صفحات العالم

إله الأشياء الصغيرة، رغم الجزيرة والإخوان


نهلة الشهال

بين لافتات كثيرة تقول «قطع إيدكَ!» وتحمل رسم فتاة مصرية غاضبة تمتد يد عسكري للعبث بها، و«ناشطات عقل ودين» التي سارت في ظلها مئات ألوف النساء، معظمهن محجبات، ومعهن ألوف الرجال، يوم الجمعة الماضي في مليونية «رد الشرف» في القاهرة، الى «ارفعي راسك، انتِ أشرف مناللي داسك»، التي تميزت بها تظاهرات الاسكندرية والسويس وبور سعيد وغيرها، لم تجد قناة الجزيرة في نشرتها المسائية، الرئيسية، في ذلك اليوم، كما على موقعها الالكتروني حتى اليوم التالي (الذي يسمح بالتقاط الأنفاس وتصحيح الخطأ)، سوى العنوان التالي: «مظاهرتان مؤيدة ومعارضة للعسكري بمصر». هكذا بالتوازي، بل مع تقديم التأييد على المعارضة. والمظاهرة «الأولى» في عرف القناة التي اكتسبت عالمية وصدقية تغامر بهما، (بل تقامر، بالنظر الى السرعة التي تطبع مغامرتها)، هي تلك التي جرت في العباسية ولم يحضرها إلا آلاف، وكان شعارها «الشعب يريد سيادة المشير»! التفاصيل لم تهم الجزيرة، ولا تقريب عدسة الكاميرا وميكروفونها لالتقاط الخبر وتغطية الحدث. لم يهمها أن عشرات ألوف الشباب، فتيات وفتياناً ممن كانوا في التظاهرة «الثانية» هم من المنتمين الى الحركات الإسلامية التي امتنعت عن التظاهر، لأنها تحب النظام والانضباط وتكره الفوضى وما هو غير متوقع. وأن هؤلاء المتظاهرين شقوا عصا طاعة تنظيماتهم ـ من إخوان وسلفيين ـ وشاركوا رغم الأوامر المضادة، بل أعلن أكثرهم حماساً أنهم انشقوا وشكَّلوا «تحالف الإسلاميين الأحرار». لم يهم الجزيرة، أن عشرات الألوف من المنتمين للحركات الصوفية التي تستعيد تسييسها وتنظيمها بسرعة فائقة، قد قرروا هم أيضاً المشاركة، وأنهم ساهموا من جانبهم في تفعيل هذه الكيمياء السحرية لاستمرار تلاقي اليساريين واللبيراليين والإسلاميين، وجموع من الأقباط المشاركين في «الميدان». وهؤلاء الأقباط، هم أيضاً، شقوا عصا طاعة رؤساء كنيستهم واستعادوا المبادرة بدلاً من الانتظام السجين تحت مظلة «الطائفة» ككتلة صماء، هي بالضرورة موضع مساومة. أتوا الى هنا كمصريين أحرار، مواطنين كسواهم، وقرروا في يوم الجمعة الفائت ذاك أن يكلِّفوا أنفسهم بتأمين مداخل الميدان ساعة انشغال رفاقهم بالصلاة الجامعة.

يا إله الأشياء الصغيرة![ إله تلك الظواهر المفارِقة التي تبدو عرضية أو تافهة او ظرفية، إلا أن تجميع أوصالها، «عقد الصلة» بينها ثم روايتها، يلتقط التفاعل وما يناضل للبقاء: «البحث والتعرف على منْ وماذا، وسط الجحيم، ليس جحيماً، والعمل للإبقاء عليه ولمنحه مكاناً» كما يقول كالفينو في «المدن الخفية». فيما يقول فيلسوف العلوم باشلار «بعيداً من فكرة أن الكائن هو ما يجسد العلاقة، فإن العلاقة هي ما ينير الكائن»، فتصبح علاقات الأشياء فيما بينها هي الفاعل، بينما الكائن هو النتيجة، بعكس ما يظن الفكر التبسيطي الذي يرى ظواهر الأشياء ولا يلتقط ما هو تحت سطحها. هكذا يُكتب التاريخ الذي لا يني يحصل، وقد يُهزم مرة أو مرات، ولكنه مستمر: ليس في التاريخ نقطة نهاية، هو صراع.

يا إله الأشياء الصغيرة! كيف ترفض شابة تملأ الجروح وجهها وجسدها، معتقلة ومكبلة بحديد سريرها في المشفى بعد ضربها،استقبال المشير. وهي معيدة في كلية، وعلاوة على الترحيل الى مستشفى أشد وطأة لعقابها على «وقاحتها»، فقد تفقد وظيفتها. حين رفضت موظفة مصافحة ساركوزي، في بلد القوانين وليس الاعتباط، قامت الدنيا ولم تقعد لشجاعتها. كيف يُقتل شيخ أزهري في الميدان، جنباً الى جنب مع سائر رفاقه الآتين من آفاق سياسية وفكرية شتى، فيتولى زميله الخطبة في الجموع وتأكيد الاستمرار، بينما مشايخ آخرون يبررون للعسكري حسن إدارته.

الديموقراطية هي الاختلاف، هكذا تعريفاً. وكذلك هي الحياة البشرية، والعِلم، بل الكون وظواهر الطبيعة، حيث التناقض سيد الموقف وليس الانسجام. و«النظام»، كل نظام وانضباط محكمان مطلقان، هو صنو العنف، مولدته وحاضنته. هكذا تعريفاً. بينما يقول حزب الحرية والعدالة، ببلادة مضجرة، إنهم لم يشاركوا في تظاهرة حرائر مصر «لوجود شق في الصف المصري، فهناك مظاهرات في التحرير وأخرى في العباسية» (عزت مصطفى، عضو الهيئة العليا للحرية والعدالة يوم 23ـ12)، وإنهم مع «الهدوء والاستقرار والانتقال الآمن». ويخشى طارق الزمر، ممثل «الجماعة الإسلامية»، الفوضى (يا للطريق الطويل الذي قطعه الرجل!)، فيما يُسري حماد من «النور» السلفي (الذي اشتهر لمقابلته إذاعة الجيش الاسرائيلي منذ أيام)، يخشى اندساس البلطجية… لعلهم نسوا، في زحمة شهيتهم للسلطة، أنها تلك تحديداً هي التهم التي كالها سادة قريش للنبي محمد ودعوته، من أنه يبذر الشقاق ويلقي بالاضطراب على النظام القائم. ولو استجاب لهذه التحذيرات التي كان عمه نفسه، ووالد علي، (وهو رغم ذلك حاميه)، يرددها على مسامعه (للقول بحسن نوايا بعضهم اليوم!)، لما قامت الدعوة الإسلامية التي غيرت وجه التاريخ البشري برمته.

ليس الهدوء والانسجام والنظام، أياً كان وفي كل مكان، هي المعايير بل الإجابة على سؤال «من أجل ماذا نقاتل؟»: هل الأمر هو استبدال رأس مبارك برأس آخر، حتى لو لم يأت بالتوريث أو بالانقلاب، بل بواسطة الانتخابات؟ هل يلخص ذلك آمال الثورة التي قامت في 25 يناير الفائت؟ هل يمكن للزخم الثوري الناشئ أن يحمل مصر على التقدم، ولو خطوة الى الأمام، في تحقيق التحرر الاجتماعي والسياسي؟ ما تعريفهما ومضمونهما؟ لماذا يرفض الإخوان المسلمون، وهم بالتأكيد أكبر تنظيمات مصر، الدخول في نقاش حول تلك، بينما مشكلات البلد هي من الضخامة بحيث تتطلب تفاهمات وطنية، و/أو صراعاً واضحاً وبنَّاءً حول نقاط الاختلاف؟ هل يضير في شيء تحرك عشرات ألوف الشباب للمطالبة بما يرونه علامة على هذا الطريق، عوض الإصرار على إزاحتهم من المشهد حفاظاً على الانسجام خلف سياق للواقع متشكل من خطوات «مدروسة ومقررة ومتماسكة»؟ هل العنف المريع ذاك الممارس عليهم بلا نتائج على السياق نفسه؟ من قال إن الضغط على المجلس العسكري بل ومقاومته هي فوضى؟

وأما الجزيرة، فلم تكتف بفضيحة «مظاهرتان مؤيدة ومعارضة». ففي اليوم نفسه الذي شهد الحدثان الكبيران، عنونت تفجير دمشق كالتالي: «المعارضة تتهم النظام بتفجيري دمشق»، وتهكمت في نشرتها على رواية «القاعدة» كمسؤولة عن التفجير بزعم النظام السوري، وألبست هذا الأخير التهمة بلا رجاء ولا مثقال ذرة من التردد، متبنية «المجلس السوري» وما يقوله ككلام منزَل. وفي الأيام التي تلت، تجندت الجزيرة لإيصال رسالة مفادها أنه لا طائل من زيارة وفد المراقبين العرب واستطلاعاته، وحاججت في ذلك كل من استقبلتهم، بما يتعدى الرأي الى القناعة الأيديولوجية المناضلة.

ولا شك أن الصحافيين في الجزيرة، من معدي الأخبار ومقدميها، يتلوون وجعاً على تجاوزهم، الذي يزداد بدائية كل يوم، لما تعلموه في مدارس الصحافة العالمية، حيث درسوا أو تدربوا، ومنها الجزيرة نفسها.

([) عنوان رائعة الكاتبة الهندية أرونداتي روي

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى