كيف صار اليسار حليفا للإسلاميين في الغرب/ حميد زناز
الحديث عن خوف باتولوجي من الإسلام في فرنسا لا يستقيم إذ لا يمكن أن تجد إنسانا يكره المسلمين لكونهم مسلمين أو يكره الإسلام مجانا.
أصبحت مواقف اليسار تجاه الأصولية في فرنسا وتحليلاته سخيفة بعد اعتداءات باريس وبروكسل. ما عدا اليسار الغارق في ملائكيته الساذجة، لقد بات واضحا للجميع أن المشروع الأصولي المعدّ لزعزعة فرنسا بغية أسلمة المناطق المأهولة بالسكان المنحدرين من الثقافة الإسلامية هو حقيقة وليس وهما. ولا داعي للتذكير بأن اليساريين يقدمون أنفسهم دائما في طليعة اللائكيين حينما يتعلق الأمر بالديانة المسيحية ولكنهم لا ينبسون ببنت شفة وهم يرون الإسلاميين يحتلّون ضواحي المدن الكبرى في فرنسا ويهددون العيش المشترك فيها والقيم الجمهورية في البلد كله. أنتم الذين تزعمون الكلام باسم الشعب قلت يوما لسيناتورة شيوعية كيف تخافون من انتصار اليمين المتطرف ولا تكترثون كثيرا بما قد يلحقه الأصوليون ببلدكم فرنسا؟
نحن لسنا عنصريين سيدي، قالت وأضافت متعجبة: أنت عربيّ وتفكر هكذا؟
بجملة واحدة، لخصت السيدة السيناتورة ما يدور في أذهان وتفكير هؤلاء الذين يحترفون معاداة الفاشية: العرب بالنسبة إليهم محكوم عليهم أن يكونوا مسلمين وينبغي أن تتعامل معهم الجمهورية على أنهم كذلك. وهي أحسن طريقة لركنهم في انعزالية معادية لكل اندماج في المجتمع الفرنسي. وفي رأيي ليس هناك من عنصرية أوضح من هذا.
“لا أعير أدنى اهتمام لما يسمّى أسلمة”، هكذا قال لي الشيخ الشيوعي الذي يرافق السيناتورة. وهو بالضبط ما قاله ليونيل جوسبان سنة 1989 للصحافية الفرنسية إليزابيت شملة، حينما كان وزيرا التربية “أن تتأسلم فرنسا، لماذا تريدين أن يهمني ذلك أو يؤثر فيّ؟ قد يقول قائل ربما قد تكون تلك مجرد ردود فعل آنية!”.
لا أبدا.. لننظر إلى الواقع كما هو.. هناك فعلا أسلمة على الأرض وليس مجرد أوهام اختلقها اليمين المتطرف العنصري بهدف تأجيج وإشاعة الخوف من الإسلام والمسلمين كما يريد أن يوهمنا الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي رفاييل ليوجيه في كتابه المعنون “أسطورة الأسلمة/ محاولة حول وسواس جماعي” الصادر سنة 2012. وكذلك أوليفييه روا ونيكولا تريونغ في كتابهما “الخوف من الإسلام” المنشور سنة 2015. فهل هناك صعود للإسلاموفوبيا في فرنسا كما يدّعي هؤلاء؟ هل هناك خوف مرضيّ من الإسلام؟
على عكس ما يدّعي بعض اليساريين المخاتلين هذا الخوف من الإسلام ما هو سوى كذبة. في حقيقة الأمر هذا الخوف الوهمي هو حيلة إسلاموية تهدف إلى إعطاء صورة خاطئة وخادعة عن وضعية المسلمين في فرنسا. فكلمة إسلاموفوبيا هي كلمة/فخ يتاجر بها أعداء العلمانية الفرنسية اليوم. هي مجرد كلمة تضليلية تقدم صورة مشوّهة عن وضع المسلمين في فرنسا كأنّ البلد أصبح مذبحة للمسلمين والعرب. استغلّ الإسلاميون الجو الديمقراطي وسذاجة بعض الفرنسيين وعقدتهم الكولونيالية لتمرير بعض الكلمات إلى الخطاب الإعلامي والسياسي، أقلّ ما يقال عنها إنّها تضليلية.
من أنجح هذه الكلمات لفظ “إسلاموفوبيا” التي يعمل كثير من المتلاعبين بالعقول على فرضها وإدخالها إلى قاموس اللغة اليومية وقد نجحوا نسبيا. والهدف مزدوج: أوّلا ليتسنّى للإسلاميين الضغط على المؤسسات من أجل افتكاك حقوق فئوية (مسابح وقاعات رياضية غير مختلطة، فرض الحجاب والنقاب، تجريم فقدان العذرية)، وثانيا ليتمكّن أعداء العلمانية الفرنسية من الدفاع عن لائكيتهم الجديدة مستغلّين الفوضى المفهومية المفتعلة.
لا يستقيم الحديث عن خوف باتولوجي من الإسلام في فرنسا إذ لا يمكن أن تجد بسهولة في هذا البلد إنسانا مكوّنا تكوينا طبيعيا يكره المسلمين لكونهم مسلمين أو يكره الإسلام مجانا. حتى الأقلية العنصرية لا تجرؤ على إظهار ما يختلج بدواخلها من أحقاد. ففضلا عن وقوف القانون بالمرصاد لكلّ من تسوّل له نفسه الاعتداء على الغير، تجد الأفكار العنصرية مناهضة من المجتمع المدني الفرنسي. في هذا البلد إرادة لجعل الإسلام يتمتع بمكانة مساوية لكلّ الديانات الأخرى، وهذا طبيعي في إطار العلمانية الفرنسية، ولن يستطيع الإسلاميون أن يغيروا شيئا حتى ولو استعملوا أبشع الطرق البربرية، كما فعلوا في حق صحيفة شارلي إيبدو حيث أطلقوا النار على المسلمين في فرنسا وكل العالم.
ولئن كان الإسلاميون العنصريون ينعتون هذا بالضالّ وذاك بالكافر المغضوب عليه عبر وسائل الإعلام ومختلف المواقع الإلكترونية دون أن يلاحقوا قانونيا، فإنّ إخوانهم في كره الآخر سرعان ما يجدون أنفسهم متّهمين في المحاكم و”مبهدلين” أمام الرأي العام بمجرّد محاولة التعبير همسا عن كرههم للآخر.
تنبغي الإشارة إلى أعداء العلمانية في فرنسا ليتضح الأمر: أولا: الإسلاميون بغية ممارسة الضغط على السلطات العمومية الفرنسية من أجل فرض التنازلات عليها في الأمد القصير ومحاولة تطبيق ما تسميه شريعة في الأحياء المأهولة من طرف أغلبية مسلمة في الأمد البعيد.
ثانيا: المنادون بما يسمونه “العلمانية الإيجابية” والذين يتسترون وراء كلمة إسلاموفوبيا ليحضّروا الميدان لعودة المسيحية للفضاء العام.
ثالثا: الحمقى الذين يعتقدون أن الإسلاموية حركة ثورية يمكن أن تكون حليفا لهم في صراعهم مع الرأسمالية ولكن هؤلاء ينسون أن الاتكال على الإسلاميين في إسقاط الرأسمالية هو الغباء بعينه.
ونظريا لا يمكن القول إن معظم مسلمي فرنسا هم ضد العلمانية! ولكن من يجرؤ على مصارحة المسلم الفرنسي أو الذي يعيش في فرنسا اليوم أن دينه يجب أن يبقى روحانيا لا يتعدّى المجال الشخصي، بعيدا عن الفضاء العام حسب ما تقتضيه مبادئ العلمانية الفرنسية؟ ألا نستنتج من كل استطلاعات الرأي في الموضوع أن جلّ المسلمين في فرنسا لا يرون الإسلام إلا كمنظومة كاملة “دين ودولة” كما تقول العبارة الشائعة؟ هل تعلمين أن شعار “القرآن دستورنا” الذي أطلقه الإخوان في العشرينات من القرن الماضي لا يزال يرفع اليوم في فرنسا ومن طرف رئيس “اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا” السابق الحاج تامي بريز الذي ردّد مرارا “القرآن دستورنا وهو الذي ينظم حياتنا”.
أما عمار لصفر فيقول حينما كان إماما لمسجد في مدينة ليل ورئيس الرابطة الإسلامية لشمال فرنسا فقال بالحرف الواحد “مفهوم المواطنة غير موجود في الإسلام. يوجد فقط مفهوم الأمة المهم جدا إذ الاعتراف بالأمة هو اعتراف بالقوانين التي تسيّرها”. واسمعي ما يقول اليوم بعد أن أصبحت الشكوك تحوم حول الإخوان بعد هجمات باريس ونيس ولاحظي كيف يمارس تقية الإخوان باحترافية عالية وهو على رأس اتحاد الجمعيات الإسلامية المذكور سابقا و”لا نريد الوصول إلى الحكم. شريعتي هي قوانين الجمهورية. شريعة المسلمين في فرنسا هي قوانين الجمهورية”.
والمتابع لنشاط الجمعيات الثقافية والشعائرية الإسلامية في فرنسا يلاحظ أنها لا تخرج عن منطق الأسلمة فهي تعمل بطريقة صريحة أو ضمنية على غرس في أذهان المسلمين المطالبة بافتكاك الاعتراف بالإسلام كدين وكطريقة حياة والحق على سبيل المثال في نسبية ثقافية تتيح لهم الزواج والطلاق والميراث على الطريقة الإسلامية. بكلمة واحدة يريد الإخوان ومن يدور في فلكهم سجن العرب والأمازيغ في إقامة دينية جبرية. وشخصيا لا أسمح لأحد أن يحدد هويتي بجزء من ذاتي سواء كان حقيقيا أو مفترضا إذ اعتبار البشر ككائنات محددة عن طريق ماهية ثقافية راسخة لا تتغير هو اعتداء على المواطنية.
فما العمل إذن لضمان العيش المشترك في فرنسا أمام الانعزالية المتصاعدة بين صفوف المسلمين في فرنسا؟
ينبغي رفض الرضوخ لأيّ مطالبة بقوانين استثنائية مهما كان مصدرها. أليس من واجب الجمهورية أن تحمي الفرد حتى من سطوة جماعته الدينية أو الإثنية؟ عندما نترك للمشعوذين نشر أخطر الأفكار فنحن نفتح باب الإرهاب والحرب الأهلية وهو ما يحدث في أغلب بلدان الغرب. في يوم من الأيّام تفاجأت بوجود كتاب في متناول القراء الشباب باللغة الفرنسية في إحدى المكتبات البلدية بفرنسا العميقة لا يختلف عن كتاب هتلر “كفاحي” في خطورته هو كتاب “الجهاد في الإسلام” للمودودي الباكستاني منظّر الأصولية الإسلامية! ودون الخوف من الكلمات سأقول دون لفن ولا دوران إن في دواخل كل مسلم يعيش اليوم في فرنسا تشتعل شبه حرب شجعها الإسلاميون واليساريون بمختلف طوائفهم عن طريق خطاب ديني في غاية التخلف وخطاب غبيّ يدّعي مناهضة العنصرية، بل يمكن الحديث عن حرب حضارات دائرة في بواطن أغلب المسلمين، حرب بين إيمانهم والحداثة التي تحاصرهم من كل جهة.
يجب على هذا اليسار أن يفهم أو يعترف بأنه لا مجال لتغليط الناس فالديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة وحرية امتلاك الجسد وحق الإيمان وعدمه وحق تغير الديانة.. ليست قيما تتناسب مع الإنسان الغربي فقط بل هي كونية ولا يمكن لأيّ ديانة تحقيقها بما فيها الإسلام.. أهم مشكلة يعاني منها اليسار الفرنسي والأوروبي عموما هو عدم فهمه لجوهر الظاهرة الدينية لسبب بسيط هو أن أوروبا قد أبعدت الدين من تسيير شؤون المدينة منذ ثلاثة قرون. ومن هنا فاليسار وحتى بعض اليمين لم يفهم بعد بأن حرية الضمير والحق في التفكير والتسامح واستقلالية الفرد والمساواة بين الجنسين وغيرها من المسائل لا يمكن أن تحل في إطار الدين. هذا اليسار وربما بحسن نية يعتبرنا غير ناضجين بعد لا لتبني العلمانية ولا الديمقراطية.
كفرد يستحق المؤمن كل الاحترام في بلد ديمقراطي ولكن حرية الرأي والتعبير تقتضي أيضا أن يخضع الجهاز الأيديولوجي الذي ترتكز عليه المرجعية الدينية إلى المساءلة النقدية أم ينبغي السكوت كما يفعل اليسار بدعوى عدم تقديم حجج إضافية لليمين المتطرف المتربص؟ شخصيا لا أريد أن أكون رهينة الظرف الفرنسي الموبوء بالخوف من تهمة الإسلاموفوبيا. ولن أساير هذا اليسار المتنكّر لقيمه والذي يواصل إنكاره السياسي الساذج للمسألة الأصولية في شعار سطحي لا علاقة له بالمعرفة مفاده أن “لا علاقة للأصولية بالدين الإسلامي”.
وقد ذهب بعض المثقفين بعيدا في تحليلاتهم حينما حاولوا تقديم تبريرات للعمليات الإرهابية الجهادية نذكر هنا على سبيل المثال المفكر ميشال أونفري الذي يقول بأن فرنسا والغرب في حرب أعلنها جورج بوش متناسيا أن 3000 أميركي قد قتلوا في اعتداءات 11 سبتمبر. ويعتبر أنه مثلما تقتل داعش الناس الأبرياء، ففرنسا تقتل الأبرياء أيضا، فالغرب وداعش عنده سيان، برابرة ضد برابرة!
أما مواطنه طوماس بيكيتي عالم الاقتصاد الشهير صاحب الكتاب الضخم ذائع الصيت الصادر أخيرا “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” فقد اعتبر بعد اعتداءات باريس أن عدم المساواة في فرنسا هو سبب نجاح داعش والأصولية بصفة عامة. وأظن أن هذا العماء يمس أغلب مثقفي أوروبا، ألم يصف الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك أحداث 11 سبتمبر الدامية بأنها مجرد “إزعاج بسيط”؟ أما المتفلسف النيو-ماركسي السلوفيني سلافوي جيجك فيرى أن الأصولية الإسلامية قد تبدو ربما رجعية ولكن قد تكون أيضا مجالا يمكن أن تنطلق منه شكوك نقدية إزاء مجتمع اليوم. ويضيف غير خائف من سخرية الواقع من هذيانه أن الدين غدا فضاء المقاومة.
ويذهب البرتغالي جوزيه ساراماغو صاحب نوبل للآداب سنة 1998 مذهبا تافها حينما يعتبر أن قذف طائرتين على البرجين في نيويورك يمثل ثأرا ضد الإذلال. أما الإيطالي داريو فو صاحب جائزة نوبل للآداب أيضا سنة 1997 فقد صرح عقب أحداث سبتمبر “يختفي المضاربون بين ثنايا اقتصاد يقتل كل سنة عشرات الملايين من الناس فقرا، فما أهمية 20.000 قتيل بنيويورك ولا يهم من كان وراء المذبحة، فهذا العنف هو ابن شرعي لثقافة العنف والجوع والاستغلال اللاإنساني.”
وهو انتحار طبيعي للديمقراطية الرأسمالية في رأي هؤلاء الذي ينظرون إلى الإرهاب كتمظهر لغضب البطالين ويعتبرون الكلاشنكوف “سلاح الفقراء”، سلاح البروليتاريا الرثة التي سحقتها غطرسة العولمة الغربية! ومنذ جريمة 11 سبتمبر في أميركا ووصولا إلى المذابح المرتكبة على الأراضي الأوروبية الأخيرة قدّم المثقفون اليساريون المقتولين والمجروحين كمجرد ضحايا جانبية للحرب الدائرة بين “النظام العالمي الجائر” والمعذبين في الأرض الذين يطالبون بحقوقهم.
وتبقى قائمة التائبين عن العالمية العائدين إلى ذهنية الاستشراق طويلة جدا. هم يعيشون اليوم شبه ردة وتقاعس واضح أمام صعود الحركات الإسلامية المتطرفة ثم الإرهابية المتفشية في أوروبا ذاتها. ولكن أليس هم الذين شجعوا الانعزاليات الثقافية في الغرب؟ ألم تتغير نظرتهم للمرأة وحقوقها تحت ضغط وتهديدات الأصوليين الإسلاميين ومراوغاتهم إذ كانوا ينادون بعالمية تلك الحقوق لتشمل كل نساء الأرض وأصبحوا اليوم يروجون لنسبية ثقافية تؤبد الظلم وعدم المساواة بين الرجل والمرأة خارج الغرب بل في عزّ الغرب حينما يتعلق الأمر بنساء ينحدرن من ثقافات غير أوروبية.
والأدهى والأمر أن بعض المثقفين اليساريين قد أقنعهم طارق رمضان وغيره من الإخوان أن من ثقافة المسلمين اللامساواة بين المرأة والرجل وكذلك ارتداء الباروكة والانعزال وغيرها. وبتنا نرى بعض زعيمات الحركة النسوية الأوروبية والأميركية يمارسن خطابا لا يختلف كثيرا عن خطابات أعداء تحرر المرأة. لقد انخرطن في ذلك التيار من اليسار الذي وصل إلى القناعة بعدم إمكانية تغيير العالم فبدأ يطالب بضرورة قبوله كما هو والتحاور مع الجميع وغض الطرف عن المصاعب والحقائق المزعجة. تقف عوائق نفسية ومعرفية ومنهجية كثيرة أمام فهم اليسار بصفة عامة للمسألة الأصولية وهي عوائق كثيرا ما أضلت أغلب الغربيين سواء السبيل وجعلتهم يعجزون عن إدراك ما يحدث فيتصرّفون ضد مصالحهم وإن لم يشعروا: لقد تحول التنوع الذي كانوا ينشدون إلى كابوس أصولي يقض مضاجعهم.
كاتب من الجزائر
العرب