أميلي نوثومب: الكتابة هي الحياة
ابتسام جدير
ولدت أميلي نوثومب بكوبي، باليابان سنة 1967. وقد قضت طفولتها ومراهقتها بعدد من البلدان انتقل إليها والدها سفير بلده بلجيكا: يتعلق الأمر باليابان والصين والولايات المتحدة الأمريكية واللاووس فبرمانيا ثم بانغلاديش تباعا. حلت ببلدها بلجيكا، للمرة الأولى، لما بلغت السابعة عشر من عمرها. تقول عن لحظة اللقاء: “عشت صدمة اجتماعية وثقافية وعزلة تامة، إذ لم أستطع أن أتواصل مع الشباب الأوربي. وأعتقد أنه بسبب هذا الضيق والقلق شرعت أكتب”.
منذ صدور روايتها (hygiène de l’assassin) خلال شهر شتنبر 1992، عرف كل دخول أدبي جديد صدور رواية لأميلي نوثومب. روايتها (le fait du prince)، التي صدرت سنة 2008 عن منشورات ألبان ميشيل، هي السابعة عشر. تقول عنها محاورتها “نزيهة، مؤدبة، تتمتع بقوة إلقاء ووضوح مذهلين”. ترجمت رواياتها إلى أكثر من أربعين لغة. هي الكاتبة التي قيل عنها إنها ليست في حاجة لدعم كتبها فهي تحطم أرقاما قياسية في البيع. من ذلك روايتها “رحلة الشتاء”. وضعتها عند الناشر في التاريخ الموعود، وكذلك نشرت في التاريخ الموعود: نهاية شهر غشت. كما هي العادة التي أصبحت تقليدا..
حوار: ماري-فرانسواز لوكلير
– هل ما زلت إلى الآن خَطَّاطة؟
– سأعرض عليكِ الأرقام: “le fait du prince” هي الرواية الواحدة والستون من كتبي، والثالثة والستون تُكتَب الآن. أكتب ثلاث روايات فاصل سبعة (7,3) رواية في السنة، الواحدة تلو الأخرى. خلال شهر شتنبر، أعيد قراءة كل ما كتبت خلال السنة وأختار ما يجب أن يُنشر خلال السنة التالية. أختار الكتاب الذي سينشر، دائما، من بين الكتب الحديثة. لا أعود أبدا إلى الأعمال القديمة.
– هل يعني ذلك أننا سنكون ذات يوم أمام فيض من الأعمال غير المنشورة؟
– لن أتوقف أبدا عن الكتابة والموت عما قريب ليس ضمن برامجي، لكنني اتخذت سلفا كل الإجراءات ومن ضمنها تلك المتعلقة بالوصية حتى لا تنشر أبدا أعمالي غير المنشورة. فليس من المستبعد أن أكون، قبل موتي، قد غرقت في النسيان وهو ما سيُسهل الأمر. وما دام يستحيل استبعاد أن يتذكرني بعض المجانين فقد تحصَّنت ضد ذلك، فأنا أدافع عن احترام سيادة إرادة الكاتب. حتى ولو أخطأ.
– ما الذي يتحكم في اختيارك؟
– لا المزاج يتحكم فيه ولا النفسية، بل رؤية عامة. أختار بحسب كتبي السابقة مع الرغبة في بلوغ حدود جديدة. إن الأمر يتعلق بالأرض، يشبه ذلك الأمر ما كان يقوم به نابليون حين كان يمسك بخريطة ويتساءل أي بلد سيقوم بغزوه في السنة المقبلة.
– تتحدثين مثل خبير بالخطط العسكرية؟
– بالطبع. أقول غزواً. لكن فيما يتعلق بالجمهور فالمقارنة لا تستقيم. سيكون جميلا جدا أو قبيحا جدا لو كان بالإمكان أن نعرف مسبقا ما الكتاب الذي سينال الإعجاب وإعجاب من؟ النشر غزو يتخذ شكل سؤال: من سأغزوه بهذا الكتاب؟
– كثير من الشباب، يمكن القول.
– ليس الشباب وحدهم. لكن يلاحظ أن الشباب هم الأغلبية لأن من طبعهم أن يلفتوا الأنظار إليهم.
– حين تختارين المسودة التي عليك تقديمها إلى الناشر شهر مارس المقبل، هل تعودين إلى الاشتغال عليها كثيرا؟
– لا. أشتغل كثيرا لحظة الكتابة، لكن حين تنتهي الولادة وأكون حاملا بالكتاب القادم، أي في اليوم التالي أعتبر أن الوقت قد فات. إذا لم أُفلح في أن استثمر في الكتاب كل الحب وكل العناية الضروريتين لحظة كتابته فمعنى ذلك أنه لا يستحق عناية كتابته. لا تقنعني ولا أومن بالتصحيحات التي نقوم بها فيما بعد. بالطبع، هناك دائما معارك صغيرة مع ناشري بشأن هذا التفصيل أو ذاك. لكن ذلك يتحول إلى ضرب من الدبلوماسية، السياسة…
– صفي لي يوما واحدا من أيامك…
– أخشى أن أكون مُقنطة لأن طقوسي لا تتغير. في الحقيقة، لقد أصبحت ذات إيقاع بيولوجي! أستيقظ كل يوم على الساعة الرابعة صباحا، ولو كنت متعبة فالآلة التي بداخلي تشتغل: أشرع في الكتابة، على دفاتر لولبية ذات مربعات صغيرة، أُعيد تصنيع ورقها. أكتب دائما بقلم “بيك” بلوري، مداده أزرق. ثم أردف ذلك بقراءة المراسلات، وبحسب الفصل بإجراء الحوارات. عدا ذلك، حياتي مليئة بالحب، والأصدقاء، والتبضع، وغسل الملابس، والأواني، وعندما أنام منتصف الليل أكون منهكة. ليالِيَ قصيرة جدا حتى أنني لا أعرف الأرق وأحلم أحيانا بالنوم. لكن لا يمكنني أن لا أكتب.
– من هو باتيست بورداف، بطل روايتك “fait du prince”؟
– إنه دجال. على إثر إحدى نوائب الدهر أو مؤامرة انتَحَل شخصية وما رآه/عاشه شيء لا يقاوم. لو كنت مكانه لقمت بالشيء نفسه. ثم قام باغتصاب هوية ميت، وهو أمر أقل خطورة: فليس للميت حاجة بهويته. والحقيقة، أعتقد أننا دجالون بدرجات تختلف، وخاصة الكتاب منا. على أية حال، أشعر دائما أني أقترف الدجل وأعيش حالة رعب عبثي خشية أن يوشي بي أحدهم. تكمن العبثية في أن كل الناس يعرفون أنني دجال لأنني كاتب. كيف يمكن أن أكون شيئا آخر؟ هناك شيء آخر، ربما، في الاسم الشخصي لباتيست فرض نفسه. عندما ولدت، كان والداي مقتنعين أنهما سيرزقان ذكرا سيسميانه جان باتيست. وبالنسبة لأنثى، لم يفكرا في الأمر من قبل… لكني أحب اسم أميلي، فهو يوحي بالخادمة المغناج، اللعوب.
– هل كنت من الأطفال الناضجين قبل الأوان، الذين يلقون بأنفسهم مبكرا في الكتابة؟
– لا. أنتمي إلى عائلة حيث يحظى الأدب بالاحترام، والكتاب يعتبرون آلهة. كيف كان يمكن أن أجرؤ على مقارنة نفسي بهؤلاء؟ وفي المقابل، كنت أحكي لنفسي دائما حكايات، وكانت في ذهني ملحمة. كان الأمر رائعا، كنت أحب أن أعتزل الجميع، كنت أختفي تحت ملاءة لأن القصة هناك تتقدم بشكل أحسن. ثم لما بلغت الثانية عشرة لم يعد هناك شيء من كل ذلك. ساد الصمت. توقف الحكي. بدا لي كأن الأمر يتعلق بسقوطٍ ما، فقدان هوية، كأنني أصبحت أجزاء بينما في السابق كانت هذه الحكاية المستمرة توحدني. لما بلغت السابعة عشرة، قرأت نيتشه وريلكه. وكان إلهام: فهمت أن السؤال طرح بطريقة مغلوطة. نعم، لي الحق في الكتابة ليس لأنني موهوبة بل لأن ذلك يشكل ضرورة حيوية. فشرعت أكتب، وبأعجوبة عادت الحياة للحكاية عبر الكتابة. والحياة جميلة جدا معها. عمري الآن واحد وأربعون سنة [هي في الخمسين الآن]، معنى ذلك أنني أكتب منذ أربع وعشرين سنة من دون انقطاع، باستثناء صباح ذات يوم أحد قررت النوم أو القراءة في الفراش كإنسان سوي. كان الأمر فظيعا، حيث شعرت بفقدان الحياة والاغتصاب. كنت في الثلاثين، ولم أعد إلى اقتراف ذلك الفعل.
– لم اخترت القيام بدراسات في فقه اللغة؟
– من أجل نيتشه الذي كان تكوينه في فقه اللغة. إنه إدعاء كبير أن أقول ذلك، لكنه كاتب، اكتسى أهمية كبيرة في حياتي، أعطاني هويتي. لقد بدأت بقراءة “كسوف الآلهة” ثم عثرت على هذه الجملة: “في مدرسة الحرب التي هي مدرسة الحياة، كل ما لا يقتلنا يجعلنا أقوياء أكثر”. شكلت هذه الجملة ما يشبه الصدمة بالنسبة إلي فقرأت كل أعماله واخترت دراسة فقه اللغة، التي تختم في ألمانيا وبلجيكا بشهادة تبريز خاصة. هذه الدراسة كانت توافق شخصيتي لأنني كنت شغوفة باللاتينية والإغريقية القديمة. وأنا ابنة السادسة عشرة كنت أتحدث اللغة اللاتينية.
– من أين جاءتك هذه الرغبة؟
– أنا ابنة رجل دبلوماسي، وبحسب تعيينه ونوبة عمله ببانغلاديش، بآسيا الجنوبية الشرقية تابعت دراستي عبر المراسلة. تمكنت من اختيار موادي المفضلة وتعميق التحصيل بكل حرية. ومخافة أن أبدو مثل رجعية مسنة، فقد هالني الذعر من اختفاء تدريس هذه المواد بالتعليم الثانوي والإعدادي. بالنسبة إلي، يتعلق الأمر بنوع من الزيغ. باعتباري كاتبة، فأنا مدينة للغة الإغريقية القديمة وللاتينية أكثر من كل ما استطعت دراسته خلال حياتي. إنها المدرسة الحقيقية لمعرفة علم التركيب والاقتصاد اللغوي. انفصال التركيب والإيجاز نتعلمهما هناك.
– ماذا كان موضوع أطروحتك؟
– “الأفعال اللازمة في كتابات [جورج] برنانوس”، وكان الأمر وقاحة من جانبي حقا. فلنبسط الأمور. أنتمي إلى واحدة من أكبر العائلات السياسية ببلجيكا التي جسدت على الدوام اليمين المسيحي. لما بلغت السابعة عشرة، نزلت بهذا البلد الذي لا أعرفه فاعترتني لحظة تراجع حين تعرفت على عماتي: قررت ولوج جامعة من دون إلاه بدل الجامعة الكاثوليكية. صُدمت عائلتي، والجامعة من دون إلاه، وتساءلت عن سبب الاختيار. ولتجاوز الحد اخترت “برنانوس” موضوع أطروحتي. فإذا كنت أبحث عن وضع ركوب فرسين فسأعثر عليه في هذا الاختيار. المغزى من كل ذلك هو التالي: كنت وحيدة إلى درجة استثنائية خلال سنوات الجامعية. لقد عانيت بمرارة من كل ذلك، لكن، وبفضل ذلك، اشتغلت كثيرا.
– هل عرضت نفسك على التحليل النفسي؟
– لا. بالنسبة لحالتي، يتطلب الأمر كثيرا من العمل. إذا ما تمددت على الأريكة لن أنهض بعد ذلك.
– كيف تعثرين على عناوينك الرائعة؟
– “hygiène de l’assassin”، بياني الأدبي، روايتي الأولى المنشورة هي الرواية الحادية عشرة التي كتبت، كنتُ بدأتُ كتابة بياني الأدبي بالعنوان. قلت لنفسي يجب أن أكتب كتابا يحمل هذا العنوان. يجب علي أن أتدبر أمري. هي المرة الوحيدة. بالنسبة للكتب الأخرى، أتصرف مثل الأمهات بمنطقة الإسكيمو/القطب. لا أعرف بم سأحبل، أقوم بعملي وعندما يولد الطفل أعطيه اسما بحسب بدايته.
– هل تعانين من النقد الرديء؟
– ليس كثيرا. أولا لأنني فهمت على الفور أنه ستكون هناك نقود على تلك الشاكلة. ثانيا لأنني أقارنها بكلام لواحدة من جداتي كانت معروفة بكلامها المؤذي جدا. لما وصلت إلى بلجيكا، وعمري سبع عشرة سنة، كنت معقدة ولا أحس براحة داخل جلدي. لما رأتني، قالت لي: “يا صغيرتي، أتمنى أن تكوني ذكية، لأنك قبيحة جدا!” وكانت الصدمة رهيبة. لكن الجانب الإيجابي للأمر، فالنقد القذر –وقد وجهت لي بعض سهامه- يبدو لي شيئا لا قيمة له أمام أقوال جدتي… هذا كل ما في الأمر. إذاً، شكرا لجدتي!
ترجمة ابتسام جدير
ايلاف