عودة الإبن الخائف/ منذر مصري
(على هذه الحال، ربما ألتقيك في الباقي
من حياتي مرتين أو ثلاثاً، وربما لا)
ثمة أسباب كثيرة ومتنوعة وربما متناقضة لما أطلق عليه الربيع العربي، وأخصّ الربيع السوري منه، لا لشيء، إلاّ لأني أجني ويجني شعبي وبلدي، وباستخدام الوصف الأشد تعبيراً عن الواقع للأسف، ثماره، التي أرادوها لنا، قاسية ومرّة. هذه الأسباب عموماً لم تكن تتطلب تفكيراً عميقاً لمعرفتها وتمييز بين ما هو جوهري وأساسي منها وما هو ثانوي وهامشي. رغم أن عدداً لا بأس به من المتابعين والمحللين قد جهدوا في هذا السبيل،فاتفقوا واختلفوا ثم طلعوا علينا بنظريات واستنتاجات ما لم ينزل الله به من سلطان. ذلك أن السوريين الذين قاموا بهذا الربيع، ومن خلال مطالبهم المعلنة، قد حددوا هذه الأسباب بوضوح وصراحة شديدين، والتي بقراءتها معكوسة، أو سماعها معكوسة، نستطيع مباشرة استنتاج الأسباب التي دفعتهم للمطالبة بها. أي أنه عندما سمعناهم يصيحون: (حرية حرية) نستطيع أن نعلم، وأعتذر لهذا التبسيط، أن السبب هو فقدانهم لها. و(الشعب السوري ما بينذل)، فهذا يعني أنهم يطالبون بكرامة كانوا يفتقدون لها كبشر وكمواطنين. أما (ما في خوف بعد اليوم)، فهو اعتراف منهم على أنهم كانوا يحيون خائفين. وهنا، عند هذه النقطة بالذات، أريد أن أتوقف لأدلو بدلوي الخاص وأقول إني أميل، وربما لدافع شخصي، لأن أعيد كل الأسباب التي ذكرتها والتي لم أذكرها أياً كانت، إلى هذا العامل الأخير، ألا وهو الخوف. لأن الإنسان الخائف، على هذا النحو الذي نعرف، وإلى هذه الدرجة التي نعرف، لا يمكن له إلاّ أن يشعر بأنه مقيد ومذلول. نعم كان السوريون سجناء الخوف وعبيده. ولا أظن هناك سجناً أضيق وأظلم من الخوف، ولا هناك مهانة بقدره ولا عبودية.
سمعت، كما سمع غيري، من الفاغرين أفواههم وآذانهم وعيونهم، وهم يتابعون ما يجري على مدى السنوات الثلاث والنصف الماضية، أن الشعب السوري قد أزاح عن صدره لحاف الخوف، وأنه قد قرر ألاّ يحيا خائفاً بعد اليوم. وبالفعل، وهذا ما رأيته ورآه الجميع، خرج السوريون إلى الشوارع والساحات تحت أنظار عناصر الأمن وعلى مسافة أمتار من فرق حفظ النظام وأمام حواجز الجيش، مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة. وغمرنا جميعنا ذلك الشعور بالانتشاء والفرح، بأن ما كنّا ننتظره ونكاد نيأس من مجيئه، قد جاء: و(يا الله ما أحلاها الحرية). ولكن.. بالخوف أيضاً. لأنه ليس بهذه البساطة، ولا بهذه السرعة، يمكن للخوف المغروز كالخنجر في صدورنا، والضارب بجذوره في قلوبنا أن ينتزع ويخرج منا. أقول هذا عني أولاً، وربما بدائرة أوسع قليلاً عن محيطي الاجتماعي والثقافي، أنا من وقع على بيان الـ/99/ مثقفاً، وكل ما جاء بعده من بيانات إلاّ ما ندر، وأنا الذي استدعيت وحقّق معي في عدة فروع أمن، ثم منعت من السفر إلاّ بموافقة أمنية. وأنا من حضر مؤتمر سمير أميس في دمشق، أول مؤتمر علني للمعارضة السورية، نعم أنا من كتب كل تلك المقالات ذات الشبهة السياسية المعارضة، أقول إنه لم يكن سهلاً أن يخرج الخوف من داخلي، وأعترف لم يخرج ابداً.
تعددت أسباب الخوف السوري وتنوعت آليات عمله خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، إن لم أعد بالأمر إلى زمن أبعد، لأني خبرت ولم أزل طفلاً اعتقال أبي عند اغتيال عدنان المالكي في منتصف عقد الخمسينات، وخوفه خلال سنوات الوحدة الثلاث، ثم بعد تسلم حزب البعث للحكم وتفرده بالسلطة خلال هذه العقود الأربعة، وبعدها وإن بوطأة أخف، فلا شيء يعادل خوف عقد الثمانينات، العقد الأول من القرن الجديد. حيث قدمت الوعود بالإصلاحات والتغيير، ولو تحت شعار التحديث والتطوير، وظهرت، كاستجابة لهذه الوعود، حركات المجتمع المدني والأهلي، وسمح بالمنتديات السياسية العامة، وإن بخجل وتردد. لأنه أيضاً لم يكن سهلاً على نظام بهذا التصلب أن يتبدى فجأة بهذه المرونة وهذا التساهل، وأحسب أن المعارضة السياسية بكافة أشكالها رأت في ذلك فرصة متاحة لدفعه إلى حيث لا يبدو أنه كان يريد أن يذهب، وأحسب أنها على هشاشتها وتفككها راحت تشدّ أكثر مما يحتمل، أو ربما من وجهة نظره أكثر مما يجب، فما كان له إلاّ أن يوقفها عند حدّها ويعمل عمله المعتاد فيها، والمعروف بالقدر الذي لا داعي لوصفه. قلت: تتعدد أسباب الخوف السوري وتتنوع آلياته، ليصل، ليس إلى القلة القليلة التي تعرف بأنها معارضة النظام، بل للكثرة الكثيرة التي تعلن موالاتها له. نعم، خبرت وعرفت من الموالين والمدافعين عن النظام من هم أشد خوفاً مني ومن أمثالي بأضعاف. أذكر شاباً عمل معي فترة، أدهشني بمعلوماته وقدراته المكرسة للدفاع عن النظام ومواقفه، رفض عرضي بكتابة مقال مشترك عن جوانب ضعف النظام السوري أكتبها أنا، وجوانب قوته يكتبها هو، بحجة أنني كاتب معروف ولي حصانتي، أما هو، على حد قوله، فلا شيء يشفع له عند من يؤمن بهم ويواليهم. كما أذكر رأياً لي ضحك له ضابط أمن زارني في عملي بعد صدور بيان /99/، بأنه أولى بكم أن تسألوا عمّن رفض توقيع البيان قبل من وقعه، لأن الذين وقعوه قبلوا بأن يكشفوا لكم عن أسمائهم وأنفسهم، وهم يأملون بأنكم كسوريين مثلهم ستقبلون به وتتفهمونه، أما أغلب الذين لم يوقعوا عليه، فليس بسبب أنهم لا يوافقون على ما جاء فيه، بل لأنهم، وقبل أي شيء، يخافون منكم ولا يصدقون أنه من الممكن أن تستوعبوا مطالب محقة كهذه، حتى إنهم يظنون بل يوقنون أن هذه البيانات ليست سوى أفخاخ أمنية معدّة من قبلكم للإيقاع بكل الحمقى والمجانين الذين يضعون عليها تواقيعهم!؟
ولكن الآن، وبالعودة للحاضر، وبعد كل ما جرى في سوريا من موت وخراب وتشرد، السؤال هو: (هل ما زال السوريون يلتحفون بلحاف الخوف؟ أو دعونا من الاستعارات، هل السوريون ما زالوا خائفين؟). جوابي: نعم ما زال السوريون خائفين، وما زالوا يحيون تحت ألحفة الخوف الثقيلة والكتيمة بأنواعها، أكانوا ممن يحيون في المناطق التي ما عادت تحت سيطرة النظام، ووقعت بأغلبها تحت سيطرة داعش وجبهة النصرة، وغيرهما من الجماعات الدينية المتطرفة، حيث لا تهدأ الحروب بينها وبين قوات النظام وحلفائه من جهة، وبينها وبين بعضها سعياً وراء السيطرة على الأرض والغنائم من جهة، وبينها وبين بقايا الجيش الحر من جهة ثالثة، وحيث لا يمكن لإنسان أن يحيا، مجرد حياة، فلا يكون أمامه إلاّ أن يصير منهم، ويحارب ويموت معهم، أو يسعى للهرب بروحه بأية طريقة وإلى أي مكان. أما الذين ما زالوا يحيون في المناطق التي استطاع النظام الحفاظ عليها تحت سيطرته وحمايته، والذين وإن شعروا بالنجاة والأمان النسبي مما أصاب السوريين في الطرف المقابل، فإنهم يشعرون بوطأة النظام الشديدة في كل جزء من حياتهم، وذلك باستمرار الاعتقالات والملاحقات وانتشار حواجز الأمن والدفاع الوطني، الثابتة والطيارة، ليلاً ونهاراً، على الطرق العامة وعند مداخل ومخارج المدن والبلدات وفي أي مكان في داخلها. الأمر الذي، وإن استنكره البعض مطالبين النظام أن يقدم المثال الجيد على نوعية معاملته لهم في المستقبل، يعلمون أنه لا يمكن له أن يرخي هذه القبضة ولو قليلاً، وإلى أمد ليس بقريب على الأغلب. ذلك أنها بعرفه ما مكّنه من النجاح الذي يقارب النصر في إبقاء هذه المناطق بعيدة عن متناول الجماعات المسلحة ودعواتها للثورة والتمرد.
ورغبة بتدقيق أكثر لما ذكرت آنفاً، عن سيرورة عودة الخوف للسوريين، فأنا أرى أن النظام ما كان ليلجأ للوسائل الأشد عنفاً، لو أن آليات التخويف والترهيب كانت كافية لكبح المظاهرات والاعتصامات، التي واجهته في بداية عام /2011/. لأن قانون استخدام عنف الدولة في الحالة الطبيعية، يوجه ضد الأفراد القلّة الذين يبدون عدم الخوف، لينالوا عقاب تجرؤهم أولاً، وثانياً ليجعل منهم عبرة لأمثالهم. وذلك تطبيقاً للمعادلة المعروفة: (أعاقب البعض.. أرعب الجميع). ولكنه عندما يواجه حالة استثنائية كلياً، كأن يحدث تمرد جماعي أو ثورة شعبية فإن النظام يضطر لاستخدام آلية العنف على نحو عام وغير انتقائي (عقوبات جماعية). ودليلي على تفضيل النظام استخدام آلية الخوف هو كيفية إدارته لانتخابات الرئاسة الأخيرة حيث لم يلحظ استخدامه ما كان متوقعاً من أساليب الزجر والتعنيف. ولكنه كان قد نشر قبلها، إشاعات عديدة عن عواقب عدم المشاركة في العملية الانتخابية، بلغ بعضها حدّ الكاريكاتورية، بأنه سوف يتم اعداد لوائح اسمية بكافة غير المنتخبين وستوزع على الحواجز ومخافر الشرطة والمراكز الحدودية، وأنهم سوف يمنعون من السفر ومن الدخول، ويعتقلون ويحرمون من الهوية السورية الجديدة!؟ وقد عملت هذه الإشاعات عملها، حتى إن بعض الناس، ممن فقدوا أفراداً من عوائلهم، أو ممن لديهم أبناء معتقلون أو ملاحقون أو يعملون في الخارج، كانوا الأكثر حرصاً على أن ينتخبوا ويغمسوا بالحبر أصابعهم، وذلك تحسباً لمشهد ترسمه مخيلاتهم المرعوبة يسألون به ما إذا انتخبوا الرئيس أم لا، وأملاً أن تساعد إجابتهم بنعم على حل مشاكلهم ومشاكل أبنائهم.
واحدة من مآسي السوريين، تشردهم وتشتتهم وانفراط عقد عائلاتهم. فقد بات شيئاً أكثر من عادي، أن يكون الأب عاملاً في السعودية، والزوجة والابنة تنتظران في مدينة ما بتركيا، بينما الابن في القاهرة، والابن الثاني الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة، وجد طريقه إلى السويد!؟ أو عائلة سورية من البوكمال، الأب والابن في القاهرة، فيموت الأب ويدفن هناك، والأم والابنة في اللاذقية، دون معيل!؟ أو أن الأب قد حط في النرويج، وزوجته وابنتيه لم تغادرا بعد مدينة إدلب، أو وهذا هو النموذج الأشد انتشاراً، الأب والأم في سوريا، يكبرون ويشيخون، وغالباً يموتون وحيدين، بينما الأولاد لا أحد يدري في أية بلاد الله التي ماعادت واسعة، هم!؟ أنا نفسي، وأصدقائي أبو سليم وأبو جوزيف وأبو معين، من هذا الصنف من الناس، الذين بليتهم، إذا اسميتها بلية مقارنة ببلايا غيرهم، والتي قد يعتبرها الكثيرون نعمة، لا تزيد عن كون أولادهم يعملون في المملكة العربية السعودية، أو في دولة من دول الخليج العربي، ما قبل الأحداث بزمن، أما معين فقد تدرج في شهاداته وتخصصه حتى بات يشغل منصب مدير مجلس إدارة إحدى كليات طب الأسنان في أميركا، وبسبب ما كانوا يسمعونه من قصص الحرب والقتل والخطف، لم يزوروا بلدهم منذ أربع سنوات غير منقوصة، ويرون الآن أن الوقت مناسب لهذه الزيارة، ذلك أن الكثير من أصدقائهم، الأشجع منهم، أو الذين أهلهم لم يمنعوهم من العودة، قد جاؤوا وشحنوا بطاريات أرواحهم من عاطفة أمهاتهم وأماكن طفولتهم وذكرياتهم، وذهبوا، دون أن يتعرضوا لأي مضايقة. سليم الذي حدثني كيف كانت قدماه تصطكان رعباً عندما راحوا يدققون في جواز سفره في المطار، كان أول من جاء وذهب. د. معين ما زال متردداً، فأمريكا نصحت مواطنيها عدم السفر إلى سوريا. جوزيف وزوجته وطفلتيه سيأتون خلال العطلة المقبلة، أما أبني فقد قطع تذكرة الطيارة، وهو قادم لا محالة في بداية أيلول، رغم قلقنا وخوفنا، وبالتأكيد رغم، قلقه وخوفه، الأمر الذي من دون اتفاق لا نأتي على سيرته عندما نتحدث معه أنا وأمه عن اقتراب موعد مجيئه، ذلك أننا لا نريد أن نزيد الطين بلة، وليس هناك فائدة من أن نخيفه زيادة عن خوفه، واجبنا أن نساعده بالإيحاء له بالعكس، وبأنه لا داعي لأي خوف. رغم أن الكثيرين يقولون لي، حتى وإن ليس عليه شيء، لماذا يريد أن يأتي؟ وإذا كنتم بحاجة ماسة لرؤيته، لماذا لا تسافرون أنتم لعنده؟ أو لماذا لا يأتي لبيروت وتلتقونه هناك؟ هكذا كل الناس يفعلون. فأقوم بهزّ رأسي، وكأني قنعت بما يقولونه، أو ربما أهزّ رأسي لأني حقيقة قنعت بما يقولونه. ولكن كيف لي، بسلطتي كأب، بخوفي كأب، أن أمنع إنساناً، يريد، بعد هذه السنوات الأربع الدامية من الحنين والقلق والغربة، أن يعود ويرى وطنه.
ولكن من يدري، فما زال هناك وقت حتى بداية أيلول، وربما غصباً عني، أفعل..
(27/7/2014)
المستقبل