شارع الشباب العربي المعاصر: نُذُر الأنواء العاصفة/ صبحي حديدي
«أصداء بيرسون مارستيلر» شركة متخصصة في العلاقات العامة واستطلاع الرأي، تنتمي إلى مجموعة MENACOM التي تنتشر في 107 بلدان، وتستخدم 135 ألف موظف، في أكثر من 2000 مكتب حول العالم. وترفع الشركة شعار «لا أحد يفهم الشرق الأوسط مثلنا»، متكئة في المقام الأوّل على استطلاعها السنوي حول رأي الشباب العربي؛ وتزعم أنها تسعى من خلاله إلى «تقديم صورة واقعية حول مواقف ووجهات نظر الشباب العربي، بما يتيح تزويد مؤسسات القطاعين العام والخاص ببيانات وتحليلات ميدانية تساعدهم في اتخاذ القرارات الصائبة ووضع السياسات السديدة». كذلك تعلن «أصداء بيرسون مارستيلر» أنّ استطلاعها هذا «يوفّر رؤى غير مسبوقة حول الشريحة السكانية الأكبر في المنطقة وهم شبابها الذين يصل عددهم إلى 200 مليون شاب وشابة».
استطلاع 2017 صدر قبل أيام، تحت عنوان «صورة واقعية حول آمال ومخاوف وطموحات الشباب العربي»؛ وتشير معطياته المنهجية إلى 3498 مقابلة، في 16 بلداً عربياً (دول مجلس التعاون الخليجي، مصر، الجزائر، ليبيا، المغرب، تونس، العراق، الأردن، لبنان، «الأراضي الفلسطينية»، اليمن)، لفئات عمرية تتراوح بين 18ـ24 سنة، بمساواة تامة بين الذكور والإناث. هنا أبرز نتائج الاستطلاع، مقتبسة بصفة شبه حرفية:
ـ انقسام الشباب العربي جغرافياً في نظرتهم للمستقبل، إذْ أنّ التفاؤل والتشاؤم تحدده المنطقة التي يعيشون فيها؛ والخلاصة هي أنّ التفاؤل في تراجع مستمر، وشباب منطقة الخليج العربي هم الأكثر تفاؤلاً حول مستقبل بلدانهم.
ـ الشباب العربي يطالبون بلدانهم بالمزيد من الاهتمام، والعديد منهم يشعر بأنهم لا يشكلون أولوية في سياسات حكوماتهم، وبالتالي: غالبية الشباب العربي تعتقد بأنّ على حكومات بلدانهم القيام بالمزيد لتلبية احتياجاتهم.
ـ الشباب العربي يرى بأن البطالة والتطرف هما من أكبر العقبات التي تعيق مسيرة التقدم في منطقة الشرق الأوسط.
ـ غالبية الشباب العربي تعتقد بأنّ نظام التعليم الحالي لا يؤهلهم لشغل وظائف المستقبل، وهذا خارج منطقة دول مجلس التعاون الخليجي بصفة محددة.
ـ الشباب العربي يرى بأن تنظيم «داعش» أصبح أضعف خلال العام الماضي؛ استناداً إلى شرائح تقدير تبدأ من «أقوى بشكل كبير»، وتنتهي إلى «أضعف بشكل كبير»، فضلاً عن خيار «بقي على حاله».
ـ يعتبر الشباب العربي أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معادٍ للمسلمين، وينظرون إلى عهده بمزيج من القلق والغضب والتخوف؛ كما يرون، في الخلاصة، أنّ انتخابه أكثر تأثيراً على المنطقة من ارتفاع أسعار النفط وخسارة تنظيم «داعش» لمناطق نفوذه.
ـ استطراداً، يتنامى العداء تجاه الولايات المتحدة؛ كما تعتبر غالبية من الشباب العربي أنّ روسيا، وليس الولايات المتحدة، هي الحليف الدولي الأكبر للمنطقة.
ـ في الأبعاد الثقافية، ورغم اعتزازهم بلغتهم الأمّ، تقول غالبية من الشباب العربي أنها تستخدم اللغة الإنكليزية أكثر من العربية. يُشار، في هذا، أنّ شباب دول مجلس التعاون الخليجي يعتبرون اللغة العربية مكوناً أساسياً لهويتهم الوطنية.
ـ الـ»فيسبوك» هو المصدر الأوّل للأخبار اليومية عند الشباب العربي، وذلك على حساب القنوات الإخبارية التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والصحف المطبوعة.
ثمة، بادئ ذي بدء، غياب واضح لرأي الشباب السوري، لا يبرره ـ إلا قليلاً فقط، ربما ـ أنّ ظروف البلد لا تسمح باستطلاع رأي هؤلاء الشباب. الأرجح أنه كان في وسع فرق الاستطلاع أن تستفتي عيّنات من آراء هؤلاء الشباب في دمشق العاصمة مثلاً، أو في مناطق تتمتع باستقرار أمني أعلى، في مدينة مثل اللاذقية على سبيل المثال، رغم المظانّ المنهجية في خيار مناطقي مثل هذا. كذلك كانت النتائج ستنطوي على معطيات دالة، أو بالغة الدلالة في الواقع، لو أنّ أجهزة الاستطلاع وقفت على آراء الشباب السوري في المهاجر، القريبة أو البعيدة، في الأردن ولبنان وتركيا، ثمّ في أوروبا؛ مع تسويغ منهجي لهذا الخيار، كان ممكناً بدوره، وحمّال مغزى أيضاً.
هنالك، تالياً، ذلك النقص (الفادح، في يقيني الشخصي)، المتمثل في تحاشي طرح تلك الأسئلة التي تدخل في باب المسكوت عنه؛ مثل سؤال الطائفية، والمذهبية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسلطة، والاستبداد، والفساد، وما إليها. ومن الواضح، استطراداً، أنّ «أصداء بيرسون مارستيلر» تفضّل توفير الخدمات الآمنة، «الناعمة» إذا جاز القول، أو تلك التي لا تثير حرج السلطات العربية إجمالاً؛ إلا إذا كانت الشركة توفّر نموذجاً آخر من الاستطلاع، يحمل معطيات محظورة على اطلاع الجمهور العريض، خاصة بالمشتركين، أو بالجهات التي تعتزم شراء تلك المعطيات. ذلك لأنه ليس منطقياً، وليس من المقبول منهجياً في الواقع، أن تُطرح أسئلة التفاؤل والتشاؤم والعمل والبطالة والتطرف واللغة والهوية… دون أن تقترن هذه الملفات بأسئلة الطائفة والمذهب والسلطة؛ التي لم تعد منفصلة، البتة، عن هواجس المواطن العربي المعاصر، خاصة في أوساط الشباب.
ولعلّ من المفيد، هنا، العودة إلى دراسة رائدة بعنوان «الشارع العربي: الرأي العامّ في العالم العربي»، كتبها دافيد بولوك، وصدرت سنة 1992 عن «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط». هنا ثلاث توصيات، بين أخرى عديدة، خلص إليها بولوك:
1 ـ الشارع العربي ليس خرافة قوموية أو ثوروية أو رومانتيكية، بل هو موجود وقابل للقياس؛ فلا تتجاهلوه، ولا تقللوا من قيمته، قياساً على «عطالة» ظاهرية.
2 ـ الرأي العام العربي أبعد ما يكون عن التجانس والوحدة والثبات، حتى في مسائل متفجرة مثل الإسلام والديمقراطية؛ فلا تضعوا كلّ الرأي العامّ العربي في سلّة واحدة.
3 ـ النُخَب العربية جريحة بهذا القدر أو ذاك، في هذه الإشكالية الإيديولوجية أو تلك، هنا أو هناك، ولكن حذار… النخبة شيء (هامّ للغاية، بطبيعة الحال)، والشارع شيء آخر. لا تدعوا كوابيس الأحلام المنكسرة عند المثقف تحجب هدير الشارع في ساعات الصباح الأولى، أو نهايات يوم عمل شاق بحثاً عن اللقمة؛ وافتحوا كلّ العيون على المساجد والأزقة والمقاهي وملاعب كرة القدم.
وقبل سبع سنوات، لم يكن في وسع شبلي تلحمي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماريلاند الأمريكية، أن يتكهن البتة بأنّ سنة 2011 سوف تحمل معها بشارة انتفاضة تونس، أو انتفاضات العرب اللاحقة في مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا… وهكذا، كان استطلاع الرأي العام العربي، الذي يشرف على تنفيذه سنوياً لصالح مركز حاييم صبان، معهد بروكنغز، قد تجاهل تماماً مسائل الديمقراطية والتمثيل البرلماني وحقوق الإنسان والحرّيات العامة والدستورية؛ ولم يتطرّق، أبداً، إلى موضوع التحرّكات الجماهيرية وأشكال ومضامين الاحتجاج في الشارع الشعبي العريض.
أخيراً، قبل ثلاث سنوات، كان هوان كول، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وجنوب آسيا في جامعة مشيغان الأمريكية، قد أصدر كتابه «العرب الجدد: كيف يقوم الجيل الألفي بتغيير الشرق الأوسط»؛ فتحدّث بإسهاب عن شرائح الشباب العربي: مواليد الفترة بين أواخر 1970 ومطالع 2000، ثلث العالم العربي أو أكثر قليلاً؛ مدينيون، غالباً، ومتعلمون (وبالتالي ليسوا، بالضرورة، من فئة المثقفين!)، متمرسون في تكنولوجيا الميديا ووسائط التواصل الاجتماعي، والعديد منهم عملوا خارج بلدانهم الأصلية، وفي أوروبا وأمريكا تحديداً؛ كما أنهم، وهذا تفصيل هامّ في الواقع، أقلّ تديّناً من آبائهم، وأكثر انفتاحاً على العالم.
ولأنّ المجتمع العربي بين أكثر المجتمعات المعاصرة شباباً، فإنّ شارع الشباب العربي ليس أشدّ تعقيداً من معظم اختزالاته، السوسيولوجية تحديداً، فحسب؛ بل إنّ نُذُر منعرجاته لا تأتي، أيضاً، إلا على هيئة بروق ورعود و… أنواء عاصفة!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي