صفحات الثقافة

أثر المساميرِ في شجرةِ العنبِ/ عماد فؤاد

 

 

 

شظيةُ خشب

 

ابنُ عامين…

وأسقطُ من فتحةِ السَّطحِ فوقَ قُنِّ إوزَّاتِ جَدَّتي

وأقومُ سليمًا من دون خدشٍ

غبيٌّ وغشيمٌ…

وأضعُ كفِّي كاملةً في مقلاةِ الزَّيتِ التي تتراقصُ فوقَها دوائرُ الفلافلِ

تتورَّم يدي وتنتفخُ بمياهِ الزُّرقةِ.. ولا أكرهُ الفلافلَ أبدًا…

أسقطُ من فوقِ تكعيبةِ العِنبِ أمامَ دارِ جَدِّي على حجرِ الرَّحى

ولا أبكي وجعي

لكنَّني أبكي عنقودَ العِنبِ الذي هرستْهُ يدي

وهْي تتَّقي سقوطي

 

صغيرٌ…

ألعبُ بالحصى والتُّرابِ وديدانِ الأرضِ، أسرقُ زهورَ البرسيمِ كي أجفِّفَها في كتبي المدرسيَّةِ وأذروها في الرِّيح، أخلعُ أسنانيَ اللَّبنيَّةَ خِفْيةً عن يدِ أبي الثَّقيلةِ، وأرمي بها إلى الشَّمسِ طامعًا في أسنانٍ جديدةٍ أقوى وأجملَ، أسرقُ بذورَ غيطِ خالي وأغرسُها في ماءِ النَّبعِ، كي تنموَ أشجارًا شفافًة هكذا من أثرِ المياه، وأحلمُ بظلٍّ أرى منه ما يختبئُ في الشَّمس، نمتُ من التَّعبِ تحتَ أسرَّةِ أبناءِ جيرانِنا وأنا أختبئُ من أخوتي كي لا أنام، حبستني الحياةُ في غرفٍ مفاتيحُها معلَّقةٌ في رقبةِ أمِّي كي تخرجَ إلى السُّوقِ وتجلبَ مؤنَ الأسبوعِ..

 

كانت الحياةُ كريمةً مع روحي

روحي التي أتأمَّلُها الآن

وأنا جالسٌ على حجرٍ في الظِّلِّ

أنظرُ إلى قلبي مشطورًا

يعدو على التُّرابِ في صورتينِ

 

إيه!..

طفولتي

شظيةُ الخشبِ التي اخترقت لحمي

تحتَ الظِّفرِ تمامًا

كلَّما حاولتُ نبْشها بإبرةِ الذَّاكرة

أهلكني الألمُ.

 

رَعشة

 

أمتعُ من صيدِ السَّمكةِ

رعشتُها وهْي تخرجُ من المياهِ لتلمعَ تحتَ شمسِ النَّهارِ

الرّعشةُ التي كنتُ أقبضُ بقوَّةٍ على غابِ صنَّارتِي كي تصِلَنِي كاملةً

غيرَ منقوصةٍ

ولا أفقدُ منها شيءْ

الرّعشةُ التي علَّمتني معنى أن أكونَ قنّاصًا

ومعنى أن أكونَ مرغمًا على القنصِ

الرّعشةُ التي عشتُ عمري أطاردُها

مذ كنتُ صبيًّا صغيرًا

أذهبُ كلَّ ظهيرةٍ مع خالي إلى ضفَّةِ النَّهرِ

كي نجلبَ غداءَ عائلةٍ كاملةٍ

من الجوعى.

 

عقاب الفراشة

 

اختبئْ أيّها الصبيُّ، خبِّئْ بقعَ التُّوتِ على ثوبكِ الأبيضِ. أمُّكَ وخالاتُكَ يبحثنَ عنكَ، وإن رأينكَ هكذا، لن يغفرنَ لكَ رعونتَكَ، ستتركُ أصابعُهنَّ الخشنةُ على خدَّيكَ وأذنيكَ علاماتٍ حمراءَ تزرقُّ في الليل. سيحرمْنكَ صيدَ الفراشاتِ البيضاءِ من فوقِ زهورِ البرسيمِ الطَّالعِ في غيطِ خالِكَ. خبِّئ جسمك النَّحيلَ خلفَ جذعِ التُّوتةِ، ضُمَّ فخذيكَ على خوفِكَ، واكتمْ أنفاسَكَ وأنت تسمعُ أقدامَهنَّ تغوصُ ثقيلةً في الأرضِ المرويَّةِ، أقدامَهنَّ المشقَّقةِ التي تدوسُ سنابلَ القمحِ فتنفرطُ حبَّاتُها صفراءَ لامعةً، غُصْ عميقًا في صمتِكَ، ولا تقرب بيدِكَ الطِّفلةِ أوَّلَ فراشةٍ ملوَّنةٍ تحومُ حولَ عينيكَ..

 

يا يدَه الصَّغيرة

يا يمنى…

يا ذاتَ الأصابعِ الخمسِ

بارزةَ العروقِ

حتَّى لتكادُ تشفُّ عن سريانِ الدَّمِ فيها

يا فضَّاحةُ

يمدُّكِ ليمسِكَ أوَّلَ فراشةٍ ملوَّنةٍ تراها عيناه

فتمسكُه يدُ أمّه

 

لم يبكِ

ولم يدفعْ عن صباه عار الجريمةِ

رفع ذراعين ضعيفتين كي يتَّقي الضَّربات

وظلَّ يرمق الفراشةَ الملوَّنةَ ترفُّ أمام عينيه

متخيِّلًا أيّ عقاب ستناله من أمِّها

حين تعود إلى البيت هكذا

بجناحين ملوَّثين

من أثر ثمار التُّوت!

 

تكعيبة عنب

 

يا لشقاءِ “عبد المنعم قطب حميده”

جَدِّي الذي كنتُ أخبِّئُ عن عينيهِ مطرقتَه الحديديّةَ وأسيرُ بها وأنا أمسكُها بيدي محاذيةً لساقي، كي لا يراها وهْو راقدٌ ويعرفَ أنَّني عبَّأتُ جيوبي بكومةٍ من المساميرِ كي أدقَّها خفيةً في شجرةِ العنبِ.

عرفتُه مضطجعًا في بهو الدَّار فوق حصيرةِ القشِّ، أو متّكئًا على حائطٍ ليقضي حاجَتَه، آمرًا امرأتَه الضَّامرةَ القصيرةَ أو ناهيًا.

جدِّي الذي رأيتُه مرَّاتٍ كثيرةً يُصلح بين رجالات العائلة؛ يوبِّخُ المتجبِّرين ويصفعُ النِّساءَ ويردُّ المظالم

كحّتُه الحارسةُ المتأهِّبةُ الحاضرةُ دومًا

كانت تجعلُ لنومتي جوارَه طعمًا آمنًا حلوًا

ماتَ قبل أن أُريه أثرَ المساميرِ في شجرةِ العنبِ التي زرعَها قبل ثلاثين عامًا.

 

مؤكَّد كان يراها ويصمت، يبصقُ مع سعاله شتيمته:

“الله يلعنك يا ابن فؤاد

هاتخرب الشجرة”.

 

يا ربُّ

لماذا تحفُّ بي رائحتُه ونحنحاتُه

كلَّما اشتريتُ عنقودَ عنبٍ

نبتَ في هذا البردِ؟!

 

ها هنا رجلٌ

 

ها هنا رجلٌ يحملُ جاروفًا ويحفرُ الأرضَ، فيُخرجُ الجذورَ والعظامَ والمفاصلَ المهترئةَ والخطواتِ ودودَ الأرضِ، يحفرُ فيصطدمُ سكّينُ جاروفِه بقطعِ حجارةٍ مسنَّنةٍ وورق شجرٍ معطَّنٍ وأغصانٍ ناشفةٍ وشظايا زجاجٍ وأغطيةِ معلَّباتٍ وأعقابِ سجائرَ، يعرقُ فتسقطُ قطراتُ عرقه فوق ساعديه فلا يشعرُ ولا ينتبهُ، لكنَّه يضربُ بسكِّينِ جاروفِه حتى يكملَ مستطيلًا يكفي لإدخالِ الجسدِ المُسَجَّى خلفَه، ملفوفًا في ملاءاتٍ بيضاءَ، وحين يلتفتُ لا يعثُرُ على الجسد ولا على الملاءاتِ ولا على المستطيلِ ولا على الأغصانِ ولا على قدميه..

 

الرَّجل الذي كان ها هنا..

صارَ تحت عينَي الصَّقر الذي يحوِّمُ الآن بجناحيه في الأعالي

مستطيلًا محفورًا في الأرض

ينظرُ الصَّقر فيقول في نفسه:

هذا قبر حيّ يسيرُ على قدمين

وما من شاهدٍ واحد

يدلُّ العابرينَ الطَّارئين

إليه.

 

 

 

كلُّ يوم

 

ثلاثةٌ يعبرونَ الشَّارعَ ذاتَه كلَّ يومٍ؛

 

– رجلٌ تهتزُّ رجولتَه مع كلِّ رفَّةِ فستانٍ عابرٍ

وهْو يقولُ في نفسِه:

ما نفعُ الانتقاءِ

ما دامت كلُّ النَّحلاتِ صانعةٌ للعسل؟

 

– عاشقٌ يخرجُ مغْمِضًا عينيه عن مساوئ الجميلةِ

وهْو يقولُ في نفسِه:

ما نفعُ السُّؤالِ

ما دام قلبي عامرًا بالمحبَّةِ؟

 

– حطَّابٌ

يخرجُ كلَّ صباحٍ وفأسُه على كتفِه

وهْو يقولُ في نفسِه:

ما نفعُ شجرةٍ لا تثمرُ ولا تزهرُ

ولا تخلِّفُ في الهجيرِ لعابرٍ ظلًّا؟!

 

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى