضاء عليها باحتلالها على يد قوى تتسلل اليها ، تشبهها في الظاهر ، وتعاديها في كل ما عداه ، يثير دورها قدرا من البلبلة والاضطراب يسهم في انتصارها .
تتعرض “داعش” اليوم لهزائم جدية ، لا ينفع دعم النظام في الحؤول دونها ، مما يضعنا امام منعطف فائق الاهمية، يمكن ان لا يكون ما بعده شبيها باية حال من الاحوال بما كان قبله !. فهل نغتنمها هذه الفرصة ونعيد الثورة الى موقعها الصحيح كبديل للنظام ؟.
المدن
وجهة نظر في فوضانا/ عمر قدور
حدثان متناقضان من حيث الدلالة ميّزا أحداث الأسبوع الأخير في سورية، أولهما اتفاق تشكيلات من المعارضة المسلحة على محاربة «داعش» وتمكنها من دحرها في معظم مواقع سيطرتها، والثاني إعلان حوالى ثلث أعضاء ائتلاف المعارضة انسحابهم منه بذريعة موافقة رئاسة الائتلاف على المشاركة في «جنيف2».
الحدث الأول أحيا تفاؤلاً حذراً لأنها المرة الأولى التي توحد فيها الكتائب المقاتلة جهودها، ولأن «داعش» أساءت إلى السوريين وانتهكت حرياتهم في أماكن سيطرتها، قبل أن تسيء إلى سمعة الثورة خارجياً.
أما الحدث الثاني فأحيا الإحباط من قوى المعارضة السياسية وتشكيلاتها. فانقسامها على أبواب جنيف يُضعف قوتها وصدقيتها اللتين لم تكونا أصلاً في الأوج لدى السوريين أو خارج سورية.
مع ذلك، لا توحُّد الكتائب المقاتلة الآن يبعث إشارة ثقة بها، ولا انقسام الائتلاف يتسبب سوى في مزيد من انعدام الثقة الحاصل مسبقاً. فضعف الكتائب المقاتلة وتشرذمها أمام «داعش» هو ما أتاح للأخيرة فرصة السيطرة بسهولة على المناطق المحررة في الشمال والشرق، ومن غير المستبعد أن تعود الفُرقة بين الكتائب المنتصرة اليوم لتتيح لـ «داعش» أو سواها تكرار التجربة البائسة.
انقسام الائتلاف أيضاً ليس جديداً، فالتهديدات المتكررة بالانسحاب لم تتوقف يوماً، ولم تبرهن غالبية أعضائه على التزامها أصول العمل المؤسسي، الأمر الذي ينسحب عموماً على كل تشكيلات المعارضة الأخرى التي سرعان ما تقلصت أو تلاشت بسبب تسرب أعضائها.
هذا على كل حال ليس جديداً في تاريخ المعارضة السورية التي تكاثرت تنظيماتها طوال عقود بالانشقاقات والانقسامات. ولن نأتي بجديد أيضاً إن أمعنّا في وصف الفوضى التي تسود الساحة السورية، وهي فوضى متفاقمة مع مرور الوقت لم تنفع التجربة المريرة في الحدّ منها، ومن باب أوْلى لم تنفع المناشدات والتمنيات في تشذيبها.
ربما بات ضرورياً التفكير بواقعية، وبعيداً عن منطق التخوين والتكفير الذي يسود أوساط المعارضة، وحتى بعيداً عن بعض ادّعاءات الديموقراطية التي تبرر حالة الفوضى، وتالياً خارج الواقعية المبسّطة التي تُرجع الفوضى إلى التمزق الحاصل في النسيج الوطني ككل.
كان مبرراً إلى حد ما في البداية أن تتعثّر المعارضة في أدائها السياسي لقلّة الخبرة، وأن يخلط أفرادها بين حريتهم الشخصية والتزاماتهم السياسية، لكن ذلك أدى إلى تغليب الأهواء الشخصية على الاعتبارات العامة لدى الغالبية، وأدى أيضاً إلى «تنمّر» بعضهم والنظر إلى الذات على أنها فوق المؤسسة. منذ تأسيس المجلس الوطني ظهرت عيوب الممارسة الديموقراطية وعيوب التأسيس لها: على سبيل المثال يُنتخب رئيس المجلس لمدة ثلاثة أشهر فقط، وهي مدة غير كافية لتقويم أدائه، وكانت غير كافية ليتعرف العالم إلى الشخصية المناط بها تمثيل الثورة آنذاك. ولكن يبدو أن تجربة المجلس تلك أغرت المنضوين تحت مظلة الائتلاف بتكرارها، حيث بات عمل الائتلاف الفعلي ينقضي بسرعة بين استحقاقين انتخابيين. هذه المغالاة في «الديموقراطية» لم تعزز مرة عمل المؤسسة ككل، ولم تعزز الوعي الديموقراطي لدى الأعضاء بمقدار ما أفسحت في المجال أمام «الحرتقات» الشخصية وتنافس الأشخاص والكتل على الهيمنة.
بخلاف الشعارات الديموقراطية، يجوز التساؤل عن الحد من الديموقراطية الذي تبيحه ثورة لم تنتصر بعد، وأيضاً عن التمييز الضروري بين الممارسة الديموقراطية وممارسة حق الاقتراع. وعندما يجري تمييع مسألة الديموقراطية على هذا النحو، قد يكون ضرورياً البحث في ضوابط العمل الجماعي التي تحدّ من حرية الأفراد المنخرطين فيه ومن عشوائيتهم أو تنمّرهم.
ويتقاذف فرقاء المعارضة الاتهامات حول الارتباطات الخارجية والرعاية والتمويل اللذين يحصل عليهما كل طرف، فيحاول كل فريق الإيحاء باستقلاليته التامة. في الواقع لا يوجد أي فصيل خارج الارتباطات السياسية الخارجية، ولا يوجد أي فصيل يعتمد على التمويل الذاتي، ولعل واحداً من أهم أسباب الفوضى والتشرذم يتعين في كثرة الارتباطات الخارجية وتعدد مصادر التمويل، ولا شك في أن اختلاف «أصدقاء» المعارضة وتباين مصالحهم عززا حال الفوضى والانقسام.
القول باستقلالية وطنية للمعارضة قفزٌ على الوقائع، والمناداة بقرار وطني مستقل تماماً قفزٌ مماثل على واقع المعارضة الفقيرة التي تبحث عن الدعم شرقاً وغرباً. إذاً لا معنى لكيل الاتهامات، ومن الأفضل البحث في السبل التي أُنفق فيها التمويل، ومدى خدمته لما يُفترض أنه توافق في المصالح بين الداخل والخارج، فضلاً عن التحري الجدي لما أُشيع عن شبهات الفساد.
في كل الديموقراطيات العريقة تُلزِم الشخصيات العامة نفسها، أو يُلزِمها العُرف العام، بضوابط أشد من الحريات العامة المعمول بها. هذا يتطلب ممّن يتنطعون للعمل العام في سورية التحلّي بروح المسؤولية وبالشفافية، ويتطلب منهم التخلّص من آفات نظام «البعث»، وفي مقدمها الفجوة الواسعة بين الشعار والممارسة، حيث يكون الشعار للاستهلاك العام والممارسة تعبيراً عن المطامع الفردية.
كثير من الذرائع السياسية التي تُساق اليوم لم يعد يخفي العلل المتفشية في صفوف المعارضة، وفي أوساط التشكيلات المسلحة. قسم كبير من العلل يمكن القول انه ما دون السياسة بوصفها فعلاً وفضاء عامين.
بخلاف الشعارات السائدة، المشكلة ليست في مجرد الحصول على تمويل أو غطاء سياسي خارجي. المشكلة هي في تعدد مصادر التمويل، وعدم وجود ضوابط إطلاقاً للحصول عليه، بما في ذلك الضوابط السياسية. على المستوى العسكري، المشكلة ليست في عدم رغبة الكتــائب وقدرتـــها على التوحد، بل في عدم وجود جسم عسكري مرموق يحظى بدعم حقيقي ويجذب الفصائل إلى الانضمام إليه، أو حتى يفرض عليها الاندماج فيه.
إن فائض الحرية الذي تتمتع به التشكيلات السياسية والعسكرية، في الوقت الذي لم يحقق فيه السوريون حريتهم بعد، هو بمثابة ترف لا تحتمله الحرب التي يتعرض لها مجتمع الثورة. هذه ليست دعوة من قبيل «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، فالأصل والمعيار هو مقدار الحرية التي يحصل عليها عموم الناس، حتى إذا اقتضت حريتهم التضييق على من يدّعون تمثيلهم. بل ربما بات ذلك في حكم الضرورة الآن!
الحياة
سوريا: “ثورة” واحدة ونظام واحد و”داعشـ”ـان!/ هوشنك بروكا
قبل أكثر من عام قامت أميركا ودول الإتحاد الأوروبي بإدراج “جبهة النصرة” و “داعش” وأخواتهما على لائحة الإرهاب، الأمر الذي أثار سخطاً وغضباً كبيرين في أوساط المعارضة السورية، وعلى رأسها “الإئتلاف” و”المجلس الوطني” السورييّن.
في ردّه “الغاضب” على موقف الأميركيين والأوروبيين، الذي وُصف في أدبيات المعارضة، بأنه موقف “لا يصبّ في مصلحة الثورة”، قال رئيس “المجلس الوطني” جورج صبرا، آنذاك، “ان وصف الغرب للجبهة (النُصرة) بأنها إرهابية يدعم مزاعم الرئيس السوري بشار الأسد بأن الحرب الأهلية ليست انتفاضة طبيعية وإنما غزواً من قبل القوى الأجنبية”. ذات الموقف أكدّ عليه رئيس “الإئتلاف” السابق، الشيخ معاذ الخطيب، في حينه، رافضاً وصف “النصرة” بالإرهاب، ف”لا يعيب أحداً أن يكون دافعه لتحرير بلاده هو الدين، وكون الحراك العسكري إسلامي اللون بمعظمه هو شيء إيجابي فالشهادة في سبيل الله طالما كانت هي المحرك الرئيس لحرية الإنسان”، على حدّ اعتقاده.
ساد هذا الإعتقاد، بإعتبار “النُصرة” و”داعش” و”حركة أحرار الشام” وسواها من المجموعات الإسلامية المسلحة المتشددة، من “الثورة” السورية وفيها إلى أن انفرط عقد “الجيش السوري الحرّ”، وتبيّن للعالم أنّ الحركات الجهادية والتنظيمات التكفيرية التابعة ل”القاعدة” تشكّل القوة العظمى في صفوف مسلحي المعارضة. فبحسب أكثر من دراسة، يشكّل الجهاديون والإسلاميون المتشددون القوة الأساسية الفاعلة على الأرض داخل قوات المعارضة السورية. في دراسة (نُشرت في سبتمبر الماضي) كان قد أجراها المعهد البريطاني للدفاع (آي. إتش. إس. جينز) أظهرت ان عدد المسلحين الذين يقاتلون في صفوف أهل “الثورة” السورية “يقدر بحوالي مئة الف مقاتل لكنهم يتوزعون على حوالى ألف مجموعة مسلحة مختلفة”. ووفقاً لتقديرات الدراسة ذاتها ف”إن حوالى عشرة آلاف من هؤلاء هم جهاديون يقاتلون تحت الوية جماعات مرتبطة بالقاعدة، في حين ان 30 الفاً الى 35 الفاً آخرين هم اسلاميون يقاتلون في اطار مجموعات مسلحة متشددة”.
قبل أقل من أسبوعين، طرأ تحوّل مفاجئ في موقف المعارضة السورية من بعض الفصائل الإسلامية المسلحة وعلى رأسها “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، بإعلانها لهذه الأخيرة “تنظيماً عميلاً للنظام ومعادياً للثورة”، ما أدى إلى حصول مواجهات مسلحة بين “الجبهة الإسلامية” الداعية إلى “إقامة الدولة الأموية في الشام”، كما جاء في آخر تصريحٍ لقائدها الشيخ زهران علّوش و”داعش” التي تجاهد من أجل إقامة “دولة الخلافة الإسلامية” وخسارة هذه الأخيرة، بالتالي، لبعض مواقعها الإستراتيجية في حلب وإدلب وريفيهما.
فهل لهذا التغيّر المفاجئ في موقف المعارضة المسلحة علاقة ب”جنيف2″ الذي أصبح عنوانه الأبرز “محاربة الإرهاب”؟
الأرجح نعم. إعلان غالبية مجموعات المعارضة المسلحة وعلى رأسها “الجبهة الإسلامية” وإدراجها لإسم “داعش” في لائحة “الإرهاب” ومطالبتها ب”الخروج الفوري” من سوريا، ما هو إلا محاولة لسحب ورقة “محاربة الإرهاب” من يد النظام والمحور الذي يدعمه. الأمر الذي سيساهم في “تحسين” صورة المعارضة وتقوية موقفها في حسابات “جنيف2”.
أما المفارقة الكبرى في موقف المعارضة السورية فتكمن في ازدواجيته الفظيعة، تجاه التعاطي مع “داعش” وإرهابها.
في حلب وأدلب والرقة وديرالزور، وسواها من “المناطق المحررّة” التي تريد لها “الثورة” أن تكون “سورية عربية سنيّة”، في مواجهة “الشيعة الرافضية” و”العدو الفارسي”، كما يقول لسان حالُها، تعلن المعارضة تنظيم “داعش” تنظيماً “إرهابياً معادياً للثورة” وتؤكد على أنّ هناك “علاقة عضوية بين التنظيم والنظام السوري وأن سيل دماء السوريين على يد هذا التنظيم رفع الشك في شكل نهائي عن طبيعته وأسباب نشوئه والأهداف التي يسعى الى تحقيقها والأجندات التي يخدمها ما يؤكد طبيعة أعماله الإرهابية المعادية للثورة السورية”. أما في تل كوجر وقامشلو وسري كانييه وكوباني وعفرين، وغيرها من المناطق التي يريد لها أكرادها أن تكون “سوريا كردية”، فيكاد موقف المعارضة بكلّ فصائلها المعتدلة والمتشددة يتماهى مع موقف “داعش”، بإعتبار تنظيمها جزءاً من تنظيم الثورة، و”دولتها” دولةً أو جهةً للثورة، كما تبيّن من المعارك الأخيرة التي جرت في شمال شرقي البلاد في تل حميس بريف القامشلي، بين فصائل “الثورة” المسلحة تحت قيادة “داعش” من جهة و “قوات حماية الشعب” (YPG) من جهة أخرى.
في حلب وما حولها، تعتبر “داعش” من وجهة نظر المعارضة وتنظيمات وجيوش “الثورة”، على سنة الإسلام، “عدوّة الثورة” و”صنيعة النظام وعميلته”!
أما في قامشلو وما حولها، فتعتبر “داعش” ذاتها، ومن وجهة نظر أهل “الثورة” ذواتهم، وعلى سنة الإسلام ذاته، عدوةً للنظام، وجزءاً لا يتجزء من الثورة، لا بل قائدتها!
هناك في “سوريا السنيّة”، تصنع “داعش” الإرهاب والقتل، فيما هنا في “سوريا الكردية”، فهي تصنع الثورة والحياة.
هناك تريد المعارضة طرد “داعش” من سوريا، أما هنا فتريد “فتح” سوريا بها فتحاً مبيناً.
هناك، “داعش” مع النظام ضد “الثورة”، أما هنا فهي مع “الثورة” ضد النظام!
هناك، تغلق “داعش” “الثورة” وتقتلها بإرهابها، أما هنا فهي “تفتح الثورة”، وتحييها وهي رميمٌ!
هناك، “داعش” حرامٌ شرعاً، في الدين، كما في السياسة، أما هنا، في هي حلالٌ زلال!
فهل نحن في سوريا، طبقاً لهذا “الفقه الثوري”، أمام “ثورةٍ” واحدة، ونظامٍ واحد و”داعش”ين، أم أنّ وراء أكمة المعارضة السورية ما وراءها؟
ايلاف
شريعة داعش: رائد يكذب أهله!/صبحي حديدي
يصغي المرء، حين يضطرّ إلى الإصغاء، وكأنه يُساق صاغراً إلى نوبة تلويث لحاسّة السمع، لا تخلو من تسميم للعقل أيضاً: “لا يطمعنّ مسلم أن تقام دولة الإسلام إلا على الجماجم والأشلاء”، أو: “إعلموا أنّ لنا جيوشاً في العراق وجيشاً في الشام من الأُسود الجياع، شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات”، أو: “دعونا نبتدر ورد الحِمامِ/ ليطفيء برده حرّ الأوامِ/ لقيناهم بآسادٍ جياعٍ/ ترى لحم العدا أشهى طعامِ”…
هكذا تكلم أبو محمد العدناني الشامي، الناطق الإعلامي باسم “دولة الإسلام في العراق والشام”، أو “داعش” في الاختصار الشهير؛ منصّباً نفسه، بإفتاء ذاتي، ذلك “الرائد الذي لا يكذب أهله”، فيبشّر بالويل والثبور وعظائم الأمور. في الغضون، كانت أسوده الجياع تشرب الدماء، بالفعل، فتقتل الأسرى حين تضطر إلى الانسحاب، في مناطق حلب وإدلب والرقة؛ فلا تفرّق بين أسير طاعن في السنّ، أو يافع لم يخطّ شاربه بعد، وتستأسد استئساداً مضاعفاً على الأطباء والإعلاميين، خاصة أولئك المنتمين إلى تيارات إسلامية جهادية كانت إلى حين “شقيقة في الدين”، قبل أن تنقلها داعش إلى خانة “صحوات الخيانة والدياثة والعمالة”!
وقبل المواجهات المسلحة الراهنة، مع “مجاهدين” كانوا بالأمس القريب أشقاء السلاح والعقيدة، من مقاتلي “جبهة النصرة” و”أحرار الشام” بصفة خاصة؛ كانت داعش قد عاثت فساداً في مناطق عديدة، ومارست أعمال القتل وهتك الأعراض والترويع والسلب والنهب، على نحو لم يذكّر السوريين بأبشع جرائم النظام، فحسب؛ بل ناب عن أجهزة بشار الأسد وشبيحته وميليشياته الطائفية في تنفيذ المهامّ الأقذر، والأشدّ إيذاءً وإساءة، لأنّ الموبقات كانت تُرتكب تحت ستار “تحكيم شرع الله” و”رفع أركان الدولة الإسلامية”. وفي هذا، وعلى النقيض ممّا اعتاد أن يتشدّق به “الرائد” إياه، كان المسجد يتساوى في الانتهاك مع الكنيسة، والسوري الكردي يُعدم إلى جانب السوري العربي، و”الأخ الجهادي” يُقتل ويجري التمثيل بجثته أسوة بـ”الرافضي”.
لا طائل، إذاً، في سَوْق أيّ من نظريات المؤامرة، حول عمالة داعش لأجهزة النظام السوري؛ أو أنها صنيعة تلك الأجهزة في الأساس، منذ أن أشرف النظام على تدفّق الإسلاميين المتشددين إلى العراق، في سياق المناورة مع الاحتلال الأمريكي، بحثاً عن صفقة ما؛ أو أنها مخترقة، جزئياً أو كليّاً، وبعض أمرائها ليسوا سوى ضبّاط تمّ فرزهم، سرّاً، من استخبارات النظام وأفواجه الموالية. لا طائل، عملياً، ما دامت داعش تقدّم للنظام الخدمة تلو الأخرى، وتمارس على أرض الواقع فظائع لا تقلّ قبحاً.
والحال أنّ الانتفاضة الشعبية السورية دفعت ثمناً باهظاً نتيجة بروز داعش، ثمّ تجذّرها وتغوّلها بغطاء واستمراء من الفصائل الإسلامية والجهادية الأخرى على الساحة، وصار لزاماً أن تستمدّ درساً بليغاً، واحداً على الأقلّ، من الظاهرة بأسرها: إذا كان هاماً اجتذاب إسلام سياسي مستنير إلى صفّ المعارضة، فإنّ الأهمّ هو عدم “مراعاة” ذلك الإسلام أو التغاضي عن انحرافه وشططه، خصوصاً في المسائل الجوهرية الكبرى ذات الطابع التشريعي والحقوقي والثقافي. فالأمر هنا ليس سلاحاً ذا حدّين فقط، بل هو في الأغلب سلاح ذو حدّ واحد يرتدّ إلى نحور الغافلين عنه، فتنتهي المحاباة إلى التوفيق، ثمّ التلفيق.
وفي التذكير بالقضايا البسيطة، التي تكتنف حساب موازين نفوذ الإسلاميين داخل الانتفاضة السورية، من المفيد التشديد على أنّ خصائص المجتمع السوري الأصيلة، التي اقترنت بالمحطات الكبرى الفاصلة في تطوّر سورية السياسي والمجتمعي خلال الأطوار الحديثة، إنما تضع البلد على نقيض صريح من تلك الأطروحة الأحادية التي تجعل الإسلاميين بديل التغيير الوحيد. ذلك لأنّ مبدأ التعددية السياسية لا يمكن أن يغلق الباب مسبقاً أمام أيّ فصيل يقبل بالمبدأ ويقرّ بقواعده الأخرى، بما في ذلك الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، وفصل السلطات، وإقرار العلمانية، وترك الدين لله، وإبقاء الوطن للجميع.
والشاذّ عن هذا التوازن هو من طينة أمثال العدناني، غالباً؛ وأياً كانت الدولة الداعشية التي ينتمي إليها، فإنه في نهاية المطاف ذلك “الرائد” الذي لا يمكن إلا أن يكذب أهله!
موقع 24
“داعش” وأخواتها/ بكر صدقي
منذ ظهر مسلحوها وحيثما ظهروا، عملت «داعش» كل ما في وسعها لكسب نفور السكان، بحيث لن تجد اليوم من يذرف عليها دمعة واحدة. وهي تتعرض لهجوم متعدد الأطراف من حكومة المالكي في الأنبار شرقاً إلى كل المجموعات المسلحة في شمال سورية غرباً. ولم يتوانَ بيان صوتي منسوب إلى «داعش» عن تهديد خصومها بـ «الانسحاب من المناطق المحررة وتركها عرضة لهجوم قوات الأسد»، وكأنها تؤكد ما جاء في بيان الائتلاف الوطني المعارض الذي صدر قبل أيام واتهمها بأنها صنيعة النظام. ولم تعد أكاذيبها في تبرير أفعالها المتوحشة أو للتنصل منها تنطلي على أحد، بعدما أفرغت المناطق المحررة من الإعلاميين وعدَّت الكاميرا عدوتها الأولى.
ليس الاستياء العام من وجود هذا الفرع من تنظيم «القاعدة» وليد اليوم، وقد تأخر شن الحرب على «داعش» كثيراً بسبب حسابات انتهازية لدى الفصائل المسلحة القادرة على ذلك. ما الذي حدث إذاً ليجعل الحرب على «داعش» تطغى على الحدث السوري والعراقي معاً في آن؟ ما الذي دعا إلى تأسيس «جيش المجاهدين» لتكون مهمته الأولى، وربما الوحيدة، القضاء على «داعش» وطردها من سورية؟ وكيف انخرط الجميع، بمن فيهم «جبهة النصرة» ذاتها، في هذه الحرب؟
لم يعد من قبيل الاكتشاف أن نقول إن زمام المبادرة في الثورة السورية، بمستوييها العسكري والسياسي، انتقل تماماً إلى أيدي غير السوريين من قوى اقليمية ودولية متنوعة الأهداف متضاربة المصالح. وما الحرب الراهنة على «داعش» إلا نتيجة قرار تم اتخاذه في عاصمة ما من العواصم المنخرطة في المشكلة السورية. أهي أنقرة الغارقة في فضيحة الفساد التي تكاد تطيح بحكومة «العدالة والتنمية»؟ أم الدوحة الطامحة إلى العودة للإمساك بالملف السوري بعد إقصائها منذ أشهر؟ أم باريس أم واشنطن؟
لا نملك، أمام هذه الأسئلة، سوى التخمين. مرد تركيزنا على المحور التركي– القطري هو أن الحكومة التركية المتخبطة داخلياً تبحث، منذ بعض الوقت، في سبل إعادة التوازن إلى سياستها الخارجية في ضوء التقارب الأميركي – الإيراني الذي يبدو أنه يقوم على تطلعات استراتيجية طويلة الأمد لدى الجانبين، ولا يقتصر على تفكيك البرنامج النووي الإيراني.
مستفيدةً من الفتور الراهن في العلاقات الأميركية – السعودية، بسبب التقارب الأميركي– الإيراني، وجدت قطر اللحظة المناسبة للعودة إلى الانخراط في ملفات المنطقة من مصر إلى سورية. الأمر الذي ظهر بوضوح في الاجـــتماع الأخير للائتلاف الوطني الذي شهد صراعاً ضارياً على احتلال الأطر القيادية فيه بين جمـــاعات محــسوبة على حـــكومات عربية وانتهى بانسحاب خمسيــن شــخصاً فــي ما يشبه أكبر انشقاق تشهده أطر المعارضة السورية منذ قيامها.
لا تستقيم قراءة الحرب على «داعش» من غير أخذ هذه الخلفيات الدولية في الاعتبار. ولكن أليس التخلص من «داعش» مكسباً في حد ذاته لجميع السوريين بصرف النظر عمن اتخذ القرار بذلك؟ بلى، لو كان الأمر يتعلق بعمل جراحي يتم فيه استئصال هذا الورم الخبيث الذي ارتكب كل الفظاعات الممكنة في حق الناشطين المدنيين والثوار المسلحين والسكان. لكن الخشية هي أن يتحول الأمر إلى حرب طويلة قذرة تشكل بيئة مناسبة لمزيد من إذلال السكان وإرهابهم، وتطيل عمر النظام الساقط. فمن جهة أولى أعلنت «داعش» ردها، في تسجيل صوتي مطول لناطق باسمها، اعتبرت فيه كل خصومها كفاراً أو مرتدين باتوا أهدافاً للقتل، بما في ذلك الائتلاف المعارض وقيادة أركان «الجيش الحر». وبدأت ردها العملي من خلال السيارات المفخخة التي يقتل تفجيرها العشرات من المسلحين والمدنيين على السواء. ومن جهة خصوم «داعش» من الفصائل المسلحة والإعلام المناهض لها، نلاحظ حملة الشيطنة المألوفة التي نشهد مثلها في مصر في حق جماعة «الإخوان المسلمين».
لكن أسوأ ما في الأمر قد يكون في طبيعة القوى المتصدية لـ «داعش». وإذا كان «جيش المجاهدين» الغامض هو رأس الحربة في هذه الحرب، فالمستفيد الأكبر من نتائجها الأولية إنما هو «جبهة النصرة» التي عادت إلى الواجهة بعد انكفاء. لم يكن مصادفة ظهور «الحوار» مع زعيمها أبو محمد الجولاني على قناة «الجزيرة» قبيل بدء الحرب على «داعش» بأيام قليلة. فـ «الجبهة» التي خبا صوتها ووهنت قوتها منذ انشقاقها عن «دولة العراق والشام» بزعامة البغدادي، تعود اليوم بقوة إلى المشهد السوري كأننا إزاء «حركة تصحيحية» في قلب «القاعدة» بعد فترة من فضيحة إعلان الدولة الإسلامية في المناطق المحررة في الشمال السوري، مع امتدادها في محافظة الأنبار العراقية.
إذا كانت الولايات المتحدة تعلن دعمها حكومة المالكي في مواجهة «داعش» وتزودها الأسلحة اللازمة لمحاربتها، فيما «يتوق» السفير روبرت فورد إلى اللقاء مع «الجبهة الإسلامية» التي تضم منظمات سلفية جهادية كـ «جيش الإسلام» وحركة «أحرار الشام»، فمن المبكر أن نتفاءل بقرب التخلص من «داعش»، إذا كانت البدائل أخوات «داعش».
الحياة