غولن والاستخبارات الأمريكية: تفكيك الحبكة/ صبحي حديدي
يزور المرء الموقع الرسمي لـ»حركة غولن» على الإنترنت، فيقرأ ـ تحت فقرة «هل تبحث حركة غولن عن السلطة السياسية في تركيا؟» ـ أنها لا تفعل؛ ومع ذلك فهي «تهدد نظام النخبة التسلطي القائم، عن طريق تعليم السكان، والتواصل مع الأقليات، ومساعدة الفقراء، والعمل من أجل المصالحة». والفقرة، ذاتها، تستعين بحوار مع الأكاديمي التركي حاقان يافوز، يؤكد فيه أنّ فتح الله غولن هو المحرّك خلف تحوّل عميق يشهده المجتمع التركي، حيث «ينتقل ميزان القوّة نحو مفهوم للحداثة ينبثق من الأسفل إلى الأعلى، ونحو رؤية جديدة للعلمانية».
فإذا انتقل المرء إلى كتابات يافوز الأخرى (والرجل كاتب سيرة غولن، بلا منازع)، فإنّ المشهد سوف يتبدّل؛ جذرياً أحياناً، وبما لا يرضي الجماعة البتة! غولن، في نظره، «مفكر مسلم تتردد في أفكاره أصداء الكالفينية [نسبة إلى المصلح الفرنسي جون كالفن ومذهبه البروتستانتي]، بسبب من دفاعه عن الرأسمالية الليبرالية. وهذه الخصائص أكسبته عدداً من الأصدقاء المهمين في وكالة المخابرات المركزية، وبعض صنّاع السياسة الهدامة في الولايات المتحدة». وليس سرّاً، في ضوء هذه الخلاصة، أنّ مدارس غولن خدمت كغطاء لعمليات استخباراتية أمريكية في أوزبكستان وقرغيزستان، وأنّ عدداً من مدرّسي الحركة تجسسوا لصالح المخابرات المركزية (لمزيد من المعلومات، يُنظر تقرير فيليب بتلر: «انقلاب تركيا: حبكة جيمس بوندية، أم ردّ طعنة خليج الخنازير؟»).
وفي أعمال مثل «نحو تنوير إسلامي: حركة غولن»، و»الهوية السياسية الإسلامية في تركيا»، و»الديمقراطية المسلمة والعلمانية في تركيا»، و»انبثاق تركيا جديدة»؛ اشتغل يافوز على ردّ الحركة إلى جذورها الأولى المبكرة، أي حركة المصلح الديني والاجتماعي التركي (الكردي) بديع الزمان نور الدين النورسي (1877 ـ 1960). لكنه يفصّل القول، أيضاً، في النفوذ السياسي الواسع الذي امتلكته الحركة عبر مدارسها وجامعاتها، ليس في تركيا وحدها، بل في آسيا الوسطى والبلقان ومنغوليا وبنغلادش وبعض أصقاع أوروبا الغربية، فضلاً عن أفريقيا (ويُراجع، هنا، كتاب غابرييل أنجي: «الإسلام التركي في أفريقيا: دراسة حول حركة غولن في كينيا»). وأما بصدد عدم انتشار الحركة في العالم العربي، فإنّ يافوز يرجع الأمر إلى سبب لافت حقاً: النزعة القومية التركية، ومشاعر النفور من العرب، التي ظلت مهيمنة على الحركة.
والحال أنّ صمت الولايات المتحدة الرسمي، طيلة ساعات سبقت اتضاح فشل الانقلاب؛ ومسارعة السفارة الأمريكية في أنقرة إلى توصيف الانقلاب بـ»الانتفاضة»، في رسالة إلى الرعايا الأمريكيين تمّ حذفها بعدئذ؛ والاجتماع العاجل لمجلس الأمن القومي الأمريكي، برئاسة باراك أوباما؛ وأخيراً لجوء السلطات التركية إلى إجراء غير عادي، وخطير بالمعنى الأمني التقني، هو قطع الكهرباء عن قاعدة إنجرليك… كل هذه كانت مؤشرات تُضاف إلى مناخ التباعد الذي هيمن على العلاقات الأمريكية ـ التركية خلال الأشهر الأخيرة. فإذا لم تكن المخابرات المركزية هي التي خططت مباشرة للانقلاب (وهكذا يقول المنطق السليم، مبدئياً)، فإنّ صلاتها الوثيقة مع حركة غولن تضع الكثير من علامات الاستفهام على دور، وربما أدوار، غير مباشرة في تشجيع الانقلاب أو تسهيله.
ويبقى أنّ حملات الاعتقال الواسعة في صفوف المدنيين، خاصة القضاة والأكاديميين والمدرّسين، التي شنتها السلطات الأمنية التركية بعد فشل الانقلاب؛ إنما تفضي إلى واحد من تفسيرين، أو كليهما معاً في الواقع: أنّ حركة غولن كانت متورطة، بالفعل، في الانقلاب، وعلى نطاق أوسع بكثير من النطاق العسكري؛ أو أنها بريئة منه، جزئياً أو كلياً، لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجدها فرصة سانحة للانقضاض على خصم لدود، لعله الألدّ أيضاً، فضرب بحجر واحد سرباً من العصافير/ الخصوم.
والأيام المقبلة، مثل التطورات المتلاحقة، كفيلة بتفكيك الحبكة، وإماطة اللثام عن حقائق شتى، متداخلة ومتشابكة.
القدس العربي