ألبيرتو مانغويل: الديكتاتورية والمثقفون/ عمار أحمد الشقيري
بترجمتين، واحدة عن لغة وسيطة هي الفرنسيّة، وأخرى عن اللغة الأصل الإنكليزية، صدرت رواية للكاتب والروائي الأرجنتينيّ ألبيرتو مانغويل إلى العربيّة، وفي حين مضت ثلاث سنوات على ترجمة العمل تحت عنوان “كل البشر كاذبون” للسوري منذر عياشيّ عن الفرنسيّة يطالعنا السوري أيضًا جولان حاجي بترجمة حديثة للعمل تحت عنوان “كل الناس كاذبون”. وليس في العنوان، إنمّا في مجرى الرواية ستختلف الترجمتان.
مانغويل، طالب بورخيس المجتهد، الموسوعيّ في القراءة، لكن ليس على طريقة معلّمه، لن يخرج في أجواء هذا العمل من حكايات الكتب والمخطوطات؛ فالعمل سيحكي سيرة مخطوط سافر من سجون الأرجنتين إلى أوروبا، سيرةٌ مُسندةٌ بحكاياتٍ عن مطاردة أكثر من ديكتاتوريّة لمثقفين من أميركا اللاتينيّة.
حكايات أخرى عن اللاجئين الأوروبيين إلى أميركا اللاتينيّة، والأميركيين اللاتينيين إلى أوروبا، حكايات يقدمها مانغويل نفسه مرةً، وعلى لسان آخرين مرّات، حيث لا يكتفي بوجه واحدٍ للسرد، يعتمد أسلوب تقشير الأحداث ليفكّ الحبكات نهاية العمل على مهلٍ كما يعمل الأسلوب في الروايات البوليسيّة، فيما شخصيّات مانغويل – حتى الجلادون منهم – يقرأون الأدب ويكتبون الروايات.
لا بدَّ من ثلاثة
في كثير من أعمال مانغويل (ثلاثيّة: تاريخ ويوميات القراءة والمكتبة ليلًا، في غابة المرآة، وبعض الروايات) لا بدَّ من ثلاثة مواضيع: ذكر بورخيس، المسألة اليهوديّة، والمثليّة الجنسيّة. وحمل العمل “كل الناس كاذبون” هذه الثلاثة مثل أعمال سابقة لمانغويل: اقتباس من بورخيس حيث السياسة “النشاط الإنسانيّ الأشدّ انحطاطًا”. مشاهد تحرّش العجوز الألماني شبنغلر بالشخصيّة الرئيسيّة ببيلاكوا فتيًّا، واليهوديّة حيث قبل أن تمضي ثلاث صفحات من العمل سيعرّف مانغويل (الأرجنتينيّ الذي يعتبر نفسه فرنسيًّا وسط الإسبان) نفسه كمولودٍ “في واحدة من المحطّات الكثيرة لنزوح مديد انتقل بعائلتي اليهوديّة من السهوب الآسيويّة إلى سهوب أميركا الجنوبيّة”. تعريف طارئ في العمل لن يقدم أو يؤخر فيما لو لم يزجه صاحب “أن تكون يهوديًا”.
“في مديح الكذب”
ظلّت فكرة سرد حكايات المختطفين والمعدمين من قبل الديكتاتوريّة الأرجنتينيّة في السبعينيّات تدور في رأس مانغويل، مؤمنًا وعلى طريقة الدون كيخوت بأن الكتّاب “يستطيعون بعث صيغة بدائيّة للعدالة”، وبأن فكر الإنسان مآله أن يكون أكثر حكمة من أكثر أفعاله وحشيّة. سيأتي سياق هذا التصور في مقال لمانغويل يرد فيه على يوسّا بعنوان جواسيس الله، يعرض فيه مسيرة المجازر والتملص منها من قبل سياسيي الأرجنتين وبعض مثقفي أميركا اللاتينيّة مثل يوسا، مستلهمًا إشارة شكسبير الذي كان يذكّر بما “كان للشعراء الإيرلنديين من سلطة لقتل الجرذان بضربات القوافي” حيث قطع مانغويل وعدًا على نفسه برواية حكايات هؤلاء المختطفين والمعذبين ليس لإحقاق الحق وحسب إنما بهدف أن يكون هذا الحق أمام الناس عن طريق الكتابة.
أوفى مانغويل بوعده، وها هو ذا وعبر “كل الناس كاذبون” يقدم حكاية من مجموع حكايات الاختطاف والإعدام رميًا في البحر للمثقفين والناشطين الأرجنتينيين في عهد الديكتاتوريّة والذين قاربوا “الثلاثين ألفًا”، ستأتي الحكاية هنا موازية لحكاية تتبع مخطوطاً في مديح الكذب سافر من سجن في الأرجنتين إلى مدريد.
فنيًّا، تبدأ الرواية بشخصٍ يحكي عن شخصٍ حكى من قبل حكايات واعترافات. أي أن الراوي (وهو مانغويل نفسه) يحكي عبر إحياء الحكايات من ذاكرة ميّتة، ذاكرة أليخاندرو ببيلاكوا، مرافق صانع الدمى الألمانيّ شبنغلر حفيد جار هيغل الذي “تبادل التحيّات مع جده مرة أو اثنتين”. ببيلاكوا السجين صاحب الحياة التي لا “ترقى بالمعنى الأدبي للكلمة، إلى أكثر من مجموعة من الشذرات والاقتباسات والأقاصيص غير المكتملة” غير أنها يُمكن أن تكون “منطلق رواية عظيمة من ألف صفحة”. ببيلاكوا المتظاهر السياسي لمرة واحدة، والطالب الجامعي، مدرسًا نهارًا، كاتب السيناريوهات ليلًا، الكاتب المجهول في مدريد صاحب رواية في مديح الكذب، التي لن تعود له في النهاية، والتي بعد أن أُعلن عنها بالصدفة مات صاحبها بعد أيام قليلة.
يستمر مانغويل باستدعاء ما في الذاكرة الميّتة عبر محطات الأرجنتين، مدريد، فرنسا، ولحين موت ببيلاكوا في ظروف غامضة، سيخفي مانغويل الشخصيّات الرئيسيّة ثم يسلّم آلة الحكي لسيدة تبدأ: “ألبيرتو مانغويل وغدْ، أيًّا كان ما رواه لكَ عن أليخاندرو”. بهذه الجملة سيبدأ الجزء الثاني من العمل، صفحة جديدة ألغت ما قبلها حيث “لا شيء صحيحًا بالنسبة إلى مانغويل ما لم يكن قرأه في كتاب”، وتتهمه بأنه عديم الانتباه إلى أي شيء، بسبب “إسرافه في القراءة”.
يُلغى مانغويل في الجزأين من العمل القارئ كمتلق لصالح صحافي (ترّاديوس) سيظل صامتًا ويقتصر دوره على الاستماع إلى مانغويل في الجزء الأول، والسيدة في الجزء الثاني. روائيان اثنان سيتناوبان على سرد تفاصيل حياة شخص حكى لهما من ذاكرته ما جرى. أو ربما روائيان يسردان حكايات شخص، كل من جهة، جهة الخير، جهة الشرّ، والقارئ، الصحافي (ترّاديوس) سيواصل صمته فيما تتحرك الحكاية مرة بصوت الذكر، ومرة بصوت الأنثى.
جزء ثالث
يبدأ الأسلوب البوليسي بالكشف شيئًا فشيئًا عن يوم مقتل ببيلاكوا، عودة في الذكرى إلى يوم اعتقاله في الأرجنتين رفقة إل شانشو أو أم إل سابو الذي يروي تفاصيل التعذيب من قبل “جزاري خراف الأحلام”. يبدو ذلك من خلال رسالة موجهة إلى الصحافي جان لوك ترّاديوس. من خلال هوامش جولان حاجي سيكتشف القارئ أن ترّاديوس هو رئيس تحرير مجلة فصليّة ثقافية في بواتييه تدعى L’actualité poitou- charentes، والتي أيضًا يشتغل مانغويل عضوًا في هيئة تحريرها.
يحيل مانغويل، لكن بشكل أقل، إلى كتّاب وفنانين كما فعل إنريكه بيّلا – ماتاس، وبحسب هوامش حاجي “يمثل الأدب بمؤلفيه وشخصيّاته محورًا أساسيًّا في معظم أعمال إنريكه”، حيث “روايته بارتلبي وأصحابه أشبه بموسوعة مصغرة لفنانين وكتّاب مهمشين في معظم الأحيان، اعتبرهم الكاتب مصابين بداء بارتلبي، وهي الشخصية الرئيسيّة في رواية هرمان ميلفل بارتلبي النسّاخ، الموظف المواظب على رتابة عمله وعزلته والرافض لأداء شيء آخر”. وببيلاكوا سيكون واحدًا من هؤلاء المصابين بداء بارتلبي على أية حال، حيث “ثمة مقطع في بارتلبي أنا على ثقة من أن بيلا – ماتاس يتكلّم فيه عن ببيلاكوا”.
الإحالات
يحفل العمل بعشرات الإحالات في تاريخ الأدب والفن، اقتباسات وإحالات من فرلين، خوليو كورتاثار، بلزاك، بودلير، هيغل، فيرجيل، تشايكوفسكي، مارسيل بروست، وحتى أغاثا كريستي، ومؤرخين يونانيين من ما قبل الميلاد، أعد كثيراً من هوامشها بجهدٍ استثنائيّ المترجم جولان حاجي. يظهر جهد حاجي في الترجمة من خلال عشرات الهوامش، حيث لا يكاد اسم علم أو عمل أدبيّ – وهو كثير في العمل – يظهر إلّا ويظهر معه حاجي شارحًا باقتصادٍ وبقدر ما يسمح له الهامش الضيّق.
ما الفرق بين كتاب يبدأ بـ “أإليّ تحديدًا يتجه الكلام عن أليجاندرو بيفيلاكا!” أو “أصارحك بالقول إنّي آخرُ من يتعيّن عليكَ أن تسألهم بخصوص أليخاندرو ببيلاكوا”؟
على طول العمل الذي بلغ 239 صفحة بترجمة جولان حاجي، و216 بترجمة منذر عيّاشي، لن نجدَ تطابقًا في أي صفحة، كما في البدايتين، لا بالمضمون ولا بصياغة الجمل، بل يُمكن التأكيد أن التباين طاول ترجمة الاقتباسات التي أوردها مانغويل في بدايات الفصول عن ميشيل دو مونتنيي أو مونتين: “أيّ حقيقة حدودها هذه الجبال إن هي إلّا أكذوبة لدى العالم القائم وراءها” بحسب حاجي أو “ما هو الكذب الذي يقوم في العالم بعيدًا عنه؟” بحسب عياشيّ.
ترجم عيّاشي العمل بعنوان “كل البشر كاذبون” عن لغة وسيطة هي الفرنسيّة، وترجم حاجي العمل تحت عنوان “كل الناس كاذبون” عن اللغة التي يكتب بها مانغويل وهي الإنكليزية.
يؤكد حاجي في حديث لـ”ضفة ثالثة” أنْ ليس هناك وقت ولا نية للقيام بالتدقيق أو المقارنة بين الترجمتين، ولا يجد حتى تبريرًا لهذا التدقيق أو المقارنة، لكنه يشير في نفس الوقت إلى أنَّ لدى دور النشر الفرنسية تقليداً تغيّر فيه أحيانًا العناوين الأصلية للكتب المترجمة، غير أنها استبْقَتْه في حالة “كل الناس كاذبون”.
يضيف حاجي أنه وفي أثناء تدقيق إحدى ترجمات روايات مانغويل للفرنسيّة لإزالة اللبس، قام بالعودة إلى الترجمة الفرنسية لتلك الرواية، فاكتشفت – والحديث هنا لحاجي – بالصدفة أن هناك سطورًا كاملة مغفلة في أحد فصولها (مثل هذا الإغفال طاول عددًا من الروايات العربية المترجمة، وهذا أيضًا موضوع آخر).
حول علاقة مانغويل بمعلّمه بورخيس يقول حاجي: “شبح الأستاذ لا يغيب عن أعمال التلميذ، وحضوره كأي مؤثر جوهري يزداد عمقًا وخفاء بمرور الوقت”.
ويضيف: “لكن لم يجرب بورخيس كتابة الرواية.. عزوفه عن الرواية لم يمنع ظهور سلالة كاملة من الروائيين في لغات وقارات مختلفة يمكن للنقد اعتبارهم بورخيسيين، والأمثلة في موجات ما بعد الحداثة أكثر من أن تُحصى”.
أخيرًا، في يوميات القراءة، وربّما بمزاج عكر، مثل المزاج الذي كان يصيب معلّمه بورخيس، سيعترف مانغويل أنّه كان “مثل كلب صيد هائج، ينبح على كل طيرٍ يراه، لاحقت كل شيء عدا ما هو مهم، يمكنني أن أتذمر بحق فمن هو في كل مكان، ليس في أي مكان؛ ذاك أنني مع الافتقار إلى منهجٍ جيد، قرأت كثيرًا من الكتب دون نتائج تذكر”؟.
يذكرنا هذا باعتراف لبورخيس في حوار مع الشاعر الأميركي ويليس بارنيستون: “هل تعلم، لست بذاك الكاتب على الإطلاق، لا مخيلة، لا أستطيع أن أبتكر شخصيات، ثمة شخصية واحدة فقط”. وكان يقصد على أيّة حال إحدى شخصيّاته التي تحمل ذاكرة لانهائيّة.
ضفة ثالثة
————————
ألبرتو مانغويل.. «لنبتكر العالم يا أخي»/ *رامي طويل
«دعني أقل إنّ مزاعم ببيلاكوا بأنّه ليس كاتباً لا تخلو من الحقيقة. كان يفتقر إلى الشرارة الخلّاقة الضرورية للرواية، أي ذاك التغاضي عمّا هو موجود، وذاك الاغتباط بما يمكن أن يكون. لم يكن يتخيّل. كان يرى ويوثّق الأشياء، وشتّان ما بين كليهما». بهذه الطريقة يصف ألبرتو مانغويل (كواحد من شخوص الرواية) بطل روايته «كل الناس كاذبون»، وبهذه الطريقة يعود الروائي الأرجنتيني ـ الكندي للتأكيد على أنّ الرواية فنّ بحث واستنباط للممكنات اللامرئية من الحياة الواقعية، وليست تسجيلاً للواقع كما هو.
يؤكّد مانغويل، في هذا العمل، على أنّه قارئ إلى جانب كونه كاتباً وروائياً، فمؤلف «تاريخ القراءة» يعود مجدداً لكتابة روايته بمزاج قارئ، لنراه يخلق عديد أصوات تروي حكاية أليخاندرو ببيلاكوا، الأرجنتيني المهاجر إلى مدريد هرباً من قمع الديكتاتورية، من دون السماح لروايته أن تقع في فخ الرواية السياسية، برغم إضاءتها على تفاصيل الحياة البائسة التي عرفها الأرجنتينيون إبّان وصول الديكتاتور فيديلا إلى الحكم في 1976. وهي ليست رواية سجون أيضاً برغم ما يسرده رواتها عن الفترة التي أمضاها ببيلاكوا في السجن، والتعذيب الذي تعرّض له. كما لا يمكن اعتبارها رواية عن اللاجئين، الذين كان ببيلاكوا وحداً من عشرات الآلاف منهم، اجتمع عدد لا بأس به منهم في العاصمة الإسبانية مدريد. ورغم توفّر حبكة بوليسية منسوجة بحرفة عالية، ومكتملة العناصر، من حادثة موت غامضة، إلى الشهود الذين يتوزّع عليهم السرد، إلى الصحافي الفرنسي جان لوك تراديوس، الذي يعمل على جمع الشهادات لكتابة سيرة وصفية لببيلاكوا «العاشق، البطل، الصديق، الضحية، الخائن، المؤلّف المنتحِل، المنتحر عرضاً…»، إلا أن «كلّ الناس كاذبون» ليست رواية بوليسية أيضاً. إنّها وباختصار، وكما أراد لها مؤلّف «عودة»، رواية حياة، تستحضر الممكنات اللامرئية في الواقع من وجهات نظر متعددة لأشخاص اختلفت رؤاهم وطرائقهم بتفسير ما يرونه، وراح كلّ منهم يروي الوقائع كحقيقة مدمغة تناقض تماماً ما يرويه الآخرون.
عاشق التفاصيل
الكاتب مانغويل، أندريا الحبيبة السابقة لببيلاكوا، مارثيلينو أوليبارس رفيق سجنه، وغريمه اللدود تيتيتو. أربعة أشخاص عرفوا ببيلاكوا عن قرب خلال مراحل حياته، اختار مؤلّف «عاشق مولع بالتفاصيل» أن يجعلهم ساردين للحكاية عبر خطابات يوجّهونها إلى تراديوس، المدفوع بحسّه الصحافي، بحثاً عن الحكاية الحقيقية لشخص يكاد يكون مجهولاً، استطاع اسمه أن يحتلّ غلاف كتاب (كمؤلّف) وجد حيزاً له في رفوف المكتبات. وفي حين يدّعي مانغويل (كواحد من الشهود) أنّه ليس الشخص المناسب للحديث عن ببيلاكوا، صاحب الحياة الضحلة التي لا ترقى لأن تكون أكثر من شذرات واقتباسات وأقاصيص غير مكتملة، نجده قد استحوذ على الجزء الأكبر من الرواية لسرد قصّته. بينما تصرّح أندريا عن قناعتها الراسخة بأنّ «ثمّة شاعر وروائي حقيقي تخفّى بإهاب رجل يظنّ الجميع أنهم يعرفونه»، وتتواصل تلك التناقضات مع كلّ الذين عرفوا ببيلاكوا، ليتمكّن مؤلّف «مدينة الكلمات» من تحويل حياة ببيلاكوا إلى ما يشبه لوحة متقنة الصنع، تذكّرنا ببعض أعمال سلفادور دالي التي كان يعتمد فيها كمّاً من التفاصيل تجعل الناظر إليها، بحسب الزاوية التي ينظر منها، يرى في كلّ مرّة مشهداً مختلفاً كليّاً عمّا يراه من زوايا أخرى، من دون أن يتمكّن من تحديد أيّ المشاهد التي يراها هي حقيقة اللوحة، التي تفصح عن شيء مختلف كلياً حين النظر إليها كوحدة متكاملة. ربّما يكون ما قاله إل شانشو لببيلاكوا أثناء وجودهما في السجن: «فلنبتكر العالم يا أخي، فهذا العالم لا وجود له في الواقع، أو لا ينبغي أن يكون موجوداً مهما تكن الظروف»، هو المفتاح لقراءة «كل الناس كاذبون» التي عمد مانغويل فيها إلى مقارعة لا واقعية العالم عبر رواية القصّة.
بين خيانتين
سبق أن قرأنا «كل الناس كاذبون» منقولة عن الفرنسية إلى العربية تحت عنوان «كلّ البشر كاذبون» (دار طوى – ترجمة منذر عياشي) وكنا أمام عمل أدبي يضجّ بركاكة تحول دون إمكانية التواصل معه، ما يعيدنا إلى فكرة وصف فعل الترجمة بالخيانة. لا شك في أنّ المترجم هو الجسر الضروري لعبور النص من مكان إلى آخر، ولكن ذلك لن يتمّ ما لم يولي المترجم عمله الجهد الكافي، والتعامل معه بأمانة وحياد بعيداً عن معتقداته الشخصية. على سبيل المثال، يُنهي مانغويل شهادته حول ببيلاكوا في ترجمة حاجي بعبارة «وأقول لنفسي: تخيّل. في يوم من الأيام كنتَ تعرف أليخاندرو ببيلاكوا»، لتتحول العبارة عند عياشي: «وقلت لنفسي حينئذ: الحمدلله لقد عرفت أليخاندرو بيفلاكا». الأمثلة متوفرة في كلّ سطر، إلى أن تبلغ حدود الخيانة الصارخة في الصفحة 164 من ترجمة عياشي: «كان يقول إن الإله الذي يلزمنا أن نمدحه بلا توقف هو إله محتقر (بالطبع، فإن المترجم يستنكر هذا بشدّة، وناقل الكفر ليس بكافر)» لم توضع العبارة بين قوسين في هامش لا داعي له أصلاً، بل وضعت في متن النص، ما يعني إقحام المترجم نفسه في عمل لا شأن له فيه، في استغلال سافر للنصّ الأصلي. هنا بالضبط مكمن الخيانة، وهو ما يُحسب للمترجم جولان حاجي في «كلّ الناس كاذبون» حين استطاع أن ينقل إلى العربية نصّاً مسبوكاً بعناية لغوية فائقة، وأميناً على النصّ الأصليّ، ليكون بذلك بمثابة الخائن الأمين.
صادرة عن «دار الساقي»، نقلها إلى العربية جولان حاجي
____
*السفير الثقافي