صفحات الثقافة

أبوية النقد السينمائي الأوروبي/ أمير العمري*

 

 

في أوائل السبعينيات، اكتشف النقاد الفرنسيون التقدميون المهتمون بالعالم الثالث “السينما العربية” و”السينما الأفريقية” و”سينما العالم الثالث”.

وكان حفنة من “نقاد الشانزليزيه” يلتقون في أحد مقاهي الشارع الشهير، يتحدثون ويتناقشون ويصوغون النظريات حول “السينما النضالية”، و”الكاميرا بندقية”، و”السينما الأخرى” و”السينما المغاربية”، وغيرها من الدراسات التي نشرت فيما بعد في كتب ومجلات نشأت وظهرت في سياق ذلك الاهتمام الذي أعقب انتفاضة مايو/أيار 1968 في فرنسا، واتساع حركة اليسار الثقافية الأوروبية بشكل عام.

ولعل من أشهر هذه المجلات مجلة “إكران” -(أي الشاشة)- التي نشأت نتيجة “انشقاق” يساري من جانب سبعة من نقاد مجلة “السينما” التي كانت تصدر من الخمسينيات، ومن أبرز هؤلاء النقاد الذين اهتموا بتلك “السينما الأخرى” غي أنيبيل ومارسيل مارتان وكلود بيلي. ولكن صدور “إيكران” استمر فقط من 1972 إلى 1979.

صور نمطية

كثير من الأفلام المغاربية أنتجت بالشراكة مع فرنسا، ولعل هذه الظاهرة لا تزال قائمة حتى اليوم، نتيجة أن الغالبية العظمى ممن يصنعون الأفلام تلقوا تكوينهم السينمائي في فرنسا، وارتبطوا بالأفكار والمفاهيم “الطليعية” الفرنسية

” والمشكلة أن الكثير من الكتابات التي كانت تنشر عن السينما العربية أو الأفلام العربية، خصوصا الفرانكفونية التي تنتج في المغرب العربي، كانت تغالي كثيرا في تقدير قيمة الكثير من تلك الأفلام، وتضفي عليها المجد والعظمة، حتى لو كان الفيلم “بدائيا”، يعاني من رداءة الصوت وتشوش الصورة.

فقد كان الأهم أن يصور ذلك الواقع الآخر، الغريب، المختلف، أو المتخلف. وكانت معظم تلك الأفلام من الإنتاج المشترك مع فرنسا، ولعل هذه الظاهرة لا تزال قائمة حتى اليوم، نتيجة أن الغالبية العظمى ممن يصنعون الأفلام في بلدان المغرب العربي تلقوا تكوينهم السينمائي في فرنسا، وارتبطوا بالأفكار والمفاهيم “الطليعية” الفرنسية، بل إن الكثيرين منهم يراهنون على عرض أفلامهم في السوق الفرنسية.

ورغم الدور الهام الذي لعبه نقاد الشانزليزيه في تسليط الأضواء على الأفلام العربية، فإن هناك وجها آخر سلبيا للنقد الفرنسي، يتمثل في تلك النزعة الأبوية التي تنظر باستعلاء إلى كل ما يأتي من أفلام من هذه المنطقة من العالم، يحتضنها احتضان الأب، ويمارس عليها وصايته، ويهيمن عليها بتعاليمه، مرحبا بالبدائية وبتصوير مظاهر التخلف والفولكلور طبقا للنظرة الثقافية المركزية الأوروبية، رافضا التعامل بنفس الحماس مع أفلام أخرى أكثر احترافية، قد تتناول موضوعات سيكولوجية أو تدور حول الفرد ومعاناته وأحلامه وهواجسه.

سينما الصحراء

وأتذكر هنا ما سبق أن صرح به المخرج الجزائري مرزاق علواش عندما استقبل فيلمه “رجل النوافذ” (1986) بالانتقادات، كونه يطرح موضوعا يدور حول سيكولوجيا الفرد، عندما قال “إنهم يرفضون فيلمي ويقولون لي من أنت أيها العربي الجزائري لكي تعبر عن مواضيع “أوروبية” معقدة وشخصيات مركبة، ولماذا لا تكتفي بتصوير مناظر الصحراء”!

إن خطورة هذه النزعة “الأبوية” أنها ترفض التعامل مع الفيلم كفيلم، أي كعمل فني يخضع للتقويم شأن ما ينتج من أفلام في العالم تطبق عليها المعايير النقدية الحديثة، تدرس حبكاتها وصياغاتها وأساليبها السينمائية وتتوقف أمام ما فيها من عيوب.

بل إن هذه النظرة تميل دائما إلى رؤية المشاكل النمطية التي ترغب في رؤيتها طبقا لمركزيتها المترسخة؛ قهر الرجل للمرأة، تأثيرات الإسلام، الهجرة، البؤس الاجتماعي، التقاليد البالية، الانبهار بالفولكلور الذي يكرس فكرة “اختلاف” الشرق عن الغرب.. إلخ.

والمشكلة الكبرى أن السينمائيين العرب لا يولون ثقتهم إلا في نقاد الشانزليزيه وأمثالهم، رافضين التناول النقدي الأكثر صدقا وإخلاصا وجدية في التعامل مع أفلامهم، أي النقد الذي يتعمق في فهم وتحليل بناء أفلامهم، ويتعامل مع الفيلم العربي كما يتعامل مع غيره من الأفلام، وقد يلوحون في وجهك بالقصاصات التي يكتبها “آباؤهم” الروحيون في باريس، الذين يبالغون في إغداق المديح المجاني على أعمال مليئة بالمشاكل ونقاط الضعف، وهي محنة وأي محنة.

* كاتب وناقد سينمائي

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى