“نيتشه: شوبنهاور مربّياً”… إضطهدوا الفلاسفة
أسامة فاروق
“نيتشه: شوبنهاور مربّياً”… إضطهدوا الفلاسفة!
اختار نيتشه الحديث عن شوبنهاور كطريقة لاكتشاف ذاته
كتب نيتشه نص “شوبنهاور مربّياً” العام 1873 ضمن الجزء الثالث من كتابه “تأملات خارج الأوان” الذي نشره في 1887. النص كان في الأصل اعترافاً بفضل أستاذه، لكن النتيجة النهائية التي خرج بها حملت ما هو أكثر من ذلك بكثير.
اختار نيتشه الحديث عن شوبنهاور كطريقة لاكتشاف ذاته، فالنص في الحقيقة يعرض لأفكار وتصورات نيتشه نفسه عن الفلسفة والعلم والجامعة والحياة، وملامح للعديد من الأفكار الأخرى التي اشتغل عليها في ما بعد. بل يمكن اعتباره “مانيفستو” عن علاقة الفيلسوف بالدولة، يبدأ بنقد الفكرة التي تقول إن الدولة هي الهدف الأسمى للإنسان، أو أنه ليس لدى الإنسان واجب أسمى من خدمة الدولة. ينظر نيتشه إلى هذه الأفكار باعتبارها ليست عودة إلى الوثنية فحسب، بل إلى الغباء أيضاً: “ربما يحدث أن رجلاً يعتبر خدمة الدولة بمثابة واجبه الأعلى، لا يعرف في الحقيقة واجبات أسمى؛ وواحد من هذه الواجبات التي تبدو على الأقل أسمى من خدمة الدولة، هو واجب إزالة الغباء بكل أشكاله، الذي يتضمن من الطبيعي هذا النوع من الغباء أيضاً”.
يرى نيتشه أن كل شيء في الأرض الآن تقرره “أكثر قوى الشر شراسة وشراً”، ويقصد أنانية التجار والقادة العسكريين، وتقوم الدولة التي يسيطر عليها هؤلاء العسكريون -تماماً مثل التجار الأنانيين- بمحاولة لإعادة تنظيم كل شيء طبقاً لها: “الدولة ترغب أن يعبدها الناس كإله، بالطريقة نفسها التي عبدوا فيها ذات مرة الكنيسة”، لتصل إلى نتيجة واحدة، أن تجعل من مواطنيها نسخاً متشابهة، “حتى إذا سألهم أحدهم لماذا يعيشون، فإنهم سيجيبون جميعاً بفخر: لكي نصبح مواطنين صالحين أو علماء أو رجال دولة”. يسأل نيتشه: ولماذا يكونون هذا بالذات؟ وليس يا للحسرة، شيئاً أفضل؟ الإجابة تأتي في ثنايا تعليقه على فكرة المواطن الصالح إذ يقول إن من يرى حياته مجرد نقطة في تطور عرق، دولة أو علم، ويعتبر نفسه على هذا النحو منتميا كليا إلى تاريخ الصيرورة، لم يفهم الدرس الذي منحه إياه الوجود، وعليه أن يتعلم ذلك في مناسبة أخرى: “هذه الصيرورة الخالدة هي مسرحية دمى مزيفة، تجعل الإنسان ينسى نفسه.. تتوقف بطولة الحقيقة على أن يكف الإنسان أن يكون ذات يوم الدمية التي يلعب بها”.
يعود نيتشه ليؤكد أن الدولة لم تكن مهتمة أبداً بالحقيقة ذاتها، لكن بالحقيقة النافعة لها فقط، أو بصورة أدق: إنها تهتم بكل شيء ينفعها، لهذا يمكن أن يكون التحالف بين الدولة والفلسفة ذا معنى فقط حين تتعهد الفلسفة أن تكون مفيدة للدولة: “سيكون بالتأكيد أمراً ممتازاً للدولة، لو تكون الحقيقة في خدمتها أيضا؛ لكن الدولة تعرف جيداً أن هذا يتعارض مع جوهر الحقيقة، أن تقوم بخدمة أو تتلقى نقوداً. وبالتالي، فإن ما تملكه الدولة، وفقاً لهذه الرؤية، هي الحقيقة المزيفة فقط.
الفلسفة كانت دائماً مضادة للدولة، بحسب ما يرى نيتشه، وهدف الفلاسفة دائماً إقلاق الدولة وإيقاظها من سباتها، لذا يدعو لأن ترفع الدولة يدها عن الفلسفة، ويقول: “لندع الفلاسفة يكبرون من دون تعهد بالعناية، نحرمهم من كل أمل بمناصب أو مراكز في الوظائف البرجوازية، ونكف عن إغرائهم بالمكافآت”. بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: “إضطهدوهم، وانظروا إليهم بلارحمة- فسترون أشياء مدهشة!”.. سيهربون في كل الاتجاهات، سيصبح أحدهم قساً، وآخر معلّماً، الثالث سيتسلل إلى وظيفة محرر في صحيفة، والرابع سيكتب كتباً تعليمية، سيحرث أكثرهم ذكاء حقولاً، وسيسعى أكثرهم غروراً إلى البلاط، بذلك سنكون قد تخلصنا من “الفلاسفة الرديئين”، بحسب تصوره، “وهذا في كل الأحوال أكثر صواباً من مناصرة الدولة علناً لأي فلسفة، بغض النظر عما تكون”.
باختصار، يدعو نيتشه إلى تخليص الفلسفة من كل الزوائد والشوائب العالقة بها، حتى من الجامعة نفسها، بل يريد للجامعة أن تصبح مثل الفلسفة، ومتى حدث ذلك “ستعرف كيف تؤدي واجبها باستقلالية عن الدولة، بلا رواتب أو ألقاب، ومتحررة من روح العصر ومن الخوف منه”.
كل الأفكار التي يطرحها نيتشه ليست بعيدة عن السياق الأساسي الذي يكتب فيه النص، فكل ما طرحه هو باختصار طريقة عيش شوبنهاور، كفيلسوف مفيد للجامعة –وغير محبوب منها، إذ لم ينصهر مع الجامعة، بل بدلاً من ذلك راح يراقبها من مسافة بعيدة، بحيث يمكنه تقييمها. سعى دائماً لأن يكون مستقلاً عن الدولة والمجتمع ليتحرر: “هنا بالذات فإنه مثال، نموذج”. لكنه، رغم عظمة دوره، كان محدود التأثير: “ليس هناك أكثر خزياً لإنسان شريف في عصرنا من أن يرى كيف يؤثر شوبنهاور عرضاً فيه، وأيه قوى أو معجزة كانت مسؤولة حتى الآن عن أن يغدو تأثيره محدوداً جداً”. ويعود السبب في ذلك، بحسب رأيه، إلى معارضي شوبنهاور الأدبيين الفعليين و”الجوقة” المهللة من المعارضين، لأن عدداً قليلاً جداً من القراء هم من يتحمل قراءة كتبهم.
الظروف التي نشأ فيها شوبنهاور كانت كفيلة بخنقه، لكنها خلقت منه فيلسوفاً، والفضل في ذلك كما رأى نيتشه، لوالده الذي أنقذه من أمه “المغرورة والمدعية”، فمنحه والده شخصيته الرجولية الصارمة والصلبة، واصطحبه في رحلات خارجية كانت نافعة له بشدة، “علّمه أن على الإنسان أن يتعلم، لا أن يحترم الكتب، بل البشر، لا الحكومات بل الحقيقة”. فالفيلسوف لدى نيتشه ليس مجرد مفكر كبير، بل هو أيضا إنسان حقيقي، لذا يرى أن من أهم ميزات شوبنهاور الإضافية إنه لم يتم اختياره وتربيته منذ البداية ليكون باحثاً. بل عمل في الواقع، على مضض في مكتب تاجر، وتنفس هناك في كل سنوات شبابه الهواء الحر لبيت تجاري كبير. لماذا يقول نيتشه هذا الكلام؟ “لأن الباحث لا يمكنه أبداً أن يكون فيلسوفاً”! يفسر: إن هذا الذي يسمح للمفاهيم، الأفكار، أحداث الماضي، الكتب.. أن تقف بينه وبين الأشياء، هذا الذي ولد، بناء على ذلك بمعنى أوسع، من أجل علم التاريخ، لن يرى أبدا الأشياء من المرة الأولى، ولن يكون هو نفسه أبداً، واحداً من الأشياء المرئية التي ترى للمرة الأولى؛ لكن هذين الشرطين معاً يخصان الفيلسوف؛ لأن أغلب التعاليم التي استوعبها كان عليه أن يكسبها من خارج نفسه ولأنه يقدم نفسه كانعكاس وتجريد موجز لكل العالم.
كان شوبنهاور محظوظاً بصورة لا توصف، بحيث أنه لم يكن قادراً على رؤية العبقرية من كثب في نفسه وحسب، بل وأيضاً في غوته، فمن خلاله كوّن لنفسه معرفة وحكمة راسختين عن كل الثقافات والأهداف العلمية، وعرف بفضل هذه الخبرة كيف ينبغي على الإنسان القوي والحر أن يكون مختلفاً.
تعلم نيتشه الكثير من شوبنهاور، ونقل عنه طرق التمييز بين الأشياء التي تحث حقاً على سعادة الإنسان وتلك التي تفعل ذلك ظاهريا فقط. ويعلّمنا أنه لا الثورة ولا السمعة أو التعليم يمكنها أن تنقذ الفرد من اليأس العميق الذي يحسه بسبب تفاهة وجوده؛ وأن كل سعي نحو هذه القيم تكسب معنى فقط إذا تم إخضاعها إلى أنبل وأسمى الأهداف: أن نربح القوة لكى نستخدمها لمساعدة الطبيعة لفترة وأن نصحح قليلاً من حماقتها وسماجتها، في البداية لنفسك فحسب لكن في نهاية المطاف من أجل الجميع.
لهذا كله، يرى نيتشه فى شوبنهاور أفضل المربّين على الإطلاق. فهو يمتلك الشروط التي ينبغي توافرها ليظهر العبقري في عصرنا: شخصية رجولية حرة، معرفة مبكرة عن الإنسانية، بلا تربية علمية، حر من كسب لقمة العيش، لا روابط مع الدولة. باختصار، هو الجو نفسه الذي نشأ فيه فلاسفة اليونان. لكنه، ولهذا كله أيضاً، يرى أن العثور على مثل هؤلاء المربّين الأخلاقيين أمر صعب جداً: “فأين هم أطباء الإنسانية الحديثة، الأقوياء والصامدون كفاية، بحيث تكون لديهم القدرات لمساعدة الآخرين وإرشادهم إلى الطريق؟ ثمة كآبة وخمول خاصين تنتابان أفضل شخصيات عصرنا”.
(*) صدرت ترجمة كتاب “شوبنهاور مربّياً”، بنشر مشترك عن منشورات ضفاف، ومنشورات الاختلاف، ودار أوما، ودار الأمان. وترجمه: قحطان جاسم
المدن