في مسعى نتانياهو قلب التاريخ رأساً على عقِب/ مصطفى كركوتي
العرب ليسوا وحدهم الذين يعيشون راهناً مأساة حزينة ومؤلمة يصعب تلمّس كيف تنتهي، بل الإسرائيليون أيضاً، إذ بدَوا أخيراً بعيون قرّاء التاريخ كأنهم يسيرون بخطى حثيثة نحو مأساة أخرى من نوع آخر، ستعجل نهاية مشروع حلمهم بـ «الدولة اليهودية» نتيجة الإصرار على سياسة تجاهل وجود الفلسطينيين، إن كان بالتفرقة ضد بعضهم في إسرائيل أو بالعنف المتوحش ضد بعضهم الآخر في ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية والمحتلة منذ 1967.
فعبر تاريخها الفتي، تعامل قادة إسرائيل، باستثناء إسحق رابين الموقع على معاهدة أوسلو، مع الفلسطينيين إما على أساس أنهم غير موجودين على أرضهم في أحسن الأحوال (غولدا مائير ومناحيم بيغن وإسحق شامير)، أو أنهم قادمون من كوكب آخر (المريخ مثلاً) على حد قول اليمين الحاكم.
لذلك، لم يكن غريباً أن يخرج رئيس وزراء إسرائيل قبل أيام، بتحميل أحد قادة فلسطين التاريخيين مسؤولية جريمة الهولوكوست في أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية. فتوجيه اتهام كهــذا لا يخــدم غير غرض واحد: تبرير مقيت لسياسة بنيامين نتانياهو في قتل الفلسطينيين والاستمرار في حرمانهم من أبسط الحقوق الإنسانية. فنتانياهو يريد للعالم أن يصـــدق أن مفتي القدس الراحل أمين الحسيني، هـــو المسؤول عـــن إبادة نحو ستة ملايين يهودي بعد أن أوعز الــى أدولف هتلر بهذا الاقتراح. فهو قال ذلك في خطاب له أمام المؤتمر العالمي للمنظـــمة الصهيونية، مدعياً أن المفتي «أقنع» هتلـــر بـ «حرق» اليهود بدلاً من ترحيلهم إلى خارج أوروبا وفق ما كان يُعرف بـ «خطة مدغشقر».
وكان من حسن حظ العقل والتعقل، أن صححت كلامه رئيسة وزراء ألمانيا أنغيلا مركل بعد يومين، وهي تقف إلى جانبه في مؤتمر صحافي في برلين، حيث أكدت مسؤولية الألمان عن «مذبحة» اليهود بقولها: «المسألة الواضحة في أذهاننا أن النازية هي المسؤولة عن الهولوكوست».
وفي ما يبدو أنها محاولة بائسة لإعادة كتابة التاريخ من جانب نتانياهو في إشارته إلى لقاء ضم هتلر مع الحسيني في مقر الرئاسة في برلين في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 1941، بقوله أن مفتي القدس اقترح «حرق» وليس «طرد» يهود أوروبا، فإن الزعيم الألماني «السخيف» الذي أثار الهلع في العالم، وافق على الاقتراح وهمّ على الفور بتطبيقه.
إنها مسألة محسومة وموثقة جيداً من أبرز المؤرخين في العالم، بمن في ذلك مؤرخون يهود. فأكبـــر جريمة في القرن العشرين وقد عرفت أيضاً باسم «الحل النهائي»، حدثت قبل ستة أشهر علـــى الأقل من لقاء المفتي بهتلر. كما أن أرشيف ألمانيا حول تلك الحقبة، يخلو من أي إشارة إلــــى المسألة في اللقاء وفقاً لباحثين ومؤرخين يهــــود، إذ أكدوا جميعاً أن التباحث بين الزعيمين انحصر في مناقشة «قضايا ذات اهتمام مشترك» مثل الشيوعية الصاعدة، والهجرة اليهودية، وخطة الانتداب البريطاني لتقسيم فلسطين. وكان الحسيني، كزعيم يميني محافظ، شدد في اللقاء على «تسلل» الأفكار الشيوعية إلى «فلسطين المسلمة»، والنشاط الصهيوني في أوروبا وروسيا وبعض أجزاء العالم العربي في نقل اليهود من طريق البحر إلى فلسطين. ومعروف أن سلطات الانتداب طبقت بالفعل خطة التقسيم بعد ست سنوات من لقاء هتلر والحسيني، وهي الخطة التي مهدت لتأسيس دولة إسرائيل.
فلو وافقنا في هذا السياق على «منطق» نتانياهو، فهذا يعني أن بريطانيا وفرنسا وروسيا وضحايا النازية جميعاً يجب أن يواصلوا حتى هذه اللحظة قصفهم وغاراتهم على ألمانيا ويقتلوا في شكل عشوائي شعبها ويحتلوا أراضيها ويحرموا سكانها من أبسط حقوق الإنسان عقاباً لها على الحرب العالمية الثانية، تماماً كما تفعل إسرائيل تجاه الفلسطينيين على مدى نصف قرن تقريباً.
وفي كل الأحوال، يخطئ نتانياهو أثناء إعادة صوغه التاريخ بقوله أن الحاج أمين الحسيني كان يمثل الفلسطينيين، في حين أنه لم يكن يوماً مندوباً منتخباً لهم. فالمعروف، أنه جاء في المرتبة الرابعة في انتخابات أمانة القدس، لكن الانتداب سهّل عملية تعيينه في هذا المنصب وبموافقة المنظمة الصهيونية العالمية. وكان بعض الفلسطينيين يعتبرونه «متواطئاً» مع الانتداب في فترة ما قبل وما بعد ما يعرف بـ «الثورة العربية» ضد الانتداب خلال 1936 – 1939، بقيادة عز الدين القسّام.
ما يسعى نتانياهو الى فعله هو تماماً مثل ما سعى إليه قبلــــه بعض مؤرخي الحركة الصهيونيــة على مدى سبعين عاماً مضت، بقلبهم التاريخ والمأساة الفلسطينية رأساً على عقب، فـــي محاولتـــه تقديـــم الفلسطينيين بأنهم شركاء فـــي «الهولوكوست». وبعبارة أخرى، فإنه يريد أن يقـــول للعالم أن عداء العرب والفلسطينيين الراهن ضد إسرائيل والصهيونية «لا علاقة له» بسياسة الاستيطان والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وسياسة التوسع وترحيلهم من أراضيهم وهدم منازلهم، بل السبب هو مجرد «كراهية اليهود».
وهناك الكثيــــر من التوثيق لأفكار هتلر وخططه تجاه اليهـــود قبل أن يلتقي أي مسؤول عربي، وهذا مدوّن في كتابه الشهير «حياتي» الصادر عام 1924، إذ نصّ بالحرف: كان من الممكن أن نحول دون مـــوت بضعة ملايين في جبهـــات الحرب العالمية الأولى، «لو قمنا بتسميم حــوالى 12 أو 15 ألفاً من العبريين الفــاسدين». كما تحدث هتلر بوضوح ساطع، عن ضـــرورة «إبادة» اليهود عن وجه الأرض في خطاب ناري له في 30 كانون الثاني (يناير) 1939، قال فيه: «لو نجح مموّلو اليهود الدوليون في داخل أوروبا وخارجها، في زجّ أمـم العالــم في حرب عالمـية أخرى… فــإن النتيجة ستكون إبادة العرق اليهودي برمته عبر أوروبا». هذا هو التاريخ الذي يسعى نتانياهو أن يوقفه على رأسه.
الحياة