مفهوم “العلوية السياسية” مجموعة مقالات
أين المشكلة في مفهوم «العلوية السياسية»؟/ ياسين الحاج صالح
يستخدم الدكتور صادق جلال العظم مفهوم «العلوية السياسية» كتشخيص لبنية النظام الأسدي أو لوجه أساسي منها، ويؤسس على المفهوم تصوراً للتغيير في سورية يتمثل في طي صفحة «العلوية السياسية» على نحو ما طويت صفحة «المارونية السياسية» في لبنان في اتفاق الطائف عام 1989. هذه المقالة مساهمة في نقد مفهوم «العلوية السياسية»، وإن كانت لا تشارك في نقد متواتر للمفهوم، موجه نحو حجب طائفية النظام أو إنكارها.
كان زياد ماجد في مقالة نشرت في «الحياة» (30 نيسان – أبريل 2014) أظهر أن قياس العلوية السياسية على المارونية السياسية مجادَل فيه على الأقل. المارونية السياسية، يقول زياد، «تأسّست خلال الانتداب الفرنسي»، و «أتاحت بروزَها تحوّلاتٌ اقتصادية واجتماعية بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مطوّرة العلاقة بين جبل لبنان وبيروت، بالترافق مع انتشار التعليم وتعاظم أثر الإرساليّات الدينية ومؤسساتها». وإن لم يكن الموارنة أكبر الجماعات الأهلية اللبنانية بين تأسيس لبنان الكبير وأواخر ستينات القرن العشرين فهم ليسوا أقلية بينها. وأضيف أن لبنان الكبير تأسس على موقع ممتاز للموارنة الذين كانوا في الأصل جماعة صاعدة هي الأكثر تماسكاً في لبنان والأكثر وعياً بتميزها (ومعهم الدروز، الأقل عدداً). كان الموارنة أكثر تشكلاً من لبنان الذي تأسس أصلاً حول مكانة خاصة للمسيحيين فيه، ومكانة قائدة للموارنة بين المسيحيين. فعدا وجود إكليروس منظم مرتبط بروما منذ قرون، ومعرفته بأوروبا والعالم الحديث معرفة مميزة عما حوله، هناك مؤسسات تعليمية دنيوية متطورة، وهناك مستوى اقتصادي وثقافي أعلى من المتوسط اللبناني. وبفعل ذلك، قد يمكن التكلم بلغة ياسين الحافظ على «قوم» ماروني، جماعة بشرية متميزة وواعية سياسياً، تتطلع إلى الاستقلال عن محيطها أو الانفصال عنه، أو قيادته على الأقل. وفي تاريخ تشكل القوم الماورني صعود اجتماعي وسكاني وتعليمي في القرن التاسع عشر، وفيه نظام القائمقاميتين الخاص بجبل لبنان، وقد عاش نحو نصف قرن.
كان بناء لبنان الكبير على يد الفرنسيين بدا لنخب القوم الماروني مكسباً توسعياً وحلاً ممكناً للمجاعة التي عانى منها جبل لبنان أثناء الحرب العالمية الأولى، لكن هذا الحل حمل في ثناياه تراجع وزن الموارنة في الكيان اللبناني بعد نصف قرن. والتشكل الأكثر تطوراً للمورانة قبل تأسيس لبنان يسوغ الكلام على مارونية سياسية. هناك ذاتية مارونية سابقة على الكيان اللبناني المعاصر، وطبعت هذا الكيان بطابعها بين نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب اللبنانية قبل أن تتدهور في غمار هذه الأخيرة.
الأمر مختلف بخصوص سورية وموقع العلويين فيها وفي النظام السياسي. يفترض مفهوم العلوية السياسية ذاتاً علوية سابقة للسياسة، جماعة موحدة أو نزاعة نحو التوحد السياسي، النظام الأسدي هو نظامها، أو متشكل على هذا النحو بفعل هذه الذاتية السياسية. رأيي أن العكس أصح، وأن تشكل العلويين كطائفة تالٍ للسلطة وليس سابقاً عليها. قبل الحكم الأسدي كان معظم العلويين في سورية فقراء، مستواهم التعليمي غير مميز عن غيرهم، وليس لديهم جهاز ديني منظم، والتفاعلات الداخلية بين العلويين بالذات محدودة، وتفاعلاتهم بالعالم حولهم إن لم تكن أدنى من غيرهم، فهي لا تميزهم عن غيرهم.
وقبل الحكم الأسدي كان هناك كيان سوري، حياته السياسية مضطربة، ولا تكف نخبه عن تخيله جزءاً من شيء أكبر منه بقليل أو كثير. لكنه كيان قائم عمره أزيد من نصف قرن وقتذاك، وأكثر تشكلاً من أي جماعة سورية جزئية.
سوغ حافظ الأسد استيلاءه على السلطة عام 1970 بأيديولوجية قومية عربية، كانت سابقة عليه، تكثر إحالاتها إلى الاشتراكية والتقدم ومناهضة الإمبريالية. وكان لهذه الإحالات وللسجل الواقعي الذي كانت تستند إليه في ستينات القرن العشرين والسنوات الأولى من سبعيناته دور حاسم في تكون أكثرية سورية عابرة الطوائف، وحتى الإثنيات. بارتباطها مع الاشتراكية والتحرر الوطني وعدم الانحياز وما إلى ذلك. لم تكن العروبة مجرد رابط إثني أو أيديولوجية هوية كحالها اليوم، بل أيديولوجية عمل تحررية يعتنقها ويواليها حتى بعض من هم غير عرب إثنياً.
وبفعل هيمنة القومية العربية والأكثرية الاجتماعية المتكونة حولها لم يواجه حكم حافظ الأسد باعتراضات تحيل إلى منبته الأهلي. بالعكس، جرى الترحيب به كمحرر.
أخذت هذه الأكثرية تتفكك بسرعة بدءاً من النصف الثاني من السبعينات بفعل مجموعة عوامل، أبرزها توقف التحولات الاجتماعية لمصلحة فقراء المدن والأرياف، وظهور طبقة من المليونيرات الجدد في كنف الحكم الجديد منذ سنواته الأولى، وضيق النظام السياسي الذي استقر منذ 1973 على شكله الحالي: حالة استثناء ناسخة لحكم القانون، وحظيرة للأحزاب الداجنة اسمها «الجبهة الوطنية التقدمية»، وحاكمية مخابراتية يحظى مديروها بحصانة كلية، ثم التدخل السوري في لبنان ضد منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وترجم هذا التفكك نفسه في صراع اجتماعي وسياسي حاد تفجر على نحو عنيف في أواخر السبعينات، وهو لا يقبل التقليص إلى صراع طائفي، وإن يكن هذا وجهاً بارزاً له.
كان ظاهراً منذ وقت مبكر أن حافظ الذي استولى على السلطة بسهولة كبيرة يعرف أن الأهم من الوصول إلى السلطة هو الحفاظ عليها، وخلافاً لرفاقه في قيادة انقلاب شباط (فبراير) 1966 كان مدركا أن مواطن السلطة الفعلية هي الجيش والمخابرات (وليس حزب البعث و «الجماهير الشعبية» غير المنظمة)، وولى على أجهزة المخابرات التي توسع فيها موثوقيه من الأقارب ورعى أن تكون نسبة عالية من عناصرها من المنبت العلوي (نحو 12 في المئة من السكان)، وأسس أيضاً أو توسع في تشكيلات عسكرية ذات وظيفة أمنية مثل سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والحرس الجمهوري، لها التكوين نفسه، وولى عليها أيضاً أهل ثقته. هذا ما سهل تماهي العلويين به وبنظامه، وطور في أوساطهم شعوراً بالتميز والذاتية. التشكل العلوي هنا مر بالسلطة العمومية والموقع الامتيازي في أجهزتها الأساسية، أجهزة القوة التي يعتمد عليها النظام في دوامه وإعادة إنتاجه.
وما أريد قوله هو أنه في البداية كانت السلطة، وما يقترن بها من سيطرة وامتيازات وأفضليات. لا يلزم أن حافظ الأسد كان طائفياً أصلاً وطوال الوقت، أو كان يضمر مشروعاً لحكم طائفي. من أجل الحفاظ على السلطة ميز الرجل لمصلحة موثوقيه الأهليين في أجهزة نظامه الارتكازية، أي مارس ممارسات طائفية، فطوّر نظاماً طائفياً. فمثلما أن من يدخن مدخن ومن يقتل قاتل، فإن الطائفي هو من يمارس ممارسات طائفية، ويميز تمييزاً طائفياً. الطائفية مسألة ممارسات وأفعال، وليست مسألة نيات وماهيات.
فهل يمكن التكلم اليوم، بعد 45 عاماً من توارث الحكم في السلالة الأسدية ومن حربين اجتماعيتين، كبيرة وأكبر، على علوية سياسية أو على قوم علوي؟ هل هناك إرادة سياسية علوية ومشروع سياسي علوي؟ هناك ولاء من أكثرية علوية كبيرة للنظام اليوم، ومنذ وقت مبكر من الثورة، وقبل الثورة طبعاً. لكن، لا يبدو لي أن هذا الولاء تعبير عن إرادة سياسية علوية جامعة، بل عن افتقار إلى هذه الإرادة المستقلة وعن ضعف التشكل العلوي. الإرادة والذاتية تمكن نسبتهما إلى أسرة وطغمة حكم و «دولة باطنة»، وليس للعلويين الذين يخشون أن يعيدهم سقوط النظام إلى الفقر وانعدام الشأن. العلويون في مأزق تاريخي، محصورين بين هذه الخشية وبين نظام أسرة وطغمة لا تحترمهم، تستخدمهم أداة حكم فحسب.
على أن نقد مفهوم العلوية السياسية يخطئ غرضه تماماً حين يستخدم للتكتم على طائفية النظام أو إسدال ستار من الصمت عليها، كما هو شائع. ينطلق النقد المسطر هنا من أن الطائفية ليست خاصية لطائفة أو جماعة أهلية أياً تكن، بل هي خاصية «نظام»، شكل بعينه من أشكال إنتاج السلطة وتوزيعها وممارستها. الكلام على نظام طائفي هو كلام على نظام، وليس على طائفة، ويكون النظام طائفياً إن كان قائماً على التمييز، أياً يكن منبت نخبة الحكم. نضع أنفسنا في موقع غير منيع من وجهة نظر السياسة العملية، وليس من وجهة نظر التحليل فقط، حين لا نستخلص من حقيقة أن الطائفية هي التمييز وفق المنابت الأهلية أن النظام الأسدي طائفي، وليس فقط حين ننطلق من مفهوم العلوية السياسة. ما نجازف به في الحالين هو أن نربط الطائفية بالجماعات الأهلية، بعضها أو كلها، وليس بالدولة والسياسة العمومية، فنخفق في تطوير سياسات عامة مضادة للتمييز الطائفي.
مفهوم العلوية السياسة يجعل النتيجة، تقدم تطييف العلويين، والجماعات الأهلية عموماً، سبب مشكلاتنا الوطنية اليوم، بينما سيكون السبب، النظام الطائفي، نتيجة. وهو ما يتوافق على المستوى السياسي العملي مع التخلص من النتيجة، الموقع الامتيازي لعلويين في السلطة الفعلية، من دون محاربة التمييز نفسه، وربما مع قيام تمييز مضاد.
* كاتب سوري
الحياة
“المظلومية السنية” في سورية/ سلامة كيلة
بعد أربع سنوات من الثورة في سورية، أصبح الأمر يتعلق بـ “مظلومية سنية”، وليس بثورة ضد نظام استبدادي مافيوي، حيث بات الأمر يتعلق بـ “حق طبيعي” لـ “الأكثرية السنية” أن تكون الحاكمة، لكن “الأقلية العلوية” استأثرت بالسلطة. هذا منظور أستاذ كبير، هو صادق جلال العظم، لكنه بات يتكرر من “نخب” وأناس ركبوا الثورة، ويراد لنا أن نقرّ بأنه حقيقة باتّة، لا نقاش فيها.
إذن، لسنا إزاء ثورة شعبية من أجل “الحرية والكرامة”، كما يتكرر، بل نحن إزاء حراك “السنة” من أجل استعادة “موقعهم الطبيعي كأكثرية” في السيطرة على السلطة. بالتالي، عدنا إلى فكرة أن “الثورة سنية ضد نظام علوي”، الفكرة التي حكمت قطاعاً من المعارضة، وأرادت للثورة أن تكون كذلك، وبالتالي، أسهمت في إيصالنا إلى تمدد داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام وكل الأصوليات المدمرة.
إذا انطلقنا من هذا المنظور، يمكن، أولاً، أن نبرر ما جرى في العراق، حيث انطلق قطاع طائفي من الشيعة من فكرة “المظلومية الشيعية” التي حكمتها “أقلية سنية”. وبالتالي، أن نقبل ما جرى هناك. وهذا مناقض للواقع، و”رجعي” بكل معنى الكلمة، حيث أعاد العراق قروناً إلى الوراء.
وثانياً، كيف نبرر التصاق تجار دمشق وحلب “السنة” بالنظام إلى الآن، ولهم نصيب في السلطة، بغض النظر عن النسب الحاكمة بينهم وبين المافيا التي تشكلت من قلب السلطة، وتحكم الثانية بالأولى. دافعوا عن السلطة وما زالوا، وفي ذلك يدافعون عن سلطتهم، وليس عن “نظام علوي”.
وثالثاً، مناطق الساحل السوري في ظل “النظام العلوي” من أفقر مناطق سورية، أي أنها لم تكن مستفيدة من السلطة، كما يستفيد تجار دمشق وحلب. وإذا كان سكانها وقفوا، كما يقال، مع السلطة فيجب أن نبحث عن السبب، لا أن نركن إلى تحليل طائفي مسبق، يقسم الشعب إلى طوائف. وكانت فكرة أن الثورة سنية ضد نظام علوي من المسائل التي أخافت هؤلاء (إضافة إلى نشاط إخواني وضخ إعلامي أصولي، يريد أسلمة الثورة، وتهافت نخب إزاء هذا الضخ الإعلامي). حيث بدل أن تُطرح المطالب الحقيقية، جرى العمل على طرح منظور يقوم على أساس طائفي.
هنا، أقول إن المظلومية، إذا اردنا استخدام هذا التعبير، هي مظلومية الفئات المفقرة التي نهبتها البرجوازية المسيطرة بشقيها، “السني والعلوي”، وليست مظلومية طائفة يعتقد بعضهم أن حقها الطبيعي أن تكون هي السلطة (أي أن يكونوا هم السلطة تحديداً).
وكان التنظير لمفهومي الأغلبية والأقلية، بالمعنى الديني الذي بدأ مع برهان غليون في كتابه “بيان من أجل الديمقراطية”، يقود إلى هذا التصور عن المظلومية، حيث ترسّخ، بناءً على ذلك، لدى قطاع من النخب، فهم يقوم على قسم الصراع إلى أغلبية سنية ضد نظام علوي، وهو تصوّر يظهر الآن بشكل فاقع، مستغلاً أن بيئة الثورة كانت في “المناطق السنية”، من دون سؤال عن سبب الشغل العنيد من السلطة والإخوان المسلمين والدول الإقليمية على حشر الثورة هنا، والعمل على إعطائها هذا التوصيف.
بالعودة إلى “المظلومية السنية”، أقول إن داعش والنصرة وجيش الإسلام تحكم باسم السنة، وعمر البشير في السودان يحكم باسم السنة، وهي كلها ضد شعوبها، تنهبها وتستبد بها. بمعنى أن المظلومية هي الغطاء لنظم مستبدة ناهبة أصولية (كما في إيران والعراق). ولا يتعلق الأمر بمظلومية طائفة، بل بظلم شعب من خلال نهبه وقمعه، وما يتكرر في سورية يهدف إلى ذلك، حيث تسعى فئات، باسم المظلومية، إلى السيطرة على السلطة، وممارسة ممارساتها.
لنعد، إذن، إلى الشعار الذي رفعه الشباب: “لا سلفية ولا إخوان، الثورة ثورة شبّان”. شبان معطلون، مفقرون، مهمشون، ومقموعون. هؤلاء هم من صنع الثورة.
العربي الجديد
“العلوية السياسية” وصادق جلال العظم/ راتب شعبو
شاع تعبير “العلوية السياسية” في سورية، منذ حوالى سنتين، وحاز هذا التعبير على قوة انتشاره، ليس من قيمة معرفية يؤديها (فهو تعبير هزيل معرفياً كما سيحاول أن يقول هذا المقال)، بل من قيمة الأستاذ صادق جلال العظم الذي أطلقه، ومن الجاذبية الخاصة التي يتمتع بها الحديث عن الطوائف والطائفية في سورية عموماً.
لا شك أن الصراع السياسي، ولاسيما المحتدم منه كما الحال في سورية اليوم، لا يعبأ بالقيمة المعرفية للتعابير، بقدر ما يعبأ بالوظيفة الايديولوجية لها. ومن المستبعد أن يكون العظم قد أطلق هذا التعبير بدافع إيديولوجي، فهو رجل يعمل في الحقل المعرفي، وليس السياسي، غير أن هذا التعبير، مثل كل التعابير الأخرى التي تحوز على قوة انتشار، لسبب أو لآخر، يقوم بوظيفة إيديولوجية مستقلة عن غاية مطلقها، وأحياناً على العكس مما يريد.
لم يكن العظم موفقاً في نسج هذا التعبير على منوال “المارونية السياسية”، كما أظهر زياد ماجد في مقال له في صحيفة الحياة في 30 إبريل/نيسان 2014 بعنوان (عن العلوية السياسية والمارونية السياسية). ولكن، بعد الشرح الذي قدمه الأستاذ العظم لهذا التعبير، يبدو الأمر أسوأ من كونه مقارنة غير موفقة مع المارونية السياسية. وكان المرء يتوقع أن يقوم العظم بمراجعة لتعبيره هذا، بعد نقد كثير طاله، فإنه، في مقابلة مع DW، أخيراً، بمناسبة نيله ميدالية غوته، يعيد قول ما قاله بتكرار شبه حرفي، ويضيف عليه “تجربة ذهنية”، تزيد من ضحالة التعبير، وتجعله أداة إيديولوجية في يد من يراهم العظم نماذج من “العفش المتخلف” الذي كشفه الربيع العربي.
يقول العظم في مقابلته: “هل بإمكانك أن تتصور سيادة الوضع التالي في مصر: رئيس الجمهورية قبطي إلى الأبد، قائد الجيش قبطي إلى الأبد، أُمراء ضباط القوات المسلحة في غالبيتهم أقباط وإلى الأبد، رؤساء الفروع الأمنية والشرطة وقوات حفظ النظام أقباط كلهم وإلى الأبد، المناصب الحساسة والعليا وصاحبة القرار في مفاصل الدولة كلها بيد نخب من الأقلية القبطية؟ هل بإمكانك أن تتصور كذلك، احتكار هذه المناصب والوظائف كلها في تركيا مثلاً من نخب كردية أو علوية حصراً وإلى الأبد؟ هذا الوضع غير القابل للتصور في مصر وتركيا هو القائم في سورية منذ عقود طويلة. هذا هو المعنى الأول للعلوية السياسية”.
“بحسب العظم، المشكلة في الأشخاص، وليس في العلاقات التي تتطلب وجودهم في مفاصل الدولة ونقاطها الحساسة، ويصبح الحل، تلقائياً، في استبدال الأشخاص بآخرين من منابت أخرى”
إذا كان الجهد المعرفي يسعى إلى كشف ما وراء الواقع الاجتماعي من علاقات تحكمه، وتختفي فيه، فإن العظم يسجل في قوله هذا “ظاهرية” صريحة. بحسب العظم، تصبح المشكلة في الأشخاص، وليس في العلاقات التي تتطلب وجودهم في مفاصل الدولة ونقاطها الحساسة، ويصبح الحل، تلقائياً، في استبدال الأشخاص بآخرين من منابت أخرى، هي هنا المنبت الأكثري (الإسلامي في مصر، والتركي في تركيا، والسني في سورية بطبيعة الحال).
طالما عانى الشعب المصري، وثار على النظام وطالب بإسقاطه، على الرغم من غياب “القبطية السياسية”، وعلى الرغم من انتماء رموز النظام ومفاصله الأساسية إلى الأكثرية المسلمة. صحيح أن احتكار المفاصل الأساسية في الدولة لصالح أفراد من منبت مذهبي، أو عرقي معين، مؤشر على خلل مهم في آلية إنتاج السلطة، وينطوي على تلغيم أكيد لمستقبل البلد، لكن المشكلة الفعلية ليست في منبت الأفراد، بل في وظيفتهم، ووظيفتهم هذه مشدودة بدورها إلى علاقات سياسية، تكرس سيطرة طغمة حاكمة، وتشلّ أسباب القوة لدى أصحاب المصلحة في التغيير.
إذا دفعنا التمرين الذهني للأستاذ العظم خطوة أخرى إلى الأمام، سنجد ما هي الوظيفة الأيديولوجية التي يخدمها ولصالح من. المناصب والوظائف محتكرة لأشخاص علويين في سورية منذ عقود و”إلى الأبد”، هذه هي العلوية السياسية بحسب العظم. يغيب عن هذا تحديد أي كلام عن شكل الحكم وعن تعطيل آليات انتقال موازين القوى الاجتماعية إلى السلطة السياسية، ويبدو كما لو أن ما دفع إلى الثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن (حيث لا توجد “علوية سياسية”) يختلف عما دفع للثورة في سورية. وحين يضيف العظم إن “المطلوب هو إطاحة العلوية السياسية” يُفهم منه أن المطلوب هو استبدال أشخاص ينتمون لأقلية، بأشخاص ينتمون للأكثرية، حتى لو أدوا الوظيفة نفسها، وانخرطوا في العلاقات السياسية الإقصائية نفسها. هذا في الواقع يفرغ الثورة السورية من معناها الديموقراطي، ويفتح الباب لقبول مشاريع إسلامية، لا تريد أكثر من إسقاط ما تعتبره “نظاماً علوياً” لإقامة “نظام إسلامي”، تراه الحل. تلك هي الوظيفة الإيديولوجية لهذا التعبير، وهي وظيفة لا يمكن الشك في أن العظم، قياساً على نتاجه الفكري السابق، يريد خدمتها.
العربي الجديد
عن النكايات: رد على محمد الحاج صالح/ سلامة كيلة
مع تصاعد قوة المجموعات الأصولية في سورية، وتغطيتها على الثورة، انساق قطاع من النخب في موجة الأصولية، حيث بات يتبنى تصوراتها، ويدافع عنها على اعتبار أنها “جزء من الثورة”. وزاد عيار الحديث عن “طائفية النظام”، أو “النظام الطائفي”، والطائفة التي يمثلها النظام. كتبت مقالات عديدة ذلك، ولا أريد تكرار ما قلت فيها، لكنني نقدت “الطائفية المضادة”، أو “المظلومية السنية” التي باتت تتكرر، واعتبرت أن هذا المسار هو الذي أضرّ بالثورة، ويدفعها إلى أن تتحول عن أهدافها، وتقع تحت سيطرة دول إقليمية ودولية، باتت تحدد مصير الوضع وشكل “البديل”.
دائماً كان يتقدم من يرد على ما أكتب من منظور دفاعي. في (العربي الجديد) تاريخ 8/8/ 2015 رد من محمد الحاج صالح على مقالي عن “المظلومية السنية” المنشور يوم 6/ 8. كنت أتمنى أن يناقش ما قلت، لا أن يتسرّع إلى استخدام أحكام القيمة التي لا معنى لها، ويلجأ إلى الاتهام ببساطة، فقط لاختلاف فهم مسائل، على الرغم من أن الرد مبني على عدم فهم ومعرفة، ويوصل إلى أنني أدافع عن النظام السوري، ومؤيد للنظام العراقي، هل هناك أعمى من ذلك؟ فقط الدفاع الغريزي عن مواقف يقود إلى ذلك، والدفاع الغريزي قائم على استقالة العقل.
ما حاولت قوله إن الصراع في سورية ليس صراع “أغلبية سنية” ضد “نظام علوي”، فهذا منظور طائفي للمسائل، ينطلق من تحديد الواقع، انطلاقاً من التقسيمين، الديني والطائفي. وذكرت أن المظلومية طبقية، ويجب أن تُرى كذلك. لهذا، أشرت إلى تحيزات تكسر مفهوم “المظلومية السنية”. وإذا كان ينطلق من أنه العالِم بماركس، ووجد أنني، كأكثر اليساريين، دخلت “الطبقية والمادية” من دون علم ماركس، بل عبر “الطاقة” السوفييتية، فيبدو أنه لا يعرف خلفيتي الفكرية، وأنني منذ بدأت قراءة الماركسية ألقيت بكل الكراسات السوفييتية في سلة المهملات، ما جعلني أفهم ماركس الاقتصادي الطبقي، بل إن من بات يؤسس على “الوطنية” أو “الديمقراطية الليبرالية” أو “الثقافوية” هم هؤلاء الذي عرفوا الماركسية عبر السوفييت، والذين من السهولة عليهم أن ينساقوا خلف التيارات الرائجة، ليبرالية أو سلفية، فلا أتلوث بالتيار الرائج وأتلون معه.
كان مقالي يتناول “المظلومية السنية”، وأرى أن الفهم العلمي يتجاوز التحديد الطائفي، حتى حينما يوجد لا بد من تفسيره على أساس أنه تلوث أيديولوجي لدى طبقات، واستخدام مصلحي لدى أخرى. ولهذا، يجب أن نحدد معنى الطائفية، لأنها لا تشمل كل انحياز يُظهر تماثلاً ما، حيث أنها بالضبط اعتناق أيديولوجية طائفة، واستعادة الموروث الصراعي على ضوئها. وعلى الرغم من أن المقال لم يكن لتحديد، هل إن النظام طائفي أو لا، فقد كتبت مقالات عديدة عن ذلك، وكان يمكن لمحمد أن يناقشني بما كتبت، لا أن يصدر أحكام قيمة لا قيمة لها، فقد ركّز على هذه المسألة هنا. فاستناداً لتحديدي معنى الطائفية، لا أرى أن النظام طائفي، لكنني أشرت، سابقاً، إلى أنه يستخدم الطائفية إلى أبعد مدى. هذا ما حللته منذ بدء الثورة، والنظام يسعى إلى سيطرة المنظور الطائفي للصراع. وإذا كانت مفاصل السلطة تنتمي لطائفة، وهذا صحيح، فلذلك أكثر من تفسير، وليس تفسيراً وحيداً، هو أن النظام طائفي. بل إن التحليل السوسيولوجي يمكن أن يعطي تفسيراً آخر، يتعلق بطبيعة علاقات القرابة والبيئة في تحديد ترابط الأفراد. ولا شك في أن البيئات الريفية تميل إلى الاعتماد على هذه العلاقة بالأساس. لهذا، بدل أحكام القيمة يمكن نقاش هذه “الفرضية” مثلاً.
يجعلني تحليلي “الطبقي المادي” أرى البنى الاقتصادية أولوية، وأعالج الأفكار على أساس ذلك، لا أن أغرق في منظور مثالي ثقافوي، ينطلق من انقسام المجتمع إلى طوائف وأديان. لكنني أدرس كيف تستغلّ الطوائف والأديان، فكما استغلّ النظام العلويين، استغل “الجهادية السلفية” بكل جدارة، ولا يفعل ذلك نظام طائفي، بل نظام يدافع عن مصالح طبقة تحكم. نظام لعب في كل البنى المجتمعية المخلَّفة، وليس في الطائفة العلوية فقط. لهذا، جعلني تحليلي الطبقي ضد الطبقة الرأسمالية المافياوية المسيطرة، بشقيها “العلوي” و”السني”، لأنها واحدة، بغض النظر عن ميزان القوى بين أجزائها، وهي التي يقاتل النظام باسمها.
“لا أغرق في منظور مثالي ثقافوي، ينطلق من انقسام المجتمع إلى طوائف وأديان. لكنني أدرس كيف تستغلّ الطوائف والأديان، فكما استغلّ النظام العلويين، استغل “الجهادية السلفية” بكل جدارة، ولا يفعل ذلك نظام طائفي، بل نظام يدافع عن مصالح طبقة تحكم”
هنا، لا يتعلق الأمر بأغلبية سنية وأقلية علوية، بل بطبقة مسيطرة وشعب مفقر أو متوسط الحال. أما كل موروثات الماضي، فقد لعب بها النظام والدول الإقليمية والإمبريالية، لكي تشوه الثورة، وتحوّلها إلى صراع طائفي و”حرب أهلية” محكومة لهؤلاء. وسأشير، هنا، إلى ما كتبته مراراً، وهو أن وضع العلويين المفقرين، بانسياقهم خلف النظام، هو نتاج عمل مزدوج، ليس من النظام فقط، بل كذلك من أطراف المعارضة التي عملت، منذ البدء، على أسلمة الثورة وتطييفها، وعمل دول إقليمية بدأه الإعلام الخليجي (وحتى الدولي)، حيث كان يجب ألا يسقط النظام من خلال الثورة، بل أن تسير سورية نحو التفكك الطائفي. وهذا ما دعاني، منذ بدء الثورة، إلى مواجهة هذا التيار الأصولي المتخلف الذي أوصل، الآن، إلى أن يرتبط الحل السياسي، الذي هو ليس ما يريده الشعب، بمساومات الدول الإقليمية والدولية، وأن يعاد إنتاج النظام بشكل هزلي. وفي وضع بات الشعب يعتبر أن الحل السياسي مطلب ضروري، بعد كل ما شاهد من وحشية النظام، ومن وحشية الأصولية و”سلطتها البديلة”. والحراك الذي بات قائماً ضد “الإمارات الأصولية” يوضح أن الشعب يرفض هؤلاء، كما يرفض النظام، وأنه يريد دولة مدنية.
أخيراً، لا أعتقد أنني أحتاج إلى أسماء صادق جلال العظم وبرهان غليون، من أجل “الشعبطة”، بالضبط لأنني لا أحب “الشعبطة”، لكنني تناولت الاسمين بالضبط نتيجة هذا “التقديس” لما يقولون، حيث إن في أساس كل هذا الفهم للأغلبية والأقلية على أساس ديني اعتناق جزء من النخب السورية ما كتبه برهان في “بيان من أجل الديمقراطية”، الذي كان يعتبر “البيان الديمقراطي” لتيار المكتب السياسي خصوصاً. أما صادق العظم فقد أخذ يتحدث بهذا التقسيم متأخراً، وهو العلماني الماركسي (يبدو أنني يجب أن أضيف السابق)، وينطلق في تحليله من الأغلبية، بالمعنى الديني. شكراً، يا عزيزي، لا احتاج “الشعبطة”، فقد تركتها من زمن طويل لآخرين.
رداً على سلامة كيلة: نكاية النكاية/ محمد الحاج صالح
دخل أكثر اليساريين العرب في “الطبقية والمادية”، من دون علم من ماركس، أو أي من تلامذته المعتبرين. دخلوها من طاقة السوفييت التي تشبه طاقة “أبو طاقة”. تركوا الأبواب المشرعة، كما يليق بمدرسة محترمة في علم الاجتماع لها قيمة كبيرة، وأصروا أن يعبروا طاقة “أبو طاقة” الضيقة التي عمّرها لهم النظام السوري، تقليداً “للطاقة” السوفييتية، بعد موت المرحوم الاتحاد السوفييتي.
تريد مسطرة سلامة كيلة، في مقاله “المظلومية السنية” في سورية، في “العربي الجديد” (6\8\2015) أن تتجاهل جزءاً من الواقع، لأنها لا تستطيع قياسه، ولا التعامل معه، فهو (الواقع) يربك المسطرة وصاحبها. إنكارٌ تام للعامل الطائفي في تركيبة النظام السوري وسلوكه وتحالفاته. والإنكار للواقع والوقائع لامعرفيٌ، ويساوي الخرافة. “وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ إِذا افتقرَ النَهارُ إِلى دَليلِ”. يعترف كيلة أن النظام العراقي، مُصدّر المليشيات الطائفية إلى سورية، طائفي، لكنه يرفض أي تلميح يطاول النظام السوري. في العراق، يحق له استخدام مصطلحات طائفية، وتوصيف طائفي، وفي سورية ممنوع. يقول: (انطلق قطاع طائفي من الشيعة من فكرة “المظلومية الشيعية” التي حكمتها “أقلية سنية”. وبالتالي، أن نقبل ما جرى هناك. وهذا مناقض للواقع، و”رجعي” بكل معنى الكلمة، حيث أعاد العراق قروناً إلى الوراء). الأنكى أن الأستاذ يُقحم اسمي المفكرين، برهان غليون وصادق جلال العظم، ويتهمهما بأنهما هما ونخبٌ ركبوا الثورة، وصنّعوا فكرة المظلومية السنية وثبّتوها، من دون أن يأتي باستشهاد من كتاباتهما، مكتفياً “بالشعبطة” على اسميهما.
ينسجم سلامة كيلة مع بعض اليسار السوري، وبعض مجاهدي العلمانيين ذوي التفكير والحَصر الأقلوي، وأكثرية هيئة التنسيق في إيراد تبريرات تدعم القول “إن النظام السوري غير طائفي”، وهي، أولاً، موقف تجار دمشق وحلب. وثانياً، فقر مناطق الساحل التي ينحدر منها النافذون في النظام السوري. وهي حجج متهافتة، إذ ليس كل العلويين من النظام، ولا كلهم طائفيون. النظام هو الطائفي. العلوية السياسية العسكرية هي الطائفية. النخبة العلوية الحاكمة هي الطائفية، فالقرار الأمني، وهو الأهم في هذه المرحلة، بيد الطغمة الطائفية الحاكمة، وكذلك القراران الاقتصادي والعسكري. هل يستطيع الأستاذ أن يضرب لنا مثلاً معاكساً؟ ولمَ لا يقول إن النظام يفقر العلويين ويخيفهم، ليستخدمهم قلعة محاصرة تحميه، ويرشي تجار دمشق وحلب ببساطة؟ لمَ؟ ولوالد الديكتاتور الحالي تجربة مهمة في هذا المجال منذ الثمانينيات، فقد استخدم الفقراء العلويين لصالح النخبة العلوية السياسية، وبرطل تجار دمشق وحلب.
لا يحتاج سلوك النظام الطائفي إلى مساطر، يخرجها المرء من بطون الكتب، ويقيس بها الواقع. الواقع يفقأ العين، والبراميل شاهدة. وباكراً جداً كانت بانياس شاهدة، وبعدها حمص. وأي مراقب منصف يستنتج من تصريحات روسية، وخصوصاً لوزير الخارجية، لافروف، أن روسيا تريد، بصراحة، أنْ تبقى العلوية السياسية مسيطرة، أو على الأقل لها الدور الفعال الأول. وهل يحتاج موقف إيران والمليشيات الشيعية العراقية والنظام العراقي وحزب الله، هل يحتاج هؤلاء إلى مسطرة سلامة كيلة الماركسية، والماركسية منها براء، كي يثبتوا أنهم ينطلقون من موقف طائفي، ويدعمون طغمة طائفية؟
لاحظوا أن “نقد!” كيلة يطاول الجمهور والمفكرين والسياسيين المساندين للتغيير والثورة، ويحامي عن موقف النظام ويطابقه حقيقة، كما كثيرين صار جلّ عملهم شتم الضحية، وتزيين مواقف الطغمة الطائفية ما أمكن.
ليس مطلوباً من كيلة أن لا ينتقد الجهادية والسلفية والأصولية السنية، ونعتها بما يريد، فهي تستحق ذلك وربّما أزيد، المطلوب أن يرى، في المقابل، أنّ الطغمة الطائفية لعبت وتلعب أدواراً خطرة، ليس في تدمير سورية فقط، وإنما في كل المنطقة، وأنها طائفية حتى العظم. ببساطة، أن يروا الواقع، فالذين لا يرون الواقع لهم اسمٌ ثان (!)
الغريب أن سلامة كيلة، في المقطع الأخير من مقاله، يدين كل الأصوليات، بما فيها نظاما إيران والعراق، ولا يقبل أن تُدان، أو حتى يشار إلى طغمة العلوية السياسية الحاكمة التي دمرت البلد. فما سرّ هذا العشق، يا ترى؟