التغيير والمسألة الكوردية في سوريا
سربست نبي
كيف نفسر هذا التحول العاصف في النظم السياسية وفي المجتمعات؟ وما الذي يمكننا أن نتوقعه بالنسبة إلى مصير القضية القومية سياسياً؟ وما هو الدور المحتمل والمؤثر الذي بمقدور الكورد السوريين القيام به؟ وفي هذا السياق يتعين علينا أن نلحّ بصورة دائمة على التقابل الأساسي، بنظرنا، بين واقع الشعب الكوردي القائم، واقع العبودية والاضطهاد والإملاق، وبين ما ينبغي أن يكون عليه واقعه مستقبلاً، وما نطمح إليه..
المسألة الرئيسة تكمن في كيفية المصالحة مع المستقبل في هذه الجغرافية السياسية، وهذا ما يمكن أن نتوقعه من هذا التحول التاريخي. وفي هذا السياق تشكل الدولة الوطنية- الحديثة الإطار السياسي والحقوقي الأرقى لتنظيم الحياة المشتركة في هذه الجغرافية. كل ذلك عبر المساهمة الحرّة للجميع في تقرير مصيرهم السياسي، والسعي إلى أن يكون مستقبلهم هو ذاتهم، ولا شيء غير ذاتهم، المستقبل الذي ينبغي أن يسهموا في صناعته ويحققوا ذاتهم فيه تحقيقاً حرّاً.
منذ انقلاب آذار 1963 احتكر البعث وأيديولوجيته القومية الحياة السياسية في البلاد وقسرت المجتمع على التطبع بشعاراته الثوروية وعلى السير طبقاً لمصادراته الأيديولوجية ومقاصده، وقد انعكس ذلك على مجمل مناحي الحياة العملية والنظرية. إذ قدّ الدستور السوري الحالي على مقاس دستور حزب البعث، بل يمكن عدّه مجرد حواشٍ على متنه الأيديولوجي. وتميّز بهيمنة الأيديولوجية القومية العنصرية عليه، والتي تؤكد سيادة عنصر قومي دون غيره، وربط المواطنة السورية واختزالها في مطالب الأيديولوجية العروبية. ففي مقدمة الدستور التي تعدّ جزءاً لا يتجزأ منه، يلاحظ استخدام كلمة (عربي) و(عربية) أكثر من ثلاثين مرة، ويعزز هذا المنحى القومي المنطلقين(1-2) ثم تترى المواد والفقرات التي تؤكد ما سبق. في الفقرة (1) من المادة الأولى تحدد اسم الدولة بـ(الجمهورية العربية السورية) وفي الفقرة (2) منها (القطر العربي السوري هو جزء من الأمة العربية) وعلى كل فرد سوري جدير بالمواطنة أن يلتزم العمل من أجل وحدة الأمة الشاملة، فـ(المواطنون في الجمهورية العربية السورية هم فقط العاملون من أجل الوحدة العربية الشاملة). وفي المادة (4) (اللغة العربية هي اللغة الرسمية)، حيث تمّ تجاهل وجود أية لغات قومية أخرى في البلاد وإنكارها. وتُلزم جميع المواد التالية (116-96-90-63-7): رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء والوزراء ونوابهم، وأعضاء مجلس الشعب، عبر القسم الدستوري بالعمل على تحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية. كذلك الأمر مع المادة (11) الخاصة بمسؤوليات القوات المسلحة. وفي الاقتصاد والتخطيط الاقتصادي المادة (13)، كما في التعليم والثقافة طبقاً للمادة (21) حيث ورد:( يهدف نظام التعليم والثقافة إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي، علمي التفكير، مرتبط بتاريخه، معتز بتراثه، مشبع بروح النضال من أجل تحقيق أهداف أمته في الوحدة والحرية والاشتراكية). والمادة (23) (الثقافة القومية الاشتراكية أساس بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد، وهي تهدف إلى تحقيق القيم الأخلاقية والمثل العليا للأمة العربية)، وحتى في النطاق القضائي بينما كانت الأحكام تصدر فيما مضى باسم (الشعب السوري) صارت بموجب المادة (132)(من الدستور الحالي تصدر باسم (الشعب العربي في سوريا). وماذا بعد كل هذه الـ(بعثنة) العروبية للبلاد، التي استعانت بكل تقنيات احتكار السلطة من النازية واستلهمت ممارساتها الأيديولوجية وخبراتها البيروقراطية!!!
بات التغيير أقرب الآن بالنسبة إلى الشعب الكوردي خصوصاً أكثر من أي وقت مضى. بموازاة ذلك أخذ يعي بعمق ضرورة تخطي وضعه الراهن المذلّ، نحو وضعٍ يليق بكرامته الإنسانية.
كانت إرادة التغيير حاضرة على الدوام لدى الكورد السوريين، إلا أنها كانت تسبق وعيَ التغيير ومنفصلة عنه. كانت إرادة مجردة لا تاريخية، وقد باتت الآن متلازمة مع الوعي التاريخي بالتغيير ومتوحدة به.
معضلة الكورد السوريين لم تعد، بعد الآن، مع نظام الاستبداد العنصري في سوريا، لأن مسألة بقاء هذا النظام من عدمه غدت مسألة وقت ليست إلا. إنما المعضلة الرئيسة هي مع تركة النظام السياسية والاجتماعية، من استعباد وتشويه وإقصاء وتعريب للكورد والجغرافية الكوردية….الخ التي ينبغي أن تزول بزوال النظام، وهذا هو المحك الذي ينبغي لأيّ نظام بديل ومحتمل أن يثبت جدارته الديمقراطية وشرعيته الوطنية الشاملة عليه. وما يبدو جوهريّاً بالنسبة لنا وحيوياً بالنسبة لمستقبل قضيتنا هو إعلان الثورة أولاً على تركة النظام العنصري.
من هذا المنطلق تبدو مسألة التغيير من أجل ذاته( التغيير من أجل التغيير) عبثية وتشكل خيانة وطنية وإنسانية، لأن الغاية القصوى التي يبرر بها التغيير تنبع من مبدئها، وهي التخلص من الاستبداد السياسي- العنصري وميراثه، والإتيان بنظام ديمقراطي- تعددي يقوم على المساواة بين المواطنين ويضمن اختلافهم. وهذه المساواة المنشودة لا تتجه بأثرها نحو مطالب المستقبل فحسب حتى يضمن الكورد حقوقهم المشروعة والعادلة، وإنما يتعين أن تتحقق كذلك بأثر رجعي، وذلك عبر إزالة آثار الغبن القومي والاضطهاد الذي تراكم خلال عقود من سياسات البعث. وعليه يبدو ضرورياً وأمراً ملحاً أن تتطهر تماماً الدولة السورية، مستقبلاً، من ماضيها الاستبدادي والعنصري، وتتخلص من ميراث التعسف بحق الكورد، عبر مجموعة من التدابير السياسية والتشريعية، وحتى الرمزية، التي تؤهلها لأن تكون دولة عموم مواطنيها، وتثبت على هذا النحو أنها مستقلة عن كل المظاهر الأيديولوجية والعنصرية التي طبعتها بطابعها.
ما يجدر ذكره، في هذا السياق، أنه ليس ثمة بيّنة أو قرينة تنبئ عن استعداد المعارضة العربية السورية على الاعتراف بالحقوق القومية للكورد السوريين، أو إعلان القطيعة مع ميراث البعث العنصري وسياساته الإنكارية تجاه الكورد وقضيتهم حتى هذه اللحظة. وهذه القوى حين تجد نفسها مرغمة على الحديث عن الشأن الكوردي السوري إنما تتحدث بطريقة عمومية وضبابية أقرب ما تكون إلى تصريحات وزراء أعلام حكومة البعث وناطقيه. وهي في ذات الوقت تطالبنا بتأييد مطالبها السياسية بحزم دون الاكتراث لحقوقنا العادلة بالمقابل. ويتعذر اليوم الحديث عن تحالف مشترك للمعارضة السورية، شامل للكورد والعرب، بغياب هذا الخطاب الديمقراطي، الجذري والشامل، الذي يحتوي مطالب الكل ويستغرقها، ويؤكد على عدالة القضية القومية للكورد السوريين.
إن الاعتقاد بسوريّة القضية الكوردية والاعتراف بها، من جانب هؤلاء، لا ينبغي أن يقوما على أساس وعي عروبي مجرد، وإنما من خلال وعي سوري مشخّص. وعي بالمواطنة القائمة على الاختلاف والإقرار بالتعددية السياسية والتاريخية والثقافية. وهذا الاعتقاد لا يكون ممكناً إلا عبر الإقرار الدستوري والسياسي أن هويّة سورية السياسية ليست عربية فقط، ولا ينبغي أن تكون عروبية كذلك، إنما هي تعددية. وينبغي لأيّ نظام سياسي محتمل أن يستمدّ شرعيته من المجتمع السوري بتنوعه القومي والثقافي والاجتماعي والتاريخي القائم، وأن يجد أسسه الواقعية في هذا التنوع ويعكسه في مبادئه العامة. وعادة ما يكون الدستور هو الناظم لهذه المبادئ العامة ولعلاقاته. ولهذا من العدل تماماً أن ينصّ الدستور السوري مستقبلاً ويحدد بوضوح أن الدولة السورية هي دولة متعددة القوميات، وأن العرب والكورد يمثلان القوميتين الرئيستين. إلى جانب الاعتراف بحقوق الجماعات القومية الأخرى كـ الكلدوآشوريين وغيرهم. وأن على أيّ دستور ديمقراطي محتمل لسوريا أن يقرّ بالتساوي التامّ بين العرب والكورد في المكانة والدور، وفي الحقوق والوجبات، كمدخل عادل ورئيس لحلّ القضية القومية للكورد في سوريا. وعليه أن ينصّ كذلك بأن البرلمان، أو أيّة سلطة أخرى، لا يملك حق المساس، بهذا المبدأ، أو يحدّ من شموليته ومن تحققه في كلّ مناحي الحياة السياسية أو الاجتماعية، وأن أيّ قانون يمسّ هذا المبدأ أو وجاهته يطعن في دستوريته، ويعدّ مخالفاً لعقد التأسيس والشراكة، وباطلاً في نهاية المطاف.
الانتماء لسوريا هو أعدل الأشياء بيننا، هذا ما ينبغي إعلانه والتأكيد عليه. وبكل المعايير ليس هناك من هو سوري أكثر من سواه أو أقلّ سوريّة. سورية هي للجميع دون تفاوت أو تفاضل. ولا معنى لحرية أيّة جماعة من دون هذه المساواة بين الكل. وعلى أيّ نظام سياسي محتمل يتصدى للتغيير أن يبرهن على أرض الواقع، وبصورة عملية، أن سوريا هي كورديّة بمقدار ما هي عربية، وعربية بمقدار ما ستكون كوردية. وهي في الآن نفسه ليست كوردية، أو لن تكون كذلك، بمقدار ما لن تكون عربية وحسب. وعدم القبول بهذه البداهة السياسية والثقافية سيقود المجتمع والدولة مجدداً إلى الخضوع لطغيان فئة أو جماعة عرقية، ويستبعد البقية.
إن طموح الكورد في المواطنة التامّة والمساواة الحقيقية لا ينبغي أن يفهم على أنه اختراع أيديولوجي أو سياسي، إنما هو شرط سياسي وتاريخي لكمال الدولة السورية ونضجها، ومقدمة لشرعيتها و استمرارها، وتجسيدها لوحدة إرادة السوريين جميعاً. وهذا هو الجواب الحقيقي على السؤال التاريخي الكبير: هل الكيان السوري سيظلّ صالحاً لبقاء الكورد فيه أحراراً، ومتساوين مع غيرهم، دون قسرٍ، أو إنكار، أو إكراه، أو إرهاب؟ وكيف؟ هنا تبرز أهمية تكريس القناعة التالية، إن حرية الكورد ومساواتهم في سوريا هي شرط لحرية جميع السوريين ومساواتهم. ذلك أن قضية حرية السوري بوجه خاص، وحرية السوريين بوجه عام، تتصل عميقاً بمسألة مساواة السوريين جميعاً على اختلاف انتماءاتهم، فإن لم يتساوَ الجميع يغدو الحديث عن حرية السوريين لغواً فارغاً.
إن كمال التحرر السياسي للدولة السورية، وبروز دولة المواطنة الشاملة والقوانين المدنية الموحّدة، التي تنفي كل إمكانية لممارسة القهر السياسي والاضطهاد بحق جماعة أو فرد، يعني في الوقت نفسه، اكتمال المجتمع المدني ذاته وتقدمه، الذي يشكل التنوع الخصب والاختلاف هويته الواقعية. ومن ثم فإن عجز الدولة السورية، مستقبلاً، عن التغلب على حالة اللاتكافؤ السياسي والاجتماعي بين تلك التعدديات والجماعات القومية المكونة للمجتمع السوري، بتحولها مجدداً إلى سلطة فئة عرقية أو حتى دينية أو طائفية، يعدّ ذلك إخفاقاً ذريعاً لها عن أن تكون دولة الحرية والمساواة والأمن لجميع مواطنيها، ويقوض بالتالي كل إمكانية واقعية أو شكلية لنشوء عقد اجتماعي- سياسي ومدني قائم على التسامح والاختلاف والتعايش، عقد شراكة جديد في الحياة الوطنية.
لقد عارض النظام البعثي في سوريا، نظير البعثي العراقي الآفل، القائم على التسلط الفردي والقومي، هويّة سوريا التاريخية- التعددية بالجوهر القومي الخالص، أو العرقي. وغدا ذلك الحقيقة الرسمية للسلطة في سوريا. ومن هذا المنطلق فقد تنكر للواقع القائم ليس على المستوى السياسي فحسب، وإنما أيضاً على مستوى الواقع الاجتماعي والتاريخي. وأرست أيديولوجيا الاستبداد أسساً عرقية ومذهبية للنظام السياسي في سوريا وكرّستها. وكان على المجتمع برمته، بما ينطوي عليه من تنوع تاريخي وتعدد، أن يتوافق مع قيم النظام السياسية والثقافية توافقاً كلّياً. وأن يستبعد، بالمقابل، قيمه الخاصة وهويته القائمة على الاختلاف بغرض إثبات تجانسه التام مع المزاعم الأيديولوجية المعلنة. فلم يكن بوسع أيّ فرد آخر ممارسة دوره السياسي، من موقع هويته القومية أو خصوصيته الثقافية. إذ كان عليه أن يتطبع مع المجالين السياسي والاجتماعي حتى يتطهر فيهما تماماً، ويتماهى. كلّ ذلك عبر وسائط، أو من خلال حزب، أو جهاز كليّ القدرة. فلا يبقى لهذا الفرد من هوية مجتمعية أو خصوصية إنسانية، أو قناعة، أو رأي، إلا بمقدار ما يستجيب لهذا الغرض.
الوطن يكون للجميع، على نحو عادل ومتساو، حين لا يميز بين مكوناته في الحقوق والمكانة، وحيث ينتفي فيه التسلط والجور والاستعلاء القومي. وبخلاف ذلك يسود التنازع والاحتراب ويكون مآله التفكك. وتتأسس هذه الشراكة الحقيقية، التي ينتفي فيها التمايز والتراتبيات، على التسليم بالمساواة القصوى كمبدأ لسلوك الدولة وقاعدة لممارساتها. وهذا الأمر يتطلب، كما أشرنا، أن يترجم النظام السياسي هذه المساواة بين الجماعات السورية بحيث يتناسب مع تطلعات الكل وإرادتهم في البقاء والعيش المشترك، بموجب عهد مواطنة جديد ينتفي فيه كل إمكانية لعدم التكافؤ في الفرص وفي تأكيد الذات الجمعية والهوية، وتلغى الشروط النظرية والعملية، التي عززت، وتعزز من مكانة جماعة على حساب أخرى.
وحين لا تكون الدولة منحلّة في هوية قومية أو عرقية ما، أو مذهبية، أو أية أيديولوجية أخرى، ولا تكون محددة بها أو مستلبة لها، تكون كل جماعة قومية موضوعاً للحقوق وغاية لها على قدم المساواة مع الأخريات. وبمقتضى هذا الإقرار يحق لها المشاركة في الحياة السياسية وفي التمثيل السياسي.
وحين لا تعود أيديولوجية قومية بعينها، دون سواها، هي روح الدولة وجوهر السلطة السياسية، أو تختزل طبيعة تلك في الأولى، تصبح الأخيرة ممثلة لجميع مكوناتها. فلا ينشأ أيّ تعارض بين انتماء الفرد الخاص وانتمائه العمومي للدولة أو المجتمع السياسي. فالخاص يصبح متمثلاً في العام والعام يغدو ممثلاً للخاص في هذه الحالة.
هكذا يتمّ إلغاء التفاوت السياسي بين الأفراد والجماعات حين ينزع الطابع الأيديولوجي القومي عن الدولة المتعددة الثقافات. وعندئذ تؤلّف المواطنة وحدتها، وتنحل الفوارق وأشكال التمييز بالمواطنة وبوساطتها بالذات. وتحرر الدولة الوطنية من الأيديولوجية القومية، أو العرقية، على هذا النحو، يعني في المحصلة تحرر المواطن سياسياً من انتماءاته الـ قبل المدنية. وتحررها من أيديولوجية البعث يعني عدم اعترافها بأي امتياز لقومية أو تفاضل لعرق دون سواه، وتأكيد ذاتها كدولة مواطنة على نحو محض، بصفتها دولة مواطنين ليس إلا.
لا تكترث الدولة المتحررة من الأيديولوجية القومية لخصوصية مواطنيها القومية، طالما وأنها لا تعد من القومية أو العرق أساساً لها. وهذا ما يؤسس لمفهوم أو تصورٍ جديد للمواطنة قائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات، عوضاً عن التصور العرقي السائد والمهيمن. وفي المآل يؤدي إلى نظام مدني متميز عن سلطة البطش العنصري والاستبداد. فالمواطنة الحقيقية التي استبيحت في دولة البعث وأقصيت عملياً عن الحياة السياسية، ستبدو كذلك غامضة وملتبسة ومشوّهة على الدوام ما لم تترجم في شكل نظام يمثل العموم بالفعل.
هنا يغدو سند الكوردي أو العربي، أو الآشوري، في التمتع بحقوقه نابعاً من صفته كائناً سياسياً، وهو في هذا يتساوى مع غيره من الأفراد. إذ لا يعود بمقدور الدولة أو أيّ نظام سياسي أن يميز بين المواطنين، فتمنح بعضاً حقوقاً وتمنع آخرين منها بذريعة أيديولوجية ما، وإنما يتعين عليها حالئذ أن تتصرف بما يضمن المساواة بين أعضاء المجتمع جميعاً وتعدل بينهم في الحظوة والمكانة.
في هذه الحالة، يمكن للدولة المتحررة من هيمنة أيديولوجية أو نزعة القومية أحادية، حتى إذا لم تنقطع غالبية مواطنيها عن الانتماء القومي، أن تعترف بخصوصية جميع الهويات المكونة للمجتمع المدني، وتتمثلها على نحو متساو، دون أن تتماهى معها، وإنما تتسامى عليها سياسياً بصفتها دولة جميع المواطنين. وفي الوقت نفسه يتحرر المواطن من الانتماء العرقي الجزئي، أو غير ذلك من الانتماءات الاجتماعية أو المعتقدية، دون أن يتنكر لهما، ويرقى حين يعلن انتماءَه السياسي للدولة، فهو يتعرف على نفسه عند هذا المستوى بصفته كائناً عمومياً.
يتطلع الكورد السوريون اليوم إلى وضع سياسي ودستوري، يمكّنهم من ممارسة دورهم السياسي مباشرة. ويعني ذلك امتلاكهم للقدرة السياسية المشروعة التي بفضلها يمكنهم تقرير مصيرهم بحرية ودون إكراه. وهم يبحثون عن الشروط الموائمة للمساواة الحقيقية، في بلد أكثر تنوعاً وانفتاحاً، المساواة التي تتيح بالفعل إمكانية التعايش بصورة متكافئة. وينشدون الضمانات الواقعية (الدستورية، السياسية، الثقافية) التي تحول دون كل أشكال التمييز القائم والمتوارث، بحقهم، وبحق غيرهم من الأقليات القومية المهمّشة. حيث يمكن للكوردي السوري، المقصيّ والمغيّب حتى هذا الوقت، أن يكتشف على نحو ملموس الأساس المنطقي والأخلاقي في نظام سياسي جديد، ويزداد وعيه بالانتماء إليه ويعزز.
من هنا يبدأ العمل الوطني على أساس شراكة وطنية عامة وفعلية. دون إقصاء أو إنكار. فسوريا الغد، لن تكون ميراثاً لأحد، أو لجنس دون آخر، إنها لكل السوريين على نحو متساو وعادل. ولا يمكن لطرف أن يستأثر بها بعد الآن أو يتصرف على نحو يتجاهل حق الآخرين فيها. والمصلحة المشتركة لكل السوريين هي التي ستضمن بعد الآن وحدة المجتمع السوري وانسجامه وتماسكه، وليست الشعارات القوموية الوحدوية الفارغة. وهو ما سيشكل إنجازاً تاريخياً بالفعل.
ذلكم هو الأساس الذي يمكن للكورد المهمشين تاريخياً، المغيبين والمقصيين عن الشراكة السياسية والوطنية، المجردين من المواطنة وحقوقها، أن يعيشوا ذواتهم في إطارهم الوطني بصورة أعمق، بعد أن يستردوا دورهم التاريخي الذي بدده عسف الاستبداد والسلطة القومية العنصرية. بهذا فقط يمكن أن ينتهي اغترابهم السياسي، ويزول التعارض بين إرادتهم القومية وإرادة المركز السياسي، ويثبت الكورد أن حياتهم القومية لا تتعارض مع حياتهم الوطنية.
ضمان الحرية الطبيعة للإنسان ليس هو الغرض اليتيم للديمقراطية. كما أنها لا تستهدف فقط هيمنة أغلبية أو طغيانها على ثقافة الأقلية باسم هوية الأكثرية القومية. إذ تشترط الديمقراطية مقاومة هذه الهيمنة باسم الحرية، واحترام التعددية، وحماية التنوع وإنتاجه على نحو أرقى. ومثال ميلوزوفيتش والقوميين أمثاله أسطع برهان على ذلك. فقد كانوا يمثلون أغلبية عظمى من الرأي العام القومي، أغلبية قومية متعصبة، مشحونة برفض الغير. ومع ذلك شنّوا حرباً عنيفة ضد الأقليات، باسم النقاء القومي والتجانس العرقي. فلا يمكن القبول بأي تعريف للديموقراطية في مثل هذه الحالة، إلا بوصفها سيادة الاعتراف بالآخر وحماية اختلافه واحترامه ، كما يقول تشارلز تايلور.
إن طغيان الأغلبية واستبدادها يمثل تهديداً جديّاً للمساواة والحرية معاً، وللديمقراطية إجمالاً. وبخاصة عندما تكون أغلبية منتخبة ومستقطبة حول أيديولوجية دينية أو قومية عنصرية، كما ينوّه تورين. إذ أن هيمنة هذه الأغلبية ستعيد إنتاج أشكال جديدة من عدم المساواة، وأنماط أخرى من التمييز المصحوب بالعنف السياسي والإقصاء والقهر، حينما تغدو تلك الأغلبية مستأثرة بالسلطة السياسية وتكون مصدراً للتشريع والقوانين، فتعمد إلى الإنكار وإقصاء الأقلية وتهميش إرادتها.
المستقبل