ما الحضارة سوى مشي الهوينى/ إبراهيم غرايبة
القرى التي ظلت آلاف السنين ينهض أهلها في الصباح الباكر، فيمضون إلى مزارعهم ثم يعودون في المساء، محمّلين ما يجدونه من ثمار الحقل، أو مما تنبته الأرض، متاعا لهم ولأنعامهم… وفي المساء، يتجمع الرجال صيفا تحت ظل شجرة، وشتاءً في الديوان، أو في بيت أحدهم الذي يكون عادة ملك القرية (كان مختار القرية يسمى ملكاً، ومازال يسمى كذلك في أفغانستان)، يتحدثون في شؤونهم ويستمعون إلى القصص. وفي مراحل من الوفرة، يكون للقرية معلم هو، في الوقت نفسه، رجل الدين والطبيب، ويروي في المساء قصصاً وأخبارا ومواعظ، ويكون عادة مساعد الملك، ويتولى مسائله الكتابية والحسابية.
تنشأ المتوالية كما هو شأن الإنسان في التاريخ والجغرافيا من تحسين الحياة والبحث عن المعنى والجدوى، والسؤال عن الحياة والعالم، أو بكلمة “المعرفة”، البحث عن المعرفة التي تحسن حياته، وتجيب على اهتمامه بالعالم، وبحثه عن المعنى والجدوى.
تحتاج المعرفة إلى وفرة في الوقت والموارد، فليطور أدواته، ويحل المشكلات التي تعترضه في الزراعة والري، يحتاج أن يتعلم، وأن يدفع للحرفيين والبياطرة الذين يساعدون في تطوير عمله ومنتجاته، يقدمون له الدواء والخبرة، والأدوات ويصلحون له ما يتلف منها، أو للعمال والمساعدين من المزارعين والحرّاثين والرعاة والحصادين. وهؤلاء يجب أن يجدوا من الوفرة ما يغنيهم عن العمل في الزراعة، وتدبير قوتهم، أو ما يشجعهم على العمل مع المزارعين والحرفيين ومساعدتهم. تتشكل الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، وتتشكل المهن والحرف الفنية وأصحابها وطبقاتها ومصالحها أيضا، وفي البحث عن المعنى والجدوى، ظهر المعلمون والكهنة والرواة والدراويش والفلاسفة. وفي مواجهة متطلبات الحياة وتحدياتها، نشأت التشكلات الاجتماعية والتعاونية للعمل الجماعي وتنظيمه، فكان المجتمع، والقضاة والقادة الاجتماعيون، وفي صياغة القواعد والأعراف الاجتماعية وتطوير التنظيم الاجتماعي تشكلت الموسيقى والفنون والألعاب، كما العادات والتقاليد والأعراف والقيم.
ولكن، كيف يؤثر مشي الهوينى في تشكيل الحرف والمهن والطبقات والموسيقى والفنون والقيم والأعراف واتجاهها؟ كيف يؤثر على الموارد والأعمال نفسها؟ كيف يؤثر في تصميم الطرق والبيوت والمرافق وقنوات الري وأدوات الزراعة والأدوات الموسيقية؟
يجب أن تكون المسافة لا تحتاج إلى أكثر من نصف ساعة (في حدود ألفي متر) فلا يعقل أن يمضي نهاره في المشي. وهكذا، تتشكل حدود القرى والمسافات للمزارع في دوائر ومساحات من الأرض، يحددها الزمن اللازم لرحلة مشي الهوينى، فيتوزع الناس في سلاسل من القرى ومركز ينتظمها.
وفي سلوكه وعلاقاته بمن حوله والآخرين، يجب أن يظل المزارع قادراً على مشي الهوينى، ليس مطلوبا من أحد، ولا يتكّبر على أحد، يحتاج أن يجعل الناس يحترمونه أو لا يؤذونه، لا تتفق المفاجآت والطوارئ مع الهوينى، يجب أن يكون كل شيء متوقعاً ومحسوباً، أو أن يكون قادراً على مواجهة ما يمكن أن يحدث. في الخريف إذا لم يعد طعام، وفي الشتاء، يحين يحل البرد مع الجوع، وفي الصيف، حين تغمره الوفرة من غير عمل كثير، وفي الربيع، حيث يجب العمل الكثير والمتواصل، فهو يمضي الربيع في عمل طويل، لا يفوت لحظة للتزود والاستعداد ووفرة المحصول والاستفادة من عطايا الطبيعة ومنحها. وفي الصيف، عمل كثيف جماعي لجني المحصول وتخزينه وتسويقه، ثم فترة من الأفراح والليالي الملاح، ففي ذروة الموسم تعقد الصفقات والزيجات، البيع والشراء في المدينة، بما في ذلك من دهشة وترفيه وفضول! يبيع المحصول ويشتري القماش والمناديل والحلي والشاي والسكر والحلويات. ثم تعكف النساء على تصنيع الطعام المخزن، المجففات والمملحات والمخللات والمحلّيات، والنبيذ والزيت والملح، واللبنة والجميد والجبنة والسمن والقاورما (اللحم يطبخ ويخزن تحت طبقة من الدهون في جرار من الفخار)، وصيانة البيوت وترميمها وجمع الحطب وإعداده وتخزينه للشتاء والطهو، ثم بيات شتوي ليس سوى عمل قليل. قد ينتقل إلى أمكنة أكثر دفئاً، وفي مراحل متقدمة، صارت البيوت والقرى تصمم وتعد لتكون أكثر دفئاً وقدرة على مواجهة البرد والشتاء. الطوابق الأرضية والأقبية في البيوت والكهوف والمغاور العميقة الدافئة والمجهزة بالطعام والماء أيضاً، ويجعلها الكانون والنبيذ والسمر دافئة مؤنسة.
“القانون والعادات التقاليد والأعراف والقيم المتشكلة حول مشي الهوينى تكون واضحة ومحددة، وكل شيء محسوب، ومعدّ بإيقاع ووضوح رحلة الهوينى نفسها”
وهذا يجعله فضولياً، وإن كان يتظاهر باللامبالاة، فيكون للمعلم ورجل الدين (الخطيب والكاهن) دور كبير ليزوّده بالمعرفة التي تكسر عزلته ووحدته القاسية، ويزوده بما يحتاج إليه في حياته ومستقبله، ويلبي سؤاله الملح الدائم عن الحياة والكون والأسرار والألغاز الكثيرة المحيطة وأخبار العالم المجاور والمحيط والبعيد. يشغل نفسه بالسؤال، لكنه يكتفي بما يحصل عليه من إجابات من المعلم أو الخطيب أو الكاهن أو الزوار القادمين والعابرين والرواة والضيوف في المجالس. وتستعاد القصص والإجابات، ثم ترتب في الرحلة الإيقاعية المنتظمة، يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، وقرناً بعد قرن، منتظمة هادئة متكررة راسخة، لا يمكن تغييرها أو مراجعتها، تصلح للطمأنينة والعلاج والعمل والقلق لما بعد الحياة. تظل حاضرةً جاهزةً لاستخدامها أو استرجاعها، كلما دعت الحاجة. لذلك، ليس ثمة مجال للبحث عنها أو اختراعها، لا مجال لغير المتوقع، أو لما هو استثنائي، فيجب أن يكون كل شيء واضحاً جاهزاً ومتوقعا ومنتظماً، مثل رحلة مشي الهوينى نفسها في الصباح والمساء.
القانون والعادات التقاليد والأعراف والقيم المتشكلة حول مشي الهوينى تكون واضحة ومحددة، وكل شيء محسوب، ومعدّ بإيقاع ووضوح رحلة الهوينى نفسها، ليس فيها استثناء، أو ما هو غير متوقع، يتبعها الفلاح بانتظام وخضوع، يؤدي واجباته الدينية والقانونية، ويدفع الضرائب ويلتزم العادات والتقاليد والأعراف والقيم، برضا والتزام حرفي واضح، لكنه يرتبك أمام أي حالة استثنائية أو غير متوقعة، لا يتقبل فكرة دينية أو قانونية أو عادة طارئة أو غير معروفة له من قبل، أو لم يتلق بشأنها توضيحاً أو تحذيرا من المرجعيات المحددة والمختصة، العمدة أو المعلم أو الكاهن أو العراف أو البيطري أو كبير العائلة. ليس لديه موقف خاص، يرفض الإضافة أو الحذف في أي شيء، سواء في الدين أو القانون أو الثقافة الاجتماعية الناظمة لحياته وإيقاعها. يقاوم أي تعديل في الأفكار والالتزامات والسلوك، مهما كان ضئيلاً أو هامشياً أو مفيداً وإبداعيا، لا يقاوم في شيء النظام السائد، ويقاوم بشدة أي تغيير أو خروج عليه، بلا تأمل أو تفكير في فائدة التغيير وأهميته، أو أضرار وعواقب الخضوع والالتزام.
انتظمت أنفاسه ودقات قلبه وإيقاعات خطواته، وعاداته اليومية الفردية المنتظمة حول رحلة الهويني، من غير تعديل مهما كان، وعلى مدى آلاف السنين، الاستيقاظ في موعد محدد، الطقوس الدينية والإفطار والذهاب إلى العمل والغداء والعشاء والسهر والنوم، لا يمكن مخالفتها أو تغييرها لأي سبب، وتحت أي ظرف. إذا جاء موعد الطعام، يجب أن يوضع الطعام ويتناوله، لا يقبل تأجيلاً أو استثناء. وفي ذلك، يرتب ويحدد عمله ومواعيده وتوقيت حياته وعلاقاته.
ماذا يحدث اليوم لهذا الهرم الذي بدا راسخاً مستقرا آلاف السنين؟
العربي الجديد