صفحات الرأي

الاستبداد في ظلّ نظام الحزب الواحد


( الحالة السورية)

سربست نبي()

تقود الحركات “التكتونية” السريعة التي شهدتها وتشهدها المنطقة إلى نشوء نظم سياسية جديدة في الشرق الأوسط، واندثار أخرى حكمت باسم الحاكم الأوحد، الأب الواحد الذي لا شريك له. ويصاحب ذلك انزياح عن حقل الأيديولوجيات التي هيمنت باسم الحزب الواحد، والعرق الواحد، والشرعية الوحيدة، التي أفرزت أشدّ أشكال الولاء انحطاطاً.

ففي ظل هذه النظم البالية استأثرت طغمة في ذاتها القرار السياسي والاجتماعي واحتكرتهما. ومن هذا المنطلق استبدت بإرادة الأغلبية بعد أن استعارت لسان الأمة وصارت ناطقة باسمها، وزعمت أنها تتحدث باسم العموم ومصالحه. ويلاحظ أن هذا الادعاء بتمثيل مصالح العموم والتشدق بالشرعية كانا يشتدان ويتناميان بازدياد قمع هذه النظم لمجتمعاتها وتصاعد بطشها.

الأطروحة الشهيرة التي هيمنت على النظم السياسية في العالم العربي ودول العالم الثالث، ومنظومة الدول الاشتراكية في القرن العشرين على اختلاف أنماطها، كانت تقول: إن المصلحة الوطنية الحقيقية وسلامة النظام سياسياً واجتماعياً، تكمن في التماه بين الدولة والمجتمع وحزب وحيد يمنح نفسه احتكار الشرعية السياسية والقانونية، وينطق باسم المجتمع وشرعيته، بعد أن استعار صوته ولغته. وقد شخص عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون خمسة عناصر رئيسة مشتركة بين هذه الأنظمة:

1- احتكار النشاط السياسي ليقتصر على حزب واحد.

2- تحرك ذلك الحزب بفعل أيديولوجية تغدو الحقيقة الرسمية للدولة.

3- تمنح الدولة نفسها احتكار وسائل القوة والإقناع.

4- معظم النشاطات الاقتصادية والمهنية مندمجة بالدولة وخاضعة للحقيقة الرسمية.

5- الخطيئة الاقتصادية أو المهنية تغدو خطيئة أيديولوجية، وعليه فينبغي أن تعاقب بإرهاب أيديولوجي وبوليسي في آن معاً.

وواقع الحال أن هذه النظم عمدت انطلاقا من هذه القناعة الأيديولوجية إلى تقويض الحياة السياسية الحزبية داخلياً. وقلًصت الحراك الاجتماعي المدني إلى أدنى حدّ له، وحالت دون نشوء فاعلين سياسيين، وقضت على كل أشكال المشاركة أو المساهمة السياسية.

وهذا التماهي أو الدمج بين البنى الثلاث أطاح بالشرط السياسي والقانوني لردع السلطة ومقاومة عسفها. فصار من المتعذر تصحيح عيوبها ونواقصها، وتعويض مثالبها، ومهدت بذلك لشرعنة أخطائها التي تراكمت حتى غدت بنظرها إنجازات وطنية وملاحم. وليس من المنطقي والمعقول، بعد كل هذه العقود، أن تستمر هذه القناعة مهيمنة على حياة السوريين، إذ لابدّ من رفضها بحزم ومن دون هوادة، لأنها شكلت وتشكل الأساس الرئيس لبقاء التسلط والاستبداد. إن احتكار السلطة، على هذا النحو، مثّل الجذر الحقيقي لكل ركود اجتماعي وفساد سياسي واقتصادي عرفته سوريا طوال عقود.

الشعب السوري إذ يبرهن اليوم علانية، بصورة عملية وعلى نطاق واسع، تأييده الحاسم للتحول الديمقراطي، وإسقاط نظام الاستبداد البعثي بالطرق السلمية. وينشد حكومة مدنية ديموقراطية تعددية، تمثل الطيف الاجتماعي والسياسي السوري كله على نحو عادل، فإن هذا التأييد لا ينبثق فقط من قناعة السوريين أن النظام يمثّل شرّاً وفساداً فحسب، فهذا من مبدأه وطبيعته أصلاً، إنما أكثر من ذلك لأن هذا النظام ببنيته الشمولية صار نافلاً ومضاداً للتاريخ ولمستقبل السوريين جميعاً، بحيث استحال التعايش معه، وعاد تفكيك هذه البنية والتخلص منها ضرورة تاريخية وأكبر تحدٍّ مباشر أمام السوريين جميعاً.

لقد صادرت هذه النظم أسس المشاركة السياسية الحرة. وقضت على كلّ إمكانية للتداول السلمي للسلطة، وكبحت كل مساهمة فردية أو جماعية للمواطنين. وبالمقابل فرضت بالقوة نمطاً معيناً من الوعي السياسي والأيديولوجي على المواطنين وسلبت عنهم حرية التفكير والتعبير، وأنهكت المجتمعات بشعاراتها الأيديولوجية، انطلاقاً من عدم ثقتها بوعي هؤلاء. ونجم عن ذلك وهن في الشعور بالمواطنة وهشاشة في الانتماء، أفضت في النهاية إلى تدمير روح الاجتماع المدني والإنساني، وعمقت من تفكك المجتمع، وأتلفت كل فضاء تواصلي، وعززت النزوع الارتدادي إلى انتماءات عصبوية متخلفة، وأسست بالتالي، على مستوى الوعي، مقدمات التناحر الفئوي في المجتمع الذي تحول إلى جمهرة سلبية، قلقة وعدمية، محتقنة ومفككة، يسودها الشك والكراهية.

هذه هي سمات الحالة السورية إلى حدّ كبير، التي استمرت، ولا تزال، منذ نصف قرن على هذا النحو. وبسبب من ذلك لم تتحول السلطة في سوريا إلى سلطة دولة مواطنين بالفعل، إنما في أحسن حال غدت سلطة بطش منظمة.

المعضلة الرئيسة أمام السوريين الآن، التي تشكل تحدياً تاريخياً وسياسياً لهم، في مرحلة التغيير، تكمن في كيفية التحول إلى سلطة دولة مدنية- حديثة، تستند إلى مبدأ المساواة السياسية بين مواطنيها. وهذا التحول يشترط قبل كل شيء الفصل السياسي والاجتماعي للدولة عن الجماعة العرقية وإلغاء وصاية الحزب (الواحد الأحد) وهيمنته على الجهاز الأيديولوجي والإداري للدولة.

إن تحرر الدولة سياسياً من الأيديولوجيات العرقية والدينية، هو في الوقت نفسه مقدمة ضرورية لتحديث الدولة والمجتمع المدني. فقد أسس دستور عام (1964) لهيمنة الحزب الواحد على الدولة والمجتمع، وبموجب المادة الثامنة من الدستور الحالي صارا أسيرينِ للحزب الذي تحوّل إلى غول سياسي وأيديولوجي اختزل كل الولاء الوطني في نفسه وفي شعاراته، وتحوّل هو بدوره إلى عتبة لتأبيد القائد المستبد. ومن الدلالات السياسية والرمزية لتغييب الدولة الوطنية والانتماء إليها في هذه الحقبة، شيوع مفهوم “دولة البعث” في خطاب الإعلام الرسمي وطغيان نشيد البعث وعلمه، وتغييب النشيد والعلم الوطنيين.

لعلَّ طابع السلطة في سوريا هو نتاج التاريخ الذي مرّت به، ولا يمكن فهم هذا الطابع إلا في ضوء هذا التاريخ. فهذه السلطة رغم أنها مثلت جهازاً سياسياً منظماً ومؤسسات حاكمة، إلا أنها فشلت في أن تكون سلطة مواطنين أحرار، وعجزت عن أن تجسد تمثيلاً سياسياً حقيقياً للسوريين طوال ذلك التاريخ.

فمنذ انقلاب آذار 1963احتكر البعث وأيديولوجيته القومية الحياة السياسية في البلاد وقسرت المجتمع على التطبع بشعاراته “الثورية” وعلى السير طبقاً لمصادراته الأيديولوجية ومقاصده، وقد انعكس ذلك على مجمل مناح الحياة العملية والنظرية. إذ قدّ الدستور السوري الحالي على مقاس دستور حزب البعث، بل يمكن عدّه مجرد حواشٍ على متنه الأيديولوجي. وتميّز بهيمنة الأيديولوجيا القومية العنصرية عليه، والتي تؤكد سيادة عنصر قومي دون غيره، وربط المواطنة السورية واختزالها في مطالب الأيديولوجية العروبية. ففي مقدمة الدستور التي تعدّ جزءاً لا يتجزأ منه، يلاحظ استخدام كلمة (عربي) و(عربية) أكثر من ثلاثين مرة، ويعزز هذا المنحى القومي المنطلقين(1-2) ثم تترى المواد والفقرات التي تؤكد ما سبق. في الفقرة (1) من المادة الأولى تحدد اسم الدولة بـ(الجمهورية العربية السورية) وفي الفقرة (2) منها (القطر العربي السوري هو جزء من الأمة العربية) وعلى كل فرد سوري جدير بالمواطنة أن يلتزم العمل من أجل وحدة الأمة الشاملة، فـ(المواطنون في الجمهورية العربية السورية هم فقط العاملون من أجل الوحدة العربية الشاملة). وفي المادة (4) (اللغة العربية هي اللغة الرسمية)، حيث تمّ تجاهل وجود أي لغات قومية أخرى في البلاد وإنكارها. وتُلزم جميع المواد التالية (116-96-90-63-7): رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء والوزراء ونوابهم، وأعضاء مجلس الشعب، عبر القسم الدستوري بالعمل على تحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية. كذلك الأمر مع المادة (11) الخاصة بمسؤوليات القوات المسلحة. وفي الاقتصاد والتخطيط الاقتصادي المادة (13)، كما في التعليم والثقافة طبقاً للمادة (21) حيث ورد: يهدف نظام التعليم والثقافة إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي، علمي التفكير، مرتبط بتاريخه، معتز بتراثه، مشبع بروح النضال من أجل تحقيق أهداف أمته في الوحدة والحرية والاشتراكية. والمادة (23): الثقافة القومية الاشتراكية أساس بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد، وهي تهدف إلى تحقيق القيم الأخلاقية والمثل العليا للأمة العربية. وحتى في النطاق القضائي بينما كانت الأحكام تصدر فيما مضى باسم (الشعب السوري) صارت بموجب المادة (132) من الدستور الحالي تصدر باسم “الشعب العربي في سوريا”. وماذا بعد كل هذه الـ “بعثنة” العروبية للبلاد، التي استعانت بكل تقنيات احتكار السلطة من النازية واستلهمت ممارساتها الأيديولوجية وخبراتها البيروقراطية!

الواقع أن هذه السلطة سوّغت لنفسها، على الدوام، بداعي تمثيل المصلحة العامة والعليا، انتهاك القانون والدستور الذي وضعته بنفسها، وبررت الوسائل المستخدمة لذلك، حيث تفننت في تقنيات اغتصاب السلطة وتوسعت في مداها. ومن خلال ذلك لم تعتد إلا بالحفاظ على استمرارها كغاية قصوى. فاستحالت العروبة في ممارساتها وفكرها إلى نزعة عدوانية إقصائية، وقومية متعصبة. وانحدرت اشتراكيتها إلى شكل وقح وفجّ للابتزاز والنهب. وجعلت “حريتها” المعلنة المواطن السوري مجرد مستهلك للشعارات الأيديولوجية الشمولية والسيئة الإعداد.

لقد استباحت سلطة الاستبداد، طوال عقود طويلة من الزمن، الحدود المرسومة لها، وتمادت إلى أقصى حدّ في الإساءة إلى حرية المواطن وكرامته، فلم تكترث لأي قواعد دستورية أو معايير إنسانية رادعة، ولم تخضع لأيّ حساب. من هنا حوّلت الإنسان- المواطن، الذي يجب أن تكون كرامته وأمنه غاية بحدّ ذاتها، إلى مجرد أدوات حيّة لممارسة عسفها. وسعت من دون هوادة إلى جعل السوري يركع لها ويجثو على ركبتيه مطأطَأ الرأس، وسلبت منه كل خيارات الحرية، فحولت البلاد بذلك إلى سجن كبير، وجعلت من العباد أسرى فيه. فلم يكن المواطن يتمتع بأدنى حدّ من الحرية أو أيّ حقوق أخرى، ولم يكن له أيّ خيار بالاعتراض على التجاوزات القمعية للسلطة. إن مكانة الإنسان المعنوية وسموّه يفرضان على أيّ نظام سياسي أن يصون كرامته وحريته، ولا يجوز لأي سلطة أن تتعرض لهما بأي حالٍ من الأحوال. وهذا المبدأ كان محالاً في سوريا البعث لانتفاء الشروط السياسية التي تمكن الأفراد من تحديد القواعد التي يجب أن يرتكز عليها نظام الحكم، وغياب دور المحكومين في ضبط السياسات العامة للسلطة الحاكمة وتحديدها، وإقصاء المواطنين عن المساهمة السياسية وعن ممارسة السلطة. فضلاً عن غياب الفصل والتمييز بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، هذا الفصل الذي تقتضيه بنية الدولة الحديثة.

للوهلة الأولى يبدو الدستور السوري وكأنه يتكئ على مبدأ فصل السلطات، مثلما هو معلن في الباب الثاني من الدستور. من دون هذا الإعلان الأولي فإن جميع النصوص الأخرى تنفي هذه الإمكانية، بل على العكس فهي تعزز اختزالها في السلطة التنفيذية ودمجها فيها. فالسلطة التنفيذية، ممثلة برئيس الجمهورية، تهيمن بصورة فعلية على الآخريين وتحتكر في نفسها جميع صلاحياتها. ومجرد الإقرار في المادة(8) بوجود سلطة عليا تعلو جميع السلطات الأخرى، هي سلطة الحزب القائد في الدولة والمجتمع، هو كاف لنفي أيّ أهمية أو دور للسلطات الأخرى.

يمنح الدستور السوري صلاحيات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية، الذي ترشحه القيادة القطرية، وليس لأحد أو أي مؤسسة تشريعية أن تعترض على هذا الترشيح. وتسوّغ مقدمة الدستور وتكرّس هذه الصلاحيات أو السلطة بشرعية ثورية مطلقة اختزلها في حزب البعث. فهو (الذي فجّر ثورة الثامن من آذار1963، وهو الذي يمثل إرادة الأمة وتطلعاتها نحو المستقبل، وكون مسيرته النضالية جاءت بالحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني 1970….الخ) بهذه المكانة يمنح الأمين العام، قائد الثورة كل هذه السيادة والإرادة المطلقة، أو المكانة شبه المقدسة، على المجتمع والدولة، من هذه الصلاحيات: حلّ مجلس الشعب، المادة (107)، إعداد مشاريع القوانين وإحالتها لمجلس الشعب، المادة (110). يعترض على القوانين التي يقرّها مجلس الشعب، المادة (98)، يتولى سلطة التشريع في كل الأحوال، ويلغي أيّ تعديل للدستور يقرّه مجلس الشعب بأكثرية ثلاثة أرباعه، ما لم يوافق عليه. المادة (111) الفقرات (1/2/4)، المادة (149).

فضلاً عما سبق، لرئيس الجمهورية، بموجب الدستور، صلاحيات قضائية تتعدى كل حدّ. فهو يترأس مجلس القضاء الأعلى، ويسمي أعضاء المحكمة الدستورية العليا، المادة (139). ويقترح تعديل الدستور، ويلغي المهام الدستورية لمؤسسات الدولة في بعض الأحوال، المادة(113). وله صلاحيات عزل وتعيين الوزراء، المادة(95). والموظفين المدنيين والعسكريين، المادة (109). وبالمثل، له صلاحيات عسكرية وأمنية لا حدود لها، انظر المواد (100) (101) (103).

كما أن مصادرة دور السلطة التشريعية تتجسد بصورة عملية في المادة (53) التي تؤكد على ضرورة أن يكون نصف أعضاء مجلس الشعب من العمال والفلاحين. ولأن الدستور يقرّ بأن حزب البعث، وأحزاب “جبهته” الوطنية، هو الممثل الشرعي الوحيد للعمال والفلاحين، فإنه بذلك يضمن استمرار هيمنته على المجلس من خلال قوائم جاهزة، معدة بصورة مسبقة، وينفي كل إمكانية واقعية للتنافس الانتخابي الحرّ والنزيه. وهذا الأسلوب في ضمان الهيمنة والتسلط ينسحب في الوقت نفسه على انتخابات الإدارة المحلية ومجالس البلديات، والنقابات المهنية والجمعيات، التي يلزمها الدستور بموجب المادة (49) بالمشاركة في تحقيق “المجتمع العربي الاشتراكي” وحماية نظامه. ما قاد بالنتيجة إلى تقويض كل إمكانية أو شرط لنشوء قوى مدنية فاعلة وتطور مجتمع مدني حيوي قادر على السجال مع الدولة ومقاومة عسف السلطة وتماديها. وشكل ذلك عقبة تاريخية لاستمرار اغتصاب السلطة السياسية حتى وقتنا الراهن.

وخلال نصف قرن، تقريباً، فرض الاستبداد البعثي، دستورياً، نظاماً للامتيازات بديلاً عن مساواة المواطنين جميعاً، وكرّس تقسيماً قوامه درجة الولاء السياسي للحاكم- القائد، للأيديولوجية، للحزب الأوحد على حساب الولاء للوطن. وتمّ تصنيف المواطنين وحقوقهم بموجب ذلك. وبالمقابل جعل العيش مستحيلاً على المختلفين معه، الذين عدّوا مشبوهين ومارقين وخطرين على الانسجام الوطني. وألغى عملياً كل تعددية في الحياة السياسية بموجب المادة (8) من الدستور التي تنصّ على أن (حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية)، وبدورها صادقت أحزاب الجبهة وأقرّت في ميثاقها الأساسي (7-3-1972) بأن منهاج حزب البعث ومقررات مؤتمراته موجّه أساسي للجبهة في رسم سياساتها العامة وتنفيذ خططها، فضلاً عن اعترافها بقيادة حزب البعث للجبهة والهيمنة عليها بأكثرية النصف+1. على هذا النحو استسلمت بصورة مفرطة للبعث وتماهت مع سياساته.

أصبحت الطاعة العمياء عقيدة الحكم ومحكّ المواطنة الصالحة لدى سلطة الاستبداد، وعُرّفت هذه الطاعة (الخنوع) بدلالة الحرية المسؤولة. وكانت هذه هي الحرية القصوى والممكنة، التي يستطيع أن يتطلع إليها المواطن السوري. وبالمثل مجّد الأمن والسلام الداخليينِ، ذلك السلام الذي عنى سلام المقابر والموتى( كما وصف هوبز). وكرّست وحدة قوامها الإكراه والخضوع. وكي يثبت ولاءه وجدارته الوطنية، في ظل نظام كهذا، لم يكن أمام الفرد- المواطن سوى التنازل عن وعيه وضميره للحزب الحاكم وقائده الأوحد، وعن كرامته للأجهزة الأمنية. على هذا النحو اقترن مفهوم الأمن والاستقرار في خطاب النظام وممارساته بكبت جميع أشكال الحريات طوال عقود طويلة.

كان الشعب السوري برمته مشبوهاً في نظر السلطة ما لم يثبت العكس، عبر تأكيد ولائه المطلق للنظام بشتى السبل والممارسات. فكان عليه أن يهتف في كرنفالات تمجيد النظام بشعاراته، ويتحرك وفق إرادته حتى يغدو في حالة امِّحاء تامّ معه. لقد أراد النظام عبر جملة ممارسات تعبوية كهذه فرض وعيٍ سياسي موالٍ مشترك على المجتمع، ما أثار الكراهية والحنق نحوه.

في مثل هذه الحال كان السكوت وعدم معارضة النظام لا يجدي نفعاً ولا يحظى بالرضا التام للسلطة التي كانت تريد أن تقوّل المواطن ما تريد هي قوله. وعلّة هذا الأمر أن الشعب كان مشبوهاً بنظر النظام، لا بـ مقتضى أفعاله وأعماله، وإنما بموجب نواياه المضمرة والمفترضة. ولهذا السبب أيضاً كان يشعر على الدوام أن هناك ما يهدد أسسه، واتسمت ممارساته نحو المجتمع ومواطنيه، بموازاة ذلك، بالقسوة والارتياب.

الديمقراطية، إذن، لا تعني اليوم إزالة العوائق المادية والمعنوية أمام الأفراد وتحريرهم من القيود فقط، وإنما تعدّهم أيضاً ليكونوا صانعي تاريخهم، فاعلين ومساهمين في تقرير خياراتهم السياسية وإبداعها. والحال أنه ليس ثمة ديموقراطية من دون حرية الاختيار، ومن دون تعددية سياسية تنافسية، ومن دون انفتاح وتواصل سياسيّ حرّ بين المختلفين. فتنبع الصفة التمثيلية للديموقراطية من هذا الواقع، واقع التعددية والتنوع في الرؤى السياسية والأفكار والمصالح وتنازعها. فلا يمكن تخيل الحاجة إلى ديموقراطية بوجود مجتمع متجانس ومتماه مع نفسه، من دون تمايز أو اختلاف. وعليه فأن هذه الصفة التمثيلية تعكس اختلاف الذوات السياسية الفاعلة وتنوع العلاقات الاجتماعية التي تؤسس لأدوارهم. وبناء عليه نستنتج أن السلطة المنتخبة، ذات الصفة التمثيلية، لن تكون ديموقراطية حتى ولو استحوذت على أغلبية الأصوات، مالم تكن تعددية في الوقت نفسه. ولا تعدو صفتها التمثيلية تلك أن تكون إلا شكلية ومجردة، ما لم تستغرق في ذاتها طيفاً واسعاً ومتنوعاً من الآراء والاتجاهات السياسية القائمة والمصالح الفعلية للبشر.

إن من شأن الكوابيس الأيديولوجية، التي تنجم عن تماهي المجتمع والدولة مع أيديولوجية حزب حاكم، أن تضعف الشعور بالمواطنة لدى الأفراد وتخنق لديهم كل ابتكار أو تنوع خصب في الرؤى، وتقيّد روح المبادرة. فالمجتمع الديموقراطي الحديث في أبرز تعريف له، هو المجتمع الذي يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن وتنوع في الآراء مع أوسع استخدام ممكن للعقل، مع ضمان أكبر قدر ممكن من الاحترام للتطلعات الفردية والجماعية، من دون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف أو القهر أو الإقصاء..

() كاتب كردي سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى